كتاب حياة وفن فيروز والأخوين رحباني في نسخته متعددة الوسائط: التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى – الباب الأول – الفصل الثاني – القسم الأول

شعار كتاب الأغاني الثاني

الباب الأول
التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى

الفصل الثاني – القسم الأول

 

عرضنا في الفصل الأول للأسباب التاريخية والسياسية والدينية، التي دفعت عائلة وديع حداد، لتهاجر في عشرينات القرن العشرين، من سورية، إلى جبل لبنان، ومنه، مع كثيرين من أهل الجبل، إلى بيروت، عاصمة الكيان الجديد: لبنان الكبير، الذي أنشأته فرنسا، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ولم يكن يحقق الإجماع.

وانتهى الفصل الأول إلى طرح السؤال:

هل سيتقبل أهل بيروت هذه الهجرة؟ وهل ستتمكن بيروت من صهر من يأتي إليها، وطبعه بطابعها السائد، ثقافة وفناً وغناءً وموسيقى؟ أم أن من أتى إليها سيغيِّر ما استقرت عليه الأوضاع فيها منذ مئات السنين؟

في الفصل الثاني، نعرِّف شبكة موسيقى المدن العربية، التي كانت تجمع حواضر العالم العربي، في شبكة تتناقل الرصيد الموسيقي، بشكل مستقل عن شبكات الموسيقى في الأرياف العربية، متوقفين عند دور حلب ودمشق في تحفيز النهضة الموسيقية في القاهرة، على الشبكة، وعند دور بيروت كمتلقٍ لنتاجها الموسيقي، والعناصر التي ستحول بيروت بالتدريج، لتكون مركزاً إبداعياً منافساً لمركز القاهرة، قادراً على بث نتاجه عبر الشبكة، من خلال أثير إذاعة دمشق أساساً، وهو النتاج الذي كانت فيروز، المحرض والناشر الأهم له.

كما نعرض لأغانٍ لفيروز وثقت لذلك، ومنها موشحي:  في ليالٍ، و اذكريني، اللذين بنيا على لحن موشح بالذي أسكر من عرف اللمى، من ألحان الشيخ أحمد أبي خليل القباني الدمشقي.

في ليالٍ بصوت فيروز

  حياة وفن فيروز – الباب الأول – الفصل الأول

الباب الأول
التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى
الفصل الثاني


فهرس الفصل الثاني
المشهد الأول: هجرة الجبل إلى بيروت
المشهد الثاني:شبكة المدن العربية
المشهد الثالث: مراكز الإبداع الموسيقي ونشره عبر شبكة المدن العربية
المشهد الرابع: مركز القاهرة – النهوض


المشهد الأول: هجرة الجبل إلى بيروت

هل كانت الصورة في بيروت، ملائمة لواقعها السياسي غير المسبوق في الحواضر العربية الأخرى، وهو تشكيل لبنان الكبير، من خلال ضم الجبل والسهل إلى الساحل، والريف إلى المدينة، في حيز جغرافي ضيق، واعتمادها عاصمة له، مع ما حمل ذلك من تناقضات، ولدتها هجرة أهل الجبل والسهل إلى بيروت؟

في الواقع، لم تشهد أي مدينة عربية هجرة مماثلة إليها من الريف إلى المدينة، كما حصل لبيروت، في ظل تشكيل لبنان الكبير. كان لابد من أن يؤثر ذلك في مختلف مظاهر الحياة فيها، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية،  إذ لم يتقبل أهل بيروت كثيراً هجرة أهل جبل لبنان إلى مدينتهم، خاصة أن صلات بيروت التقليدية كانت متشابكة مع دمشق، والمدن اللبنانية الساحلية الأخرى، كطرابلس وصيدا وصور. كان عمر الزعنّي، ضمير بيروت الحي، كما يقال، من أهم من عبّر عن ذلك.

الشاعر و المغني الانتقادي عمر الزعني

الشاعر و المغني الانتقادي عمر الزعني

كان عمر الزعنّي شاعراً شعبياً انتقادياً، عاش بين عامي 1898 و1961، ولقب بموليير الشرق، من خلال قصائده الانتقادية، التي كان يضعها باللهجة العامية المحكية، والتي كان يرصد فيها التحولات الاجتماعية العميقة التي كانت تعيشها بيروت، بعيد الحرب العالمية الأولى، وينتقد من خلالها أيضاً، سلطات الانتداب الفرنسي، ومساعيها لإحداث تغيرات كبيرة في نسيج بيروت الاجتماعي والثقافي.

وظّف الزعنّي معرفته بالموسيقى، والعزف على آلة البزق، لكي يقدم قصائده بأسلوب غنائي، يعتمد الأداء أكثر من الغناء الحقيقي، في مونولوجات انتقادية، كان يضع ألحانها أحياناً، ويبنيها أحياناً أخرى، على ألحان سائرة.

عندما بدأت هجرة أهل الجبل إلى بيروت، عاصمة لبنان الكبير الجديدة، غنّى عمر الزعنّي على خشبة مسرح الكريستال، في بيروت، واضعًا على رأسه طرطوراً، حاملاً صندوقَ الفرجة، ليتحسر على جمال الريف الذي ذهب، وليسْخرَ من التحوّلات التي جاءت بأبناء الريف إلى المدينة، وغيّرتْ أسلوبَ حياة البيروتيين، مغنياً:

شوف تفرج آه يا سلام  شوف احوالك بالتمام
شوف قدامك عجايب  شوف قدامك غرايب
يا حبيبي لو بتشوف  شوف أحوالك عالمكشوف
شوف جبال شوف وديان  سوريا وجبل لبنان كانت قطعة من الجنان
اما اليوم يا حسره الارض حفره ونفره ما فيها عشبة خضرا
يا حفيظ يا أمين من غدرات الزمان
الفلاح شلح التبان عاف السكة والفدان وراح تعين عند فلان
مغرور بحب الالقاب وما حسب للعزل حساب كان سلطان صار بواب
يا حفيظ يا أمين من غدرات الزمان


ومن المفيد أن نلاحظ أنه ، وفي سياق المونولوج ، ذكر سورية وجبل لبنان ، معتبراً بيروت ضمن سورية ، وهو الشعور العام المسيطر في بيروت في تلك الأيام .

وفيما بعد وثقت فيروز للعلاقة الخاصة بين بيروت ودمشق في أغنيات كثيرة ، منها قصيدة ” حملت بيروت ” للأخوين رحباني حملت بيروت لفيروز التي تقول فيها:

حملت بيروت في صوتي و في نغمي و حملتني دمشق السيف في القلم
فنحن لبنان وكر النسر دارتنا و الشام جارتنا يا جيرة الهمم
منها هنا نسمات المجد لافحة و من هناك رايات على القمم
أنا على الدرب يا وادي الحرير هوا بين الحبيبين ما قلبي بمنقسم
أفدي العيون الشآميات ناعسة بالنوم همت على حلم و لم تنم
هن اللواتي جرحن العمر من شغف و طرن بي نغماً يبكي بكل فم
قلبي من الحب كرم لا سياج له نهب الأحبة من ساه و من نهم
و يا هوا من دمشق لا يفارقني سكناك في البال سكنى اللون في العلم


بالمقابل انتقد الزعنّي التحولات في المجتمع الناجمة عن الانفتاح على الغرب فغنّى:

بيروت زهرة في غير أوانها *** بيروت ماحلاها ومحلا زمانها
بيروت يا حينها ويا ضياعتها *** تدبل على أمها وتموت بيروت

***

شرب العرق**لعب الورق** خيل السبق
صيد الجمال** رسمال بيروت
لبس الغوا**شم الهوا** أكل الهوا
شاغل عقول** شباب بيروت
أكل وشرب**ضحك ولعب**بسط وركب
بالتكسيات**حياة بيروت
الغندرا** والفنكرا**والبهورا
كثر البطر**هلك بيروت
ما في عمل**ما في أمل**برك الجمل
ركب النحس**تجَّار بيروت
إن كنت شفت**والا عرفت**زفت بزفت
زفت وقطران**أسواق بيروت
كونياك أوتار**ونبيد كومار**ويسكي سيتوار
بيره شامور**شحوم بيروت
طورشي وكوتي**الشيرآمي**والفلور آمي
والفلور دامور**بخور بيروت
البوبلين**والموسلين**والكريب دو شين
والكريب ساتان**أكفان بيروت
التكسيات**التراموات**والفاكونات
سكك حديد**توابيت بيروت.


وفي سياق مقابل، لم يكن أهل الجبل راضين عن الهجرة الكثيفة إلى المدينة، مع ما تؤدي إليه من تغيير في عادات وتقاليد المهاجرين، في ضوء انصهار القادمين إلى بيروت بأساليب الحياة فيها. ومن أهم ما وُثِّق موسيقياً في هذا المجال، اسكتش الضيعة والمدينة لصباح ووديع الصافي، الذي ورد في سياق فيلم ” انت عمري “، من أعمال عام 1964، ونقل ذلك الواقع بأمانة..


وفي الواقع .. لم تكن بيروت جاهزة لدورها الجديد.. لأنها كانت جزءاً من شبكة حضارية خاصة بحواضر العالم العربي ، هي شبكة المدن العربية.  عودة للأعلى



المشهد الثاني: شبكة المدن العربية

نعم.. لقد جاء المهاجرون من جبل لبنان إلى بيروت، ليجدوا مدينة كبرى، هي جزء من شبكة حضارية، تضم المدن العربية المشرقية الكبرى الأخرى، كدمشق وحلب وبغداد والقاهرة والقدس، تتشارك نتاجها الثقافي والحضاري، عبر شبكة مواصلات مباشرة فيما بينها، من طرق أو سكك حديدية، غير شاملة للأرياف والجبال والبوادي، تصهر كل من يأتي إليها، فيندمج في نتاجها الحضاري، يتعلم منه ويغنيه.

كان ما ينشر في إحدى تلك المدن يقرأ في المدن الأخرى، وما يُغنّى في إحداها، يجد صداه في شريكاتها في تلك الشبكة، فهل كان هذا ملائماً لدور بيروت الجديد كعاصمة للبنان الكبير، في ظل الأهداف التي بُنيَ من أجل تحقيقها؟ وهل كانت بيروت متلقية لمحتوى هذه الشبكة أم منتجة فيها؟

لنتوقف عند الغناء، وهو موضوعنا الأساس، الذي كان صورة من صور تلك الشبكة، له شبكته الخاصة، إلى جانب شبكات خاصة أخرى، للأدب والفكر ومختلف مجالات النشاط الإنساني. نعم، ما ينطبق على الغناء، كان ينطبق على مظاهر الحياة الثقافية الأخرى، الجامعة للمدن العربية.

كانت المدن العربية في المشرق، كحلب ودمشق وبيروت  والقاهرة والقدس وبغداد ، تتشارك غناءها وموسيقاها، عبر شبكة مواصلات ثقافية وموسيقية، مستقلة عن الأرياف والمناطق الجبلية، فيما يمكن تسميته موسيقى المدن العربية، (كما سميت لأول مرة في الأدبيات العربية في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي أقيم عام 1932  في القاهرة، في تقرير رئيس لجنة التسجيل الدكتور روبرت لاخمان)، تشترك في خصائص متقاربة، وتتطور بشكل متواز ومتفاعل، فيما يمكن مقاربته، في اللغة العربية، مع اللغة العربية الفصحى، مقابل اللهجات العامية المحلية.

ولكن أدوار تلك المدن عبر الشبكة لم تكن متماثلة، إذ كان منها ما يمكن أن نسميَه : مدن – مراكز إبداع وإنتاج و نشر، مثل دمشق و حلب  وبغداد، ثم القاهرة، ومدن – مراكز استقبال واختزان، مثل بيروت، والقدس، فيما يخص المشرق العربي،  وهو ما كان سيتغير في القادم من السنين، مع امتداد قدرات البث عبر الشبكة، إلى باقي المدن العربية في الجنوب والغرب، عبر الأسطوانات و الإذاعات والأفلام السينمائية.

لقد غيرت تلك التقنيات واقعاً مستقراً كان قد اعتمد تراثه الخاص، سواء أكان قد نشأ في مدن اليمن قديماً، وانتشر إلى مدن الجزيرة العربية، ليتزاوج في فترة صدر الإسلام،  مع غناء مدن الشمال العربي، وريثة الحضارات القديمة، فيما سمي الغناء المتقن ،  أو كان ورث غناء المشرق العربي  لاحقاً، كما تطور في الدولتين الأموية والعباسية، أو كان قدم من الأندلس إلى المدن في غرب العالم العربي  وشرقه، أو كان أثَّر و تأثر بغناء أقوام السلطنة العثمانية، لينتج كل هذا حصيلة فريدة، استقرت لأمد طويل، قبل أن  يفككها سيل من التحولات الكبرى، ولّد تلك التقنيات، وغيرها، كما سنرى!

بالمقابل، يمكن توزيع موسيقى الأرياف العربية، المستقلة عن موسيقى المدن العربية، على مساحات جغرافية أربع: في الشمال العربي، وهي الشبكة الشامية العراقية، وفي المغرب العربي، وهي الشبكة المغاربية، ثم شبكتان متجاورتان في الجنوب: المصرية السودانية، والخليجية اليمنية، تشترك كل منها بخصائص خاصة، مع تداخلات بين موسيقى كل ريف منها، و موسيقى المدن المتوضعة فيه ، تتركز في الضواحي الشعبية لتلك المدن ، فيما يمكن مقاربته مع اللهجات واللكنات العامية، المتشابهة والمتداخلة، في تلك المساحات الجغرافية.

بالنتيجة، وفي تلك السنوات، بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وحتى منتصف القرن العشرين، ما كان يغنى في حلب أو دمشق أو القاهرة، كان يجد صداه في بيروت والعكس صحيح، وكان الغناء السائد في بيروت، انعكاساً لمدارس الغناء العربي المشرقي في ذلك الوقت: مدرسة حلب الغنية بالقصائد والمواويل المرسلة، والموشحات والقدود الحلبية، المتصلة بمدرسة بدمشق، العابقة بالتواشيح الدينية والصوفية، ومدرسة بغداد بمواويلها البغدادية ومقامها العراقي، ثم مدرسة مصر الناهضة.

فيما بعد وثقت فيروز لهذا الواقع من خلال أغانٍ عابرة للشبكة وبتأثير من الشام مثل موشح : بالذي أسكر لأبي خليل القباني الذي بني على لحنه موشح في ليالٍ  موشح  في ليالٍ لفيروز   وأدمج الموشح الأصلي فيه ، كما قُدِّم لاحقاً أيضاً بذات اللحن باسم أذكريني ، اذكريني مع تطوير سنعرض له في وقته.


ولكن.. كيف نشأت شبكة المدن العربية؟ وكيف تشكلت مراكز الإنتاج والنشر فيها على مدى التاريخ؟  وكيف تداخل نتاجها مع نتاج الريف في السهل والجبل عندما ضمهما، إلى جانب البحر، لبنان الكبير؟

  عودة للأعلى


المشهد الثالث : مراكز الإبداع الموسيقي و نشره عبر شبكة المدن العربية

لنتفق أولاً على تحديد مستلزمات حدوث مرحلة حضارية جديدة، استناداً إلى ما سبقها، وعلى التطورات التي تحصل في منطقة، أورثت دورها الحضاري لمنطقة تالية.

يقودنا استعراض مراحل التطور الحضاري الإنساني على مر العصور، إلى استنتاج هام، يتجسد في أن الحضارة لم تكن إلا ضيفاً عابراً على تجمعات البشر، يستكين إليها لوهلة من عمر الزمان، قد تطول أو تقصر، إذ تدعوه لزيارتها، من خلال تفتّح خلاياها للمعرفة، ثم يغادرها، بعد أن يستولد هو نفسه عناصر تجفيف تلك الخلايا، تاركاً لكل تجمع إنساني، مهمة توثيق نهضته العابرة، لتكون أساساً لزيارة قادمة لذلك الضيف، إن حصلت، ومانحاً ذلك التجمع القابلية الأكثر حضوراً، لتتبع نتاج الحضارة الوليدة، في أرض أخرى، إن سعى لذلك. وقد أثبت التاريخ أن هذا الضيف العابر، غالباً،  لا يعود! وإن عاد، فسيكون ذلك بعد مرور فترة طويلة من الزمان، وكأنه في الواقع يعود لأرض جديدة!

بكلمات أخرى نقول، بأن الحضارة كانت دائماً ، كالبذور التي تنمو وتثمر في أرض مهيئة وبيئة صالحة، ثم تتغير الظروف، فتنتقل البذور، حاملة في خلاياها عناصر التطور الذي وصلت إليه، إلى  بلاد أخرى، هيَّأتها الأقدار لتكون أكثر ملاءمة للتطور، فتزاوج تلك البلاد بين ما وصلها، وبين عناصر وليدة فيها، بعد أن تكون الأرض  الأولى قد فقدت عناصر قابليتها لاحتضان التطور، بفعل عوامل معقدة، تختلف من زمن لآخر، ومن أرض لأخرى، فتحولت إلى صدى للنتاج الجديد، وإن كانت قابليتها لاحتضانه أقوى من قابلية أي أرض أخرى، لم يسبق للحضارة أن زارتها.

يمكن تطبيق هذا المبدأ على الامبراطوريات الكبرى في التاريخ، وكذلك على الشركات متعددة الجنسيات!

انطلاقاً مما سبق، يمكن الآن أن نتتبع انتقال العناصر الموسيقية من الشام والعراق وفارس واليمن، إلى منطقة الحجاز، مع بدء الفترة الحضارية الغنائية العربية الأولى فيها، والتي شهدت تزاوج تلك العناصر الموسيقية مع الشعر، ومن ثم انتقال تلك العناصر الغنائية الجديدة لاحقاً إلى دمشق، مع نشوء الدولة الأموية، فبغداد مع نشوء الدولة العباسية، فالأندلس، لتعود إلى الشام، والمغرب العربي، ومن الشام إلى أرض الكنانة، لتحط رحالها في لبنان، عنوان هذه الدراسة.

نعم، من أين أتت العناصر التي حرضت النهضة الغنائية في لبنان،  فأفسحت في المجال لولادة مدرسة لبنانية موسيقية جديدة؟

وإذا كان التاريخ قد حفظ لزرياب الدور الأساس في نهوض الموسيقى في بلاد لأندلس، عبر رحلته إليها، حاملاً معارف الشرق الموسيقية، فمن هم الأشخاص الذين حملوا العناصر الحضارية إلى المواقع الجديدة التي شهدت النهضة الموسيقية في الفترة المعاصرة: مصر ثم لبنان؟

ولادة الغناء العربي المتقن وانتقاله عبر الحواضر العربية وصولاً إلى بيروت

ارتبط الغناء العربي منذ نشأته، في شبه الجزيرة العربية، بالشعر، واكتسب منه في البداية إيقاعه، وهكذا كان الغناء في البداية إنشاداً محسناً للشعر، يداخله لحن بسيط، يحافظ على إيقاع القصيدة المغناة الشعري.

كنتيجة للفتوحات الإسلامية شمالاً وجنوباً، وُلد في الحجاز نمط غنائي جديد، سمي بالغناء المتقن، حقق التزاوج بين الشعر واللحن الوريث لألحان المدن – الممالك العربية القديمة، كما تطور في الشام والعراق، شمالاً، واليمن جنوباً.

كان رجال الأعمال من قريش، في فترة الخليفة الراشدي عثمان بن عفّان (رضي الله عنه)، قد اشتروا أراضٍ كثيرة في البلاد التي فُتحت، التي كانت أكثر خصباً وإدراراً للأموال زراعة وتجارة. رغب عثمان (رضي الله عنه) أن يعود هؤلاء للاستثمار في مكة والمدينة، بدلاً من الأمصار الأخرى، وأصدر أوامره بألا يبقى في تلك الأمصار إلا من كان له أرب بذلك، وأخصهم الجند. باع رجال الأعمال أراضيهم في الأمصار الجديدة بأثمان عالية لغناها، وعادوا فاشتروا الأراضي في مناطقهم الأولى، بأسعار متدنية، ولما كانوا قد بنوا ثروات طائلة، فقد استقدموا الكثير من العمال للبناء واستصلاح الأراضي، من الشام والعراق وفارس، فتطورت المنطقة، وشاع الترف، وشهد الغناء نمواً غير مسبوق، إذ كان من بين من قدِمَ، من كان يتقن الألحان السائدة في تلك البلدان.

بالنتيجة، حصل تزاوج بين الشعر العربي وتلك الألحان، وولد الغناء الذي سمي بالمتقن، مع طويس وسائب خاثر وعزة الميلاء، كنمط غنائي جديد، عكس رغبة الموسيقيين في التخلص من قيد الإيقاع الشعري، بسبب اختلاف الخلايا الإيقاعية الأساسية في الإيقاعين الموسيقي والشعري. وهكذا جاء اللحن في الغناء المتقن معتمداً على إيقاع موسيقي مستقل عن الإيقاع الشعري، ومركب بشكل ذوقي، وإن كان متوافقاً مع الإيقاع الشعري (لضرورة ألا يشذ اللفظ المغنّى في مدته الإيقاعية عما تعودت العرب أن تسمع )، في عملية تركيبية فطرية عجيبة، وصفها الفارابي في مؤلفه الهام “الموسيقى الكبير”.

وسرعان ما انتقل الغناء المتقن إلى دمشق، التي أصبحت عاصمة الأمويين، واحتضنت أولَ مركزٍ إبداعي موسيقي حقيقي تشكل لإنتاج الغناء المتقن، المتجسد أساساً في القصيدة الغنائية، بعد ولادته في الحجاز، وذلك بغية تقديمه في حضرة الخليفة، من قبل مغنين متنافسين.

عندما انهارت الخلافة الأموية، انتقل هذا المركز إلى بغداد، حاضرة العباسيين، حيث بدأت تظهر، إلى جانب الإبداع اللحني، تنويعات جديدة في العلاقة بين الإيقاعين الشعري والموسيقي، وتترسخ ملامح البحث الموسيقي والتعليم.

ترافق الوهن، الذي حل بالدولة العباسية، مع تشكل مركزٍ إبداعي موسيقي في بلاد الأندلس، استند إلى اللغة الموسيقية كما تم تطويرها في بغداد، وتمركز أساساً في قرطبة، فأنتج علاقة جديدة بين النص واللحن، أصبحت تعطي القيمة الأساس للّحن على حساب قيود النص الشعري، وتجسدت في النوبات والموشحات الأندلسية.

استمر هذا المركز في نشر إبداعاته حتى خروج العرب من الأندلس في عام 1492، حيث انتقل، عندما ضعفت القوة السياسية في العالم العربي وداخَلها التمزق، إلى مدن المغرب العربي، كفاس و تطوان وطنجة وتلمسان ووجدة وقسنطينة و طرابلس، عبر البحر، وإلى المشرق العربي، عبر طرق البر، إلى حلب، التي كانت قد أصبحت، عاصمة طريق الحرير، ونقطة تلاقي التجارة الأوربية، مع التجارة القادمة من الشرق الأقصى، فنمت قوتها الاقتصادية، وتحولت بالضرورة، إلى مركز الإبداع الموسيقي العربي المشرقي الجديد، بتحريض من التجار الأثرياء، فيما أصبحت القوافل التجارية، واسطة التفاعل والتكامل والنشر الموسيقي العربي.

فيما بعد، سعت إستانبول، عاصمة الخلافة الجديدة، لنقل التراث الموسيقي العربي المختزن في حلب إليها، بغية تكوين مركزٍ للتطور الموسيقي والغنائي الشرقي فيها (وليس الغنائي العربي بسبب اختلاف اللغة). استمر هذا المركز في إنتاج الجديد وفي التفاعل مع نتاج مركزي حلب ودمشق، حتى انهيار السلطنة العثمانية، مع استطالات زمنية، تسعى للحفاظ على تراث ذلك المركز ،وعلى نشره، حتى أيامنا هذه.

على التوازي مع نمو مركز حلب، استمرت الحواضر القديمة المشرقية الأخرى في اختزان ماضيها، ونشره قدر استطاعتها، مع استقبال ما تصدِّره حلب من أغانٍ وموشحات دنيوية الطابع، إن سمحت المسافات بذلك ، فاستمر اليمن مع الغناء الصنعاني و غناء لحج ، ناشراً نتاجه في شبه الجزيرة العربية ، واستمرت دمشق في تقديم تاريخها، ونتاج حلب، مع تحويله باتجاه الغناء الصوفي، لتشكل مع الوقت مركزها المختص في التواشيح والأناشيد الدينية، بعد أن أصبحت عاصمة الحج العثماني ، فيما استمرت بغداد مع مقامها العراقي، متبادلة أغانٍ كثيرة مع حلب.

أما الأندلس فقد استمر انتقال تراثه، بعد خروج العرب منه، إلى المغرب العربي وحلب مرة أخرى، ليتحول المغرب العربي إلى مركز اختزان للغناء الأندلسي القديم، وخاصة النوبات الأندلسية، دون أن يشكل لنفسه مركز نشر خاص باتجاه المشرق العربي، لافتقاده إلى مستلزمات ذلك، ما سمح لحلب أن تضيف إلى سمعتها، أنها أصبحت مركزاً لتطوير أصول الغناء الأندلسي في المشرق العربي، وخاصة في مجال الموشحات، مستفيدة من قوتها التجارية.

تميز السودان بلونه الخاص لاعتماده السلم الموسيقي الخماسي، ما أضفى عليه طابعاً محلياً صرفاً.

فيما بعد قدمت فيروز من إنتاج مركز دمشق : يامال الشام لأبي خليل القباني  يا مال الشام بصوت فيروز   ثم سجلتها لاحقاً بكلمات مختلفة:  موشح يا ليل الصبُّ، يا ليل الصب وفي الحالتين كان التسجيل مستنداً إلى تسجيلات قديمة للأغنية والموشح.

 

   عودة للأعلى


المشهد الرابع: مركز القاهرة – النهوض

الشيخ أحمد أبو خليل القباني

الشيخ أحمد أبو خليل القباني

استمر تأثير مركز حلب، حتى افتتاح قناة السويس، ومن ثم انفصال سورية عن السلطنة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، وفقدان حلب التواصل مع العراق، بسبب وقوع سورية تحت الانتداب الفرنسي، والعراق تحت النفوذ البريطاني، وما تلا ذلك من حرمان حلب من مينائها الأساسي (الإسكندرون) مع أوربا، بعد أن تخلت عنه سلطة الانتداب الفرنسي لتركيا، مقابل حيادها في الحرب العالمية الثانية.

بالمقابل،  استطاعت القاهرة أن تحتضن المركز الإبداعي الجديد، مع ولادة القرن العشرين، مستفيدةً من افتتاح قناة السويس، واستقطاب القاهرة لمبدعين وفدوا من الشام، مثل شاكر أفندي الحلبي في عام 1832، الذي سافر إلى القاهرة إبان حكم ابراهيم باشا المصري ابن محمد علي لحلب، والشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي، في عام 1884، بسبب اضطهاد مسرحه في دمشق، وكذلك أنطون وسامي الشوا وجميل عويس عازفي الكمان السوريين الحلبيين، وكميل شامبير الملحن الحلبي، وعثمان الموصلي ( كانت الموصل تاريخياً مترابطة مع حلب منذ أيام الدولة الحمدانية ) ، الذين نقلوا عناصر اللغة الموسيقية كما تطورت في بلاد الشام، ومخزونها اللحني المتراكم، عبر مئات السنين.

استفادت القاهرة أيضاً من زيارات مبدعيها إلى الشام، كزيارة سيد درويش، رائد التجديد في الموسيقى العربية والمسرح الغنائي في مصر، وإقامته فيها لما مجموعه عدة أعوام، اطلع فيها على عناصر تلك المدرسة الموسيقية الراسخة، وكذلك الزيارات المتكررة لسلامة حجازي، الذي أصبحت له زيارات سنوية إلى بيروت ودمشق وحلب، ابتداء من عام 1905، ولمحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وآخرين.

ترافق هذا التلاقح بين قدرات المبدعين، في بلاد الشام ومصر، في إطار شبكة موسيقى المدن العربية، مع شيوع الفكر القومي العربي، و تعاصر مبدعين مصريين كبار، مع مهاجرين إلى مصر من الشام، استطاعوا جميعاً توظيف التقانات الجديدة ، التي  شاعت في مصر، مع انفتاحها على الغرب، كالأسطوانة والإذاعة والسينما والتسجيل، في توليد أشكال غنائية غير مسبوقة، كالدور والمونولوج الرومنسي والأغنية الإذاعية والسينمائية، وفي تطوير لغة موسيقية جديدة، اعتمدت التركيز على التعبير اللحني عن المعاني، و على تحويل  الموسيقى لتكون جزءاً مهماً في البناء اللحني، مستفيدين من قوة أدوات النشر المصرية، إذاعةً واسطواناتٍ وأفلاماً سينمائية ، في تحقيق التواصل المباشر، عبر الحدود السياسية ، بين المبدع والجمهور العربي الناهض، وهو ما كرس القاهرة لتكون العاصمة الموسيقية للعالم العربي، خاصة مع شيوع تقليد الحواضر العربية الأخرى لنتاجها.

سنتوقف في الفصل التالي بشيء من التفصيل عند العناصر الجديدة التي ولّدها مركز القاهرة الجديد، لأنها ستندمج لاحقاً، مع عناصر أخرى وفدت إلى بيروت، على أيدي مبدعين، كان على رأسهم الأخوين رحباني، لتشكيل المدرسة الموسيقية اللبنانية الجديدة، التي كانت فيروز الناشر الرئيس لنتاجها، وكان صوتها، المحرض الأساس لولادتها ونموها.

وفيما بعد غنت فيروز من نتاج مركز القاهرة على شبكة موسيقى المدن العربية موشح يا شادي الألحان يا شادي الألحان لسيد درويش ، و فيما بعد تمت متابعة هذا المسار مع أغانٍ مثل أغنية زوروني كل سنة مرة زوروني كل سنة مرة من ألحان سيد درويش ، و أغانٍ مثل : خايف أقول اللي في قلبي خايف أقول اللي في قلبي ، ويا جارة الوادي يا جارة الوادي ، من ألحان الأستاذ محمد عبد الوهاب.


نتابع في القسم الثاني من هذا الفصل المشاهد التالية:
المشهد الخامس: المراكز الأخرى – التأقلم
المشهد السادس: مركز بيروت – التأثر قبل التشكل
المشهد السابع: مركز بيروت – إرهاصات التشكل: شركة بيضافون
المشهد الثامن: بيروت العاصمة الجديدة للبنان الكبير
بالنتيجة..


مقدمة وفصول الكتاب المنشورة

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading