كتاب حياة وفن فيروز والأخوين رحباني في نسخته متعددة الوسائط: التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى – الباب الأول – الفصل الثالث

شعار كتاب الأغاني الثاني

الباب الأول
التحولات الكبرى تولد الإبداعات الكبرى
الفصل الثالث

رأينا في الفصلين السابقين، في إطار عرض التحولات الكبرى التي شهدها لبنان في النصف الأول من القرن العشرين، والتي رافقت ظهور فيروز والرحابنة فأثّرت في إطلاق إبداعهم، أن بيروت كانت جزءاً من شبكة المدن العربية، التي كان ما يغنى في أي مدينة منها، يجد صداه في المدن الأخرى، وأن بيروت لم تكن مركزاً منتجاً للغناء على امتداد تاريخها. ولكن القرن العشرين كان سيولد ظروفاً ستغير هذا الواقع تغييراً جذرياً: حرب عالمية أولى تغير خرائط الشرق الأوسط، وتأتي بسلطات انتداب غريبة، عندها مخزون حضاري مختلف، ولها أهداف مستجدة، كيانات تُقسَّم وكيانات تولد.

كان الانتداب الفرنسي، هو تلك القوة المستجدة في شمال بلاد الشام، فأنشأ لبنان الكبير، مكرساً ثنائية الجبل والساحل، التي ستتصارع طويلاً، وجعل بيروت عاصمة له، ما استدعى هجرة كثيفة من الجبل إليها، كما سعى لنقل عناصر ثقافية غربية إلى بيروت، واجهها أهل بيروت بالتمسك بتقاليد استقرت فيها منذ مئات السنين، وبانفتاح، موسيقياً، على المركز الموسيقي الجديد في شبكة المدن العربية: القاهرة.

بالتدريج، وعلى مدى 20 عاماً، بدأت بيروت بتبني دورها الجديد، ولم تكن عملية التحول الموسيقي سهلة، خاصة أن نتاج المركز الناهض في مصر، الذي حرضه القرن العشرون، ثري وغني ومسيطر.

في هذا الفصل الثالث من الباب الأول من مجلد حياة وفن فيروز، نلخص الظروف الاستثنائية التي ولَّدها القرن العشرون، والتي أدت إلى تغييرٍ جذري في عناصر اللغة الموسيقية التي كانت سائدة، كما نصف مراحل تشكل العناصر الجديدة، التي دخلت على الموسيقى العربية، عندما انتقل مركز الإنتاج فيها،  في نهايات القرن التاسع عشر، من بلاد الشام، ليستقر في القاهرة، لعقودٍ من الزمن، بحيث  أصبحت القاهرة تشكل المكون الأول للرصيد الفني على شبكة موسيقى المدن المشرقية.

نتوقف تالياً في ذلك الفصل عند مراحل خروج بيروت تدريجياً من تأثير حلب ودمشق، الأكثر قرباً ، لتدخل خلال النصف الأول من القرن العشرين، في إطار تأثير النتاج الجديد لمركز القاهرة الموسيقي، في إطار الشبكة الموسيقية للمدن العربية المشرقية، بتأثير التقنيات الجديدة العابرة للحدود، مع ممانعة واضحة، في البداية،  لتسرب فنون جبل لبنان إليها، قبل أن تؤسس تلك العناصر، إلى جانب عناصر اخرى، في منتصف خمسينات القرن العشرين، لتشكيل مركز جديد موازٍ  في بيروت، ستكون فيروز المحرض والناشر الأهم لنتاجه..

كما يعرض هذا الفصل لأغانٍ لفيروز ، وثقت للجسور بين مركز القاهرة وبيروت ، ومنها مثلاً أغنية زوروني كل سنة مرة لسيد درويش زوروني كل سنة مرة بصوت فيروز

فهرس الفصل
المشهد الأول
المشهد الثاني
المشهد الثالث
المشهد الرابع
المشهد الخامس
المشهد السادس
المشهد السابع
المشهد الثامن
وأخيراً


المشهد الأول: القرن العشرون

كان القرن العشرون عصراً لن يتكرر، صحيح أنه حفل بالتناقضات في مصالح الأقوياء، على جميع المستويات، سواء كانت دولاً أو محاور للنشاط الإنساني السياسي أو الاقتصادي أو العلمي أو الفني، وصحيح أن تلك التناقضات أنتجت حروباً على المستوى الدولي، ولكنها ولّدت تنافساً على المستوى الإنساني، فحفل العصر بالاختراعات العلمية والإنجازات التكنولوجية المتلاحقة، ولم تكن الفنون والآداب بعيدة عن كل هذا، فظهرت قامات كبيرة، رسمت بإنجازاتها ملامح عصر جديد، هو القرن العشرون.

ولكن ولادة القرن العشرين الحقيقية لم تكن مع نهاية القرن التاسع عشر، بل كانت مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، التي غيرت ملامح عالمٍ كان قد استقر على تفاصيله، لمئات خلت من السنين، إذ تفككت السلطنة العثمانية، وبدأت القوى الأوربية تحكم سيطرتها على العالم العربي، راسمةً حدوداً مصطنعة، ومشكلة دولاً جديدة.

ولما كانت التحولات الكبرى تولد الإبداعات الكبرى، فقد ترافق الواقع الجديد للعالم، مع بحث الكيانات المستحدثة، عن صيغ موسيقية جديدة، تواكب جديد القرن العشرين، وتعبر فيما تعبر، عن تفكك السلطنة العثمانية، الذي تزامن مع ولادتها هي، من خلال تفكيك العلاقة الموسيقية مع الأسلوب العثماني من جهة، وتطوير العلاقة مع النص العربي والتعبير عنه، من جهة أخرى، فيما وضع الوجود الأوربي في مصر، والذي حل مكان الوجود العثماني، المبدعين، في مواجهة مع تقنيات جديدة، ومع أنماط غنائية غريبة، تُعرض أمامهم، وتوسع آفاقهم الموسيقية واللحنية، وتدفعهم إلى تطعيم الغناء العربي بعناصر جديدة، وإلى التأثر بالتراث الموسيقي الأوربي الكلاسيكي.

وهكذا فقد بدأت تتلاشى ملامح الفنون التي كانت سائدة، وبدأت تنمو ملامح بيئة موسيقية جديدة، سترسمها خيوط نسجها عدد كبير من المبدعين، في الموسيقى والغناء والأدب والشعر، منهم سيد درويش ومحمد القصبجي، وأحمد شوقي وأحمد رامي وبيرم التونسي، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان ورياض السنباطي وزكريا أحمد وفريد الأطرش.

استفاد هؤلاء الكبار مما ولَّده العصر، من أدوات نشر وتصنيع للفن، من المسرح الغنائي، إلى الأسطوانة، والميكروفون، والإذاعة وصولاً إلى التسجيل، والسينما. ويمكن القول، من مقارنة ما تم توثيقه من غناء نهايات القرن التاسع عشر، مع غناء منتصف الخمسينات، بأن أربعين سنة عاماً تلت ولادة القرن العشرين الحقيقية حوالي العام 1918، حسبما سلف، كانت كافية للوصول إلى ذروة تطور الموسيقى العربية التي أنتجها مركز القاهرة.

تم ذلك من خلال قفزات نوعية متسارعة، بل ومفاجئة أحياناً، كانت تضيف في كل مرة عنصراً جديداً، سرعان ما يعم توظيفه، ليندرج في نسيج اللغة الموسيقية الجديدة. وفي الواقع فإن ما أتى بعد ذلك، وخلال عشرين عاماً تلت، كان شكلاً من أشكال التطور الطبيعي والمتوقع، نتيجة تغير الظروف، والتنافس الإيجابي بين مبدعين متعاصرين، وولادة مبدعين جدد، مع تخامدٍ واضحٍ في حركة الإبداع، بدأت تتضح معالمه بعد كارثة حزيران 1967، و الانتكاسة التي حلت بسببها بالفكر القومي العربي، وبحاملة رايته القاهرة، مركز بث الغناء الجديد على شبكة موسيقى المدن العربية، وما رافق ذلك، وبسبب الإحباط الذي عمَّ، من سيطرة للتقنيات على الإبداع الإنساني، الذي انخفضت نسبته في الناتج النهائي بشكل واضح، لصالح درجة من  التسطح، كانت تنمو باستمرار.

أفسحت التقنيات الجديدة في المجال، وإن وصلت متأخرة، لبحث مراكز أخرى في حواضر العالم العربي، منذ بداية الخمسينات، عن موطئ قدم، وقد كانت بيروت الأكثر جاهزية لذلك.

ومما غنته فيروز للتعبير عن هذا الترابط ،  أغنية خايف أقول اللي في قلبي لمحمد عبد الوهاب ، في أسلوب تقديم مختلف ، يعبر عن اختلاف الزمان والمكان والصوت ، وفيما قدمت حلب الناتج الوافد من القاهرة كما هو ، وضمته لمخزونها كما أسلفت ،  فإننا نجد أنه في بيروت ، كان يقدم دائماً بنكهة مختلفة ، وهو ما سنقف عنده  وعند أسبابه لاحقاً…   خايف أقول اللي في قلبي بصوت فيروز        عودة للأعلى


المشهد الثاني: مركز القاهرة – البدايات : المسرح الغنائي والأسطوانة -سيد درويش ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب

كانت الأسطوانة أول شكل من أشكال تصنيع الموسيقى، وتحويلها إلى منتج قابل للتسويق، مستفيدة من نمو الطبقة الوسطى التي أصبحت السوق المستهدف.  كان المنتج جاهزاً، وهو رصيد كبير من تراث طالما حفظته الأفئدة، وتعطشت للاستماع إليه، وهكذا استطاعت الأسطوانة تحفيز الاستهلاك، من خلال توفيرها ما كان يفتقده محبو الموسيقى منذ زمن طويل، وهو إمكانية اقتناء العمل الموسيقي أو الغنائي، وتكرار الاستماع إليه عدداً كبيراً من المرات، في طقس للاستماع مختلف عن أجواء الحفلات العامة، إذ ارتبط بالبيت والأسرة، وهو ما كان مستحيلاً قبلها. أسهم هذا مع الوقت في تهذيب لغة الغناء، من جهة، ولكنه، من جهة أخرى، قيَّد تسجيل التراث بقيود تقنية تتعلق بالمدة الممكنة لامتداد التسجيل، ما تسبب في تخفيف مرات التكرار، واختصار الارتجال.

أمّنت الأسطوانة انتشار سماع الغناء، حتى لدى شرائح لم تكن ظروف تقديمه السائدة، تسمح لتلك الشرائح بمتابعته، واستطاعت بذلك أن تجتذب تلك الشرائح إلى تذوق الأعمال الموسيقية والغنائية ذات السوية العالية التي حملتها، مما جعل الذائقة العامة للجمهور تتقارب.

بالمقابل، استطاعت الأسطوانة أخيراً أن تحفز الإبداع في عالم الموسيقى، نظراً لأنها خلقت السوق الذي يحتاج دائماً للجديد، ولكنها وفي تغليبها للاستماع الهادئ، وجهت ذلك الإبداع إلى مضامين رومنسية جديدة على المستمع.

كان سيد درويش، ومحمد القصبجي، سباقَين في المجالات التي تفتحت من خلالها فرص تميُّز القاهرة، وتحولها إلى مركز منتج للغناء، في شبكة المدن العربية. تركز التطور أولاً في نصوص مسرح سيد درويش الغنائي، بشكل مختلف تماماً عما استمعنا إليه من أغانٍ لسيد درويش، في الأسطوانات الأولى، إذ أسس سيد في مسرحه، مع بديع خيري وبيرم التونسي، لكلمة عبرت عن مضامين المسرحيات العابقة بالعواطف الإنسانية والانتقادات الاجتماعية.

استمر هذا المسار لاحقاً في الإذاعة، التي دخلت البيوت، وتابعتها العوائل مجتمعة، فارتقى مستواها، ثم في السينما، لضرورات التعبير الدرامي، فيما أسست نصوص أحمد رامي المغناة، لكلمة رومنسية راقية، عبرت عن ملامح عصر سيطرت فيه الرومنسية في العالم.

وكان لابد من أن يتجه التلحين للتعبير عن المضامين الجديدة،  فأدخل سيد درويش التعبير اللحني الدرامي عن المعاني، متأثراً بدوافع المسرح الغنائي، وأرسى في جدلية العلاقة بين النص واللحن والأداء، وفي سبع سنوات كانت عمره الفني، أسساً جديدة للعلاقة بين النص واللحن، ليكون التعبير عن النص، هو غاية الملحن في بحثه عن مسالك إبداعه، كما أرسى أسساً جديدة أخرى بين المغني والملحن، ليكون الملحن – المغني هو الذي يقود العملية الإبداعية في الموسيقى العربية، وليس المغني -الملحن كما كان الأمر قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كان الصوت المجلجل القادر هو المسيطر، وكان الارتجال التطريبي أساس اللحن المولود وفق اللحظة.

وفيما بعد غنت فيروز، من نتاج مركز القاهرة، عدة أغنياتٍ، وثقت للجسور بين مركزي القاهرة وبيروت، ومنها أغنية زوروني كل سنة مرة لسيد درويش

  زوروني كل سنة مرة بصوت فيروز

بالمقابل،  طور القصبجي دور الموسيقى في اللحن، وجعلها جزءاً مهماً في البناء الموسيقي .صحيحٌ أن  أول ملامح هذا الأسلوب ظهرت في مسرح سيد درويش الغنائي، من خلال أغنيات اعتُبرت بدايات المونولوج الرومنسي، دون أن يسعفه العمر ليكمل الطريق، ويكسي تلك البدايات بملامح التعبير الدرامي، ليأتي محمد عبد الوهاب ويتابع هذا المشوار، ولكن محمد القصبجي كان هو الذي أرسى، عبر الأسطوانة، ثم السينما، ملامح ذلك المونولوج،  مع عناصره الموسيقية المتطورة، التي حولت الأجزاء الموسيقية، أحياناً، إلى بطل من أبطال العمل الغنائي، في إطار اتجاهات رومنسية مطلقة، مواكباً في ذلك ، مع توأم روحه أحمد رامي، موجة رومنسية في الأدب، نشأت عندما ترجم أحمد الزيات رواية روفائيل للفرنسي لا مارتين، وآلام فرتر، للألماني جوته، وترجم أحمد زكي غادة الكاميليا، للفرنسي ألكسندر دوما الإبن.

وإننا بسهولة نلاحظ تواجد العناصر الموسيقية للمونولوج، في العديد من أغاني فيروز، وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً بالتفصيل، ومنها مثلاً قصيدة أحترف الحزن والانتظار، مع اختلاف مسار المعاني طبعاً، فالقصيدة هنا تعبر عن مشاعر وطنية تجاه فلسطين، وإن كانت لا تختلف في التوق إلى عزيز مفتقد!   أحترف الحزن والانتظار لفيروز

ولكن هذه الاتجاهات الجديدة، كانت بحاجة إلى أصوات رائعة لتجسيدها.

كانت أم كلثوم، وكان عبد الوهاب، الصوتين الرائعين اللذين أصبحا الناشرين الأهم لنتاج القاهرة الجديد. أم كلثوم بذكائها حرضت مواهب كبيرة في عالم التلحين على التنافس على صوتها، وعبد الوهاب، الذي أوصله صوته ليتحول إلى ملحنٍ لنفسه، بتحريض من أمير الشعراء أحمد شوقي، لتتكامل العناصر: نصوص وألحان وأصوات وتقنيات، ستبني مجد مركز القاهرة الصاعد بقوة، مع صعودها السياسي على مسرح أحداث العالم العربي.

       عودة للأعلى


المشهد الثالث : مركز القاهرة : إنطلاقة قوية ساندتها التقنيات

عبد الوهاب والبيانو في الصبا والجمال

عبد الوهاب والبيانو في الصبا والجمال

ولم تقصِّر التقنية في رفد الأصوات بما يسمح لها بالتعبير عن مكنونات النفس العاطفية، فجاء الميكروفون، إلى الإذاعة أولاً، ثم انضم للحفلات ثانياً، ليجسد فرصة لكل من اعتمد التعبير الوجداني عن المعاني والألحان، عندما تحول الغناء العربي من التطريب إلى التعبير اللحني عن المعاني الدرامية.

كانت القصيدة تغنى في مركز حلب مرسلة بدون إيقاع، مرتجلة من المطرب، وكانت تأخذ مكانها في سهرة الطرب بعد وصلة الموشحات، أو تكون أساساً لبناء موشح. في القاهرة بدأت القصيدة تأخذ مسارها لتصبح ملحنة على يد عبده الحمولي، مرسلة مرتجلة أولاً، كما في حلب، ثم مرتجلة يرافقها إيقاع في الخلفية لا علاقة له بها، إلى أن بدأ يظهر نوع من التزامن بين الغناء والإيقاع، مهد لدخول القصيدة عالم التلحين.

اعتمد الأسلوب التقليدي في تلحين القصيدة (قصيدة أراك عصي الدمع من ألحان عبده الحمولي و غناء أم كلثوم مثالاً، ثم قصائد أبي العلا محمد)  أن تمتد الجملة اللحنية على طول البيت الشعري الواحد فقط، دون أي تقاطع مع الموسيقى، مع تثبيت المقام الموسيقي على طول الجملة اللحنية ، فلا يتم تغييره إلا عند الانتقال إلى بيتٍ شعري تالٍ، مع جملة لحنية تالية، إن رغب الملحن في ذلك، كما اعتمد استقرارَ الجملة اللحنية في ختامها على درجة استقرار المقام، و على تموج تلك الجملة المشكلة من أصوات موسيقية متلاصقة، وفق إيقاع موسيقي محدد، مع  الالتزام في ذلك التموج بإيقاع اللفظ.

أراك عصي الدمع أم كلثوم ألحان عبده الحمولي

أتى هذا الأسلوب متوافقاً مع أسس جمالية في الشعر العربي القديم. فالصورة الجمالية في الشعر العربي تبدأ بالبيت الشّعري وتنتهي به، فيما تكون للبيت التالي صورة جمالية أخرى، وعندما يُضطر الشاعر لبيتين لكي يُعبّر عن صورة جمالية واحدة، كان هذا يُعَدّ ضعفاً في الشعر العربي. وهكذا فقد اعتمد الأسلوب التقليدي في التلحين على أن يكون لكل بيت شعري جملته اللحنية الخاصة، وهذا يبيّن مدى العلاقة المتينة بين الموسيقى العربية والشعر العربي.

ولكن الأسلوب التجديدي سرعان ما خرج عن هذه التقاليد، إذ اعتمد أن تمتد الجملة اللحنية لتغطي أكثر من بيت شعري، وأن تتموج في انتقالات صوتية متباعدة، كما أمكن تغيير المقام الموسيقي ضمن الجملة اللحنية الواحدة، مع الحفاظ على إيقاع اللفظ في تلحين القصائد، والخروج عنه في تلحين النصوص بالعامية.

اعتمد الأسلوب التجديدي أيضاً على التعبير عن المعاني الواردة في النص، من خلال تضاريس لحنية معبرة، على مستوى الكلمة الواحدة، و على مستوى الجو العام، فيما تقدم أكثر في الجملة اللحنية التي بنيت عليها المونولوجات الرومنسية، حيث تم تقطيع الجمل اللحنية حسب المعنى ضمن البيت الشعري الواحد، بما يعني تفكيك وحدة البيت الشعري الواحد، بل وحتى تفكيك إيقاع اللفظ، من خلال الامتدادات الصوتية التي تبرز جمال الصوت، إضافة إلى تضمين اللحن تغيرات إيقاعية، وتوترات داخلية، وتناوباً أو تتالياً بين الغناء المرسل (بدون إيقاع) والموقّع، فيما تتكثف الجرعة الموسيقية، من خلال لوازم موسيقية حيوية، ومقدمة موسيقية معبرة .


سيطر في الألحان الجديدة بناءٌ محدد، وهو البناء المدوَّر، سواء أكان النص بالفصحى أم بالعامية، حيث يأتي اللحن متسلسلاً، مع تكرار فقرات لحنية في سياقه، تبنى على نص مكرر، أو على نص متغير، أو قد تتشكل من فقرة موسيقية.

حافظ التلحين بالفصحى أحياناً على البناء المطلق، كما في سير القصيدة الشعرية، حيث يأتي اللحن متسلسلاً لا تكرار فيه لأي فقرة لحنية، تتناوب فيه جمل لحنية مرسلة بدون إيقاع، مع جمل لحنية مبنية على الإيقاع، مع ذرى متصاعدة، وصولاً إلى ذروة اللحن.

وكان أن استفاد عبد الوهاب، من تطور دور الموسيقى في الأعمال الغنائية، ليسعى لإدخال آلات جديدة في الفرقة الموسيقية، تسهم في إضفاء عناصر تعبيرية جديدة، كالتشيللو والكونترباص والبيانو والكورنو،  مع إدماجها احياناً مع آلات تقليدية لتقديم أجواء جديدة، ونافسه فريد الأطرش في هذا المجال، مندفعاً في ذلك حتى تقديم مقدمات أوركسترالية متكاملة، كما في أغنية حبيب العمر عام 1946، فيما وظف السنباطي الآلات الموسيقية، في أساليب تعبيرية جديدة، تتجاوز رنينها وصداها، إلى تحويلها لتكون معبرة عن أدوار معينة في نسيج اللحن.

موسيقى حبيب العمر فريد الأطرش

وفي السياق ذاته، ظهرت بدايات الملامح الأوبرالية، بتأثير من عروض الأوبرا في دار أوبرا القاهرة منذ نهايات القرن التاسع عشر، أولاً في بعض أعمال سيد درويش، ثم تمظهرت بشكل أوضح في أعمال عبد الوهاب، ولكن النقلة الأخيرة كانت مع أسمهان، عندما وظَّف محمد القصبجي صوتها ليكون آلة ضمن الآلات الموسيقية، كما في أساليب غناء الأوبرا، وأصبح المقصود إحداث التأثير عن طريق اللحن والصوت لا الكلمات، حيث تحول صوت أسمهان، في امتداده الزمني، إلى آلة موسيقية بشرية حقيقية.

تغريد البلابل – يا طيور أسمهان

   عودة للأعلى


المشهد الرابع : مركز القاهرة: مكانة الموسيقي في المجتمع

و كان أن تطورت مكانة الموسيقى في المجتمع، و بدأت الموسيقى العربية تجد مكانتها واحترامها، منذ أن عُقد مؤتمر الموسيقى العربية عام 1932، برعاية من الملك فؤاد الأول، ثم عندما أنعم  الملك فاروق على أم كلثوم بنيشان الكمال، فأصبحت تلقب «صاحبة العصمة »، لتسهم في تحقيق مكانة أوضح للغناء في مصر.

بالمقابل، أصبح محمد عبد الوهاب رمزاً لمكانة المغني في المجتمع أيضاً،  منذ أن رعى أمير الشعراء أحمد شوقي دخوله إلى المجتمعات الراقية وعالم المثقفين، وعلَّمه دروساً هامة في الحياة، فأصبح يغشى القصور، ويثبت مكانته الفنية والثقافية أمام جمهور تلك المجتمعات، من خلال الاقتباس من موسيقى غربية أحبوها واحترموها، ثم أكد ذلك إذ لبس وفرقته «السموكنج » في الحفلات، وأصبحت فرقته الموسيقية أكبر، إلى أن عزف البيانو بنفسه أمام الكاميرا، ناهيك عن رفضه لبعض العادات الاجتماعية، التي كانت تعامل الفرقة الموسيقية معاملة مختلفة عن معاملتها للمطرب.

    عودة للأعلى


المشهد الخامس : مركز القاهرة :الإذاعة

كانت الإذاعة المصرية المنتج الأول للأعمال الغنائية، في إطار الصورة التي ترسمها الدولة. تولى إدارة الإذاعة موسيقيون مخلصون، رسموا للإنتاج الغنائي طريقاً واضحة، أفسحت في المجال لمواهب كثيرة لكي تجد لها مكاناً في الفضاء الغنائي، كان منهم رياض السنباطي، وفريد الأطرش، على سبيل المثال، كما أنتجت الإذاعة، إلى جانب إذاعات أخرى تنافست معها، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية، قوالب جديدة للغناء، فظهرت الأغنية الإذاعية، والبرامج الإذاعية الغنائية، ما كان نافذة واسعة لتحريض الإنتاج الغنائي الجديد.

  عودة للأعلى


المشهد السادس : مركز القاهرة :السينما

فريد الأطرش والأوركسترا في حبيب العمر

فريد الأطرش والأوركسترا في حبيب العمر

ولم تقصِّر السينما، إذ سعى مخرجو الأفلام، إلى تقديم قصص تعبر عن روح العصر، كما أسهمت الدراما التي تبنى عليها قصص الأفلام، في تطوير التعبير الدرامي في الغناء، حيث أصبحت الأغنية جزءاً من التعبير الدرامي عن أحداث الفيلم.

كان محمد عبد الوهاب أول من أرسى ملامح الأغنية السينمائية، اعتباراً من فيلمه الأول «الوردة البيضاء»، من خلال المونولوجات الوجدانية الرومنسية، والحواريات والأغاني التعبيرية، كما عالج فريد الأطرش اعتباراً من فيلم «انتصار الشباب»، وجود أكثر من جمهور، بين مشاهدي السينما، كجمهور الطرب، وجمهور الأغنية الشعبية، وجمهور الاستعراض، على سبيل المثال لا الحصر، إذ حفل الفيلم، وما تلاه من أفلام غنائية، بمختلف الأشكال والقوالب والعناصر المتضادة والمنسجمة في آن واحد.

كان هذا في إجماله استمراراً للتعبير في المسرح الغنائي الذي طوره سيد درويش في مصر، وتبعه فيه زكريا أحمد، إذ عزز ظهور السينما الحاجة إلى ظهور التعبير، والتمثيل، والمحاورة، كما فرض الإيقاع السينمائي والمضمون الاجتماعي عناصرهما على ملحن الأغنية السينمائية.

ولما لم يكن من الممكن تقديم الحياة المعاصرة بدون عناصرها المنفتحة على الغرب، فقد حفلت الأفلام بالأغاني الراقصة، المبنية على إيقاعات التانغو والرومبا والفوكس تروت والبوليرو، والآلات الموسيقية المترابطة معها، كالأكورديون، لتصور مجتمعاً يتلاءم مع ما كان يقدم في قصور الملك والنبلاء في القاهرة، كما تطورت الفرقة الموسيقية، مع اتخاذ الفرقة الشكل السيمفوني، ومضامين المقدمات الموسيقية، كما أتت في المقدمات الموسيقية لأعمال فريد الأطرش الكبيرة.

وفيما بعد غنت فيروز العديد من الأغاني على إيقاع التانغو، ومنها لا تنسني عاد الربيع لفيروز

لا تنسني لفيروز        عودة للأعلى


المشهد السابع : مركز القاهرة : البث عبر العالم العربي

نعم، أتت التقانات الجديدة، كالأسطوانة والإذاعة والسينما والتسجيل والميكروفون، ثم التلفزيون، لتسهِّل النشر والتفاعل والتواصل والتكامل بين مركز القاهرة والحواضر العربية الأخرى، كما أسهم التدوين الموسيقي، في مزيد من الانتشار بين الموسيقيين. ولكن تلك التقانات الجديدة تسببت في شيوع تقليد نتاج القاهرة في الحواضر العربية الأخرى، لأنها استطاعت تطوير أنماط غنائية خاصة بها، كأغنية الأسطوانة الرومنسية، ثم الأغنية الإذاعية، والسينمائية، والمصورة، فيما تسبب تأخر وصول هذه التقانات إلى الأطراف، في أن تأتي إبداعات الأطراف، محلية، مع فارق زمني لا يسمح لها بتطوير ملامح خاصة بها.

بالمقابل، عمل المنتجون السينمائيون على تقديم أصوات من العالم العربي، وعلى تضمين الأفلام لأغنيات تعكس الألوان الغنائية العربية، بما فيها المحلية أحياناً، في ظل إدراكهم أنها ستشاهد في مختلف البلدان العربية، بل إنهم سعوا لتصوير بعض المشاهد، على أنها في بلاد عربية أخرى، بغية توسيع السوق، وإدماج الجمهور العربي أكثر ليكون شريكاً في ذلك الناتج.

    عودة للأعلى


المشهد الثامن : بيروت .. المركز الواعد

نور الهدى في فيلم مجد ودموع

نور الهدى في فيلم مجد ودموع

رأينا سابقاً أن بيروت لم تخرج عن السياق ذاته، في كون الفن فيها مرآة لما يجري في دمشق وحلب أولاً، ثم في القاهرة، ثانياً، وأنها لم تكن مركزاً من مراكز شبكة المدن العربية الموسيقية في يوم من الأيام، حتى ذلك الزمان.

وبعد أن كان الغناء في بيروت يقع في دائرة تأثير بلاد الشام، الدائرة الأولى المحيطة بها، وما يغنى في دمشق وحلب، من قدود وموشحات وأناشيد صوفية، ومخزونهما من ناتج القاهرة الأول، المندمج مع مخزون بلاد الشام الغنائي، فقد بدأ نتاج القاهرة الجديد بالوصول إلى بيروت مباشرة، من خلال موجات الأسطوانات التي كانت ترد تباعاً من القاهرة، أو ما تنشره شركة أسطوانات بيضافون في بيروت من نتاجها في القاهرة، ثم الأفلام السينمائية المبهرة بأغانيها، التي اجتذبت الأصوات اللبنانية والسورية الباحثة عن الشهرة.

كانت ألكسندرا بدران (نور الهدى) أول من اجتذبتها أضواء السينما، وإن كان من المفيد أن نذكِّر بأنها تعرفت بيوسف وهبي في حلب، وكان الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة طبيب الأسنان، ومؤسس ومدير إذاعة حلب ومؤسس ومدير معهدها الموسيقي لاحقاً، هو الذي عرَّف نور الهدى بيوسف وهبي، لتصبح نجمة الأفلام السينمائية طيلة فترة الأربعينات وبداية الخمسينات. كانت هذه بداية جيدة للأصوات القادمة من الشام، إذ اجتذب مركز القاهرة جانيت فغالي (صباح)، إضافة إلى لور دكّاش وسعاد محمد وفايزة أحمد ونازك وماري جبران ووديع الصافي ونجاح سلام ومحمد سلمان..


بنتيجة هذا التواجد اللبناني في السينما المصرية، وموجات الأغاني والأفلام المنهمرة، وبالتدريج، بدأت بيروت، خلال الثلاثينات والأربعينات تدخل في دائرة تأثير نتاج القاهرة الموسيقي والغنائي المباشر، وتنتقل إليها جميع عناصر اللغة الموسيقية الجديدة الموصوفة أعلاه، وكان من الطبيعي أن ينصهر في دائرة التأثير هذه من يأتي إليها. وهكذا لم تجد فيروز، كما أسلفنا، ما تغنيه أمام لجنة الاستماع في الإذاعة اللبنانية في عام 1949، إلا موال لأسمهان: يا ديرتي مالك علينا لوم، من ألحان فريد الأطرش في فيلم غرام وانتقام الذي عُرض عام 1944، وتانغو ” يا زهرة في خيالي ” لفريد الأطرش، من فيلم حبيب العمر الذي عُرض عام 1947.. نتاجٌ قادم من القاهرة، كانت قد حملته السينما، كما وجدنا أنها غنت لاحقاً، من ألحان حليم الرومي، وعلى نسق نتاج القاهرة، أغنيات نظمت بالعامية المصرية.

وبنفس التدرج الذي دخلت فيه بيروت، التي كان ترسخ فيها نتاج مركزي حلب ودمشق، في إطار تأثير مركز القاهرة الموسيقي، ولغته الموسيقية المتطورة، كانت تندمج بالتدريج، بفعل سلطة الانتداب الفرنسي، مع فنون الغرب، بألحانها السائرة عبر العالم، عبر الأسطوانات والأفلام الغنائية، في تحقيق لمقولات منظري لبنان الكبير، ودوره المستقبلي ، وخاصة في مسار تعريب الألحان الغربية، كما تندمج مع جبل لبنان، بلغته الموسيقية المندرجة في إطار شبكة موسيقى الريف الشامي، من حيث المبدأ، في إطار لبنان الكبير الذي أصبحت بيروت عاصمته، و الذي ضم الجبل والساحل، والريف والمدينة، في بوتقة واحدة.

كان لابد من أن يطلق التصادم الحاصل في حيز جغرافي ضيق، بين المنابع الثلاثة، ذات الأسس المتباعدة، والوافدة  جملة واحدة، مع ما استقر في أفئدة البيروتيين على مدى عقود من السنين ، شرارة إبداع، سيكون الأخوان رحباني، إلى جانب آخرين، المجسدين الرئيسيين لها، وستكون فيروز، إلى جانب آخرين، المحرض والناشر الرئيس لها.

من أغاني فيروز المعربة اخترت تانغو  من هنا حبنا مرَّ   من ألحان ادواردو بيانكو.

      عودة للأعلى


وأخيراً

فيروز في بداياتها

فيروز في بداياتها

بعد أن شرحنا عناصر اللغة الموسيقية الوافدة من القاهرة، التي سنتتبعها لاحقاً في نتاج مركز بيروت، ولكي نستطيع أن نجيب على الأسئلة الأساسية التالية، التي كنّا طرحناها: كيف ستتحول بيروت من مركز استقبال لنتاج مركز القاهرة الإبداعي المتقاطر يومياً، إلى مركز إبداعي جديد مواز لمركز القاهرة؟ وماهي العناصر المستجدة والوافدة، التي ستحقق لبيروت تميزها القادم؟  من الذي سيوفر لهذا المركز الجديد وسائل انتشاره عبر العالم العربي؟ ومن الذي سيدفع باتجاه الدور الجديد لبيروت، في الإطار الأشمل، لدور لبنان الكبير، الذي بدأ منظروه برسم ملامحه علناً؟  فإننا لابد لنا من التوقف عند المكوِّن الوافد الثاني: اللغة الموسيقية في جبل لبنان، التي ستفد إلى بيروت وستسهم في إطلاق شرارة الإبداع التي سنبحث في أسبابها وتفاصيلها.

كان من المنتظر أن تكون تلك اللغة الموسيقية ريفية، في إطار شبكة موسيقى الريفي الشامي، ولكنها في الواقع، لم تكن تماماً ريفية فقط، بل إنني أقول بأن التصادم الأول والأكثف بين لغات موسيقية متباينة، لم يكن في بيروت، بل كان، كما سنرى، في جبل لبنان!

    عودة للأعلى

د. سعد الله آغا القلعة


مقدمة وفصول الكتاب المنشورة

Tagged , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading