كتاب حياة وفن فيروز والأخوين رحباني في نسخته متعددة الوسائط: التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى – الباب الأول – الفصل الأول

شعار كتاب الأغاني الثاني

الباب الأول
التحولات الكبرى تولِّد الإبداعات الكبرى

الفصل الأول

مقدمة الباب الأول

نعرض في هذا الباب الأول من كتاب حياة وفن فيروز والأخوين رحباني للتحولات الكبرى التي حلت بالمنطقة العربية، في بدايات القرن العشرين، بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، و لما سببته من توليد لإبداعات كبرى، على المستويات السياسية والفكرية و الأدبية والفنية عموماً،  و الموسيقية خصوصاً، تلك الإبداعات التي وجدت تجلياتها أولاً، في تثبيت موقع القاهرة، كمركز إشعاع موسيقي جديد على شبكة موسيقى المدن العربية، بعد تأثر مركز حلب، بفعل عوامل سياسية واقتصادية، جعلته يتحول لمركز اختزان للتراث الموسيقي العربي، وفي نشوء مركز بيروت، في مسار موازٍ لمركز القاهرة، غير مسبوق في تاريخ مراكز موسيقى المدن العربية.. إذ كانت المراكز، كما سنرى، تتتالى ولاتتوازى!

الفصل الأول

نعرض في هذا الفصل للأسباب التاريخية والسياسية والدينية، التي دفعت عائلة وديع حداد، والد نهاد حداد (فيروز)، لتهاجر في عشرينات القرن العشرين، من سورية، إلى جبل لبنان، ومنه، مع كثيرين من أهل الجبل، إلى بيروت، عاصمة الكيان الجديد: لبنان الكبير، الذي أنشأته فرنسا، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ولم يكن يحقق الإجماع! طارحاً السؤال: كيف ستصل نهاد، تلك الفتاة الوديعة، ساكنة بيت زقاق البلاط المتواضع في قلب بيروت، لتكون إحدى شهيرات العالم؟

فهرس الفصل الأول
المشهد الأول
المشهد الثاني
المشهد الثالث
المشهد الرابع


المشهد  الأول : عائلة نهاد حداد من ماردين في سورية  إلى الدبية في جبل لبنان

ماردين مدينة سورية، تقع ضمن أراضي ديار ربيعة، قرب تلاقي مثلث ديار ربيعة مع ديار مضر وديار بكر. كانت تتبع ولاية حلب في إطار الدولة الحمدانية، وكذلك السلطنة العثمانية، وأحياناً كانت تتبع متصرفية دير الزور. كان يعيش فيها سوريون من طائفة السريان الأرثوذوكس. مع افتتاح قنصلية فرنسية في حلب عام 1562، نشطت أعمال تحويل السريان الأرثوذوكس في ماردين إلى الكثلكة، من قبل القنصل الفرنسي في حلب. تكرس مسار السريان الكاثوليك، بين الطوائف المسيحية السورية، بعد انتخاب البطريرك أندراوس أخيجان المارديني بطريركاً للسريان الكاثوليك.

ماردين في ديار ربيعة خارج الحدود التركية التقليدية

ماردين في ديار ربيعة و خارج الحدود التركية التقليدية

عانى السريان الكاثوليك من اضطهاد السلطة العثمانية لهم، بسبب خروجهم عن الكنيسة الشرقية، التي يعترف العثمانيون بها دون غيرها، ما تسبب في لجوء بطريركهم مار أغناطيوس ميخائيل جروة إلى لبنان عام 1782، حيث كانت القبضة العثمانية أخف وطأة.

في عام 1828، ومع ضعف السلطنة العثمانية، وتزايد نفوذ الدول الكبرى، اعترفت السلطة العثمانية بالكنيسة السريانية الكاثوليكية، واستقر الكرسي البطريركي في حلب عام 1831، ثم عاد واستقر في ماردين عام 1850، بعد مضايقات من الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية في حلب.

خلال الحرب العالمية الأولى، تعرض السريان الكاثوليك، وكذلك السريان الأرثوذوكس وسائر المسيحيين، كما الأرمن، لمذابح من قبل السلطات العثمانية. حرَّض إقرار الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1920، نقل المقر البطريركي إلى بيروت في ذلك العام، فتجمع السريان الكاثوليك الفارين من المذابح، في لبنان، ومنهم عائلة وديع حداد.

هناك رواية أخرى توحي بأن العائلة رحلت أولاً إلى فلسطين ، ومن ثم إلى لبنان. من المحتمل أن يكون هذا ما حصل ، وإن كان إحداث البطريركية في لبنان ، وسيطرة فرنسا عليه من خلال الانتداب ،  يرجح أن تكون العائلة قد اتجهت إلى لبنان مباشرة، إذ لا أسباب منطقية توجههم إلى فلسطين، في ظل الانتداب البريطاني هناك، واستقرار بطركيتهم في بيروت.

هناك رواية أخرى أيضاً بأن أصل الأسرة من فلسطين، وينفي هذا ما سبق وبينتُه أعلاه، من أن التحول إلى طائفة السريان الكاثوليك ( طائفة عائلة وديع حداد ) جرى في ماردين، بمساعٍ من قنصل فرنسا في حلب، وأن تمركز هذه الطائفة بقي هناك حتى افتتاح البطركية في حلب، ثم عودتها إلى ماردين، ومن ثم انتقالها إلى بيروت.

بعد خسارة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى،  تم في عام 1923 ترسيم الحدود بين تركيا والمشرق العربي مجدداً،  من خلال معاهدة لوزان الثانية، ففيما تنازلت تركيا فيها عن مطالبها في جزر دوديكسانيا وقبرص، وفي مصر والسودان والعراق وسورية، وعن امتيازاتها في ليبيا، التي كانت حصلت عليها عام 1912، فقد حصلت بالمقابل على ضم أراض واسعة، عرفت باسم الأقاليم السورية الشمالية، كانت ثُبتت ضمن الحدود السورية في معاهدة سيفر عام 1920، وتضم من الغرب إلى الشرق، مدن ومناطق مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة وعنتاب وكلس ومرعش وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر، فكان أن سلخت ماردين من جذورها السورية، لتصبح منذ ذلك الوقت جزءاً من تركيا الجديدة ..

ماردين ضمن الحدود السورية وفق معاهدة سيفر 1920 / اللون الأحمر ، وخارجها وفق معاهدة لوزان 1923 / اللون الأزرق

ماردين ضمن الحدود السورية وفق معاهدة سيفر 1920 / اللون الأحمر ، وخارجها وفق معاهدة لوزان 1923 / اللون الأزرق


بعد تنقلات كثيرة، سكن أهل وديع حداد منطقة الدبية منذ عام 1923، وهي قرية لبنانية من قرى جبل لبنان المشرفة على سهل الدامور الساحلي، تبعد حوالي 20 كيلومتر جنوب بيروت، ولاحقاً تزوج وديع من صبية مارونية هي ليزا البستاني.

وفي هذه المنطقة الوادعة من جبل لبنان، وفي الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر عام 1935، ولدت نهاد حداد … فيروز.

فيروز وعمرها 12 سنة

فيروز وعمرها 12 سنة

فيما بعد وثقت فيروز لهذا التاريخ فغنت ترانيم باللغة السريانية ومنها مثلاً  ترنيمة سبحان الكلمة بالسريانية والعربية : ترنيمة سبحان الكلمة بالسريانية والعربية بصوت فيروز..

ملاحظة حول تاريخ ولادة فيروز:

تؤكد أغلب المراجع أن فيروز ( نهاد حداد ) ولدت في 21 تشرين الثاني / نوفمبر 1935 ، فيما تبين صورة لوثيقة للسجل المدني غير معتمدة بخاتم رسمي ، أن ولادتها كانت في 20 تشرين الثاني / نوفمبر 1934 .

صورة وثيقة غير رسمية تبين تاريخ ميلاد فيروز عام 1934

صورة وثيقة غير رسمية تبين تاريخ ميلاد فيروز عام 1934

ولما كانت السيدة فيروز قد قالت، في مقابلة أجراها الصحفي المصري محمد السيد شوشة معها، في عام 1956، بأنها من مواليد عام 1935، كما أن الاحتفاء بمولدها يتم دائماً في يوم 21 تشرين الثاني / نوفمبر من كل عام، بناء على أن الولادة كانت عام 1935، دون أن تعترض السيدة فيروز على ذلك، فقد تم اعتماد ولادتها في 21 تشرين الثاني / نوفمبر 1935، في هذا الكتاب.

عودة للأعلى

المشهد الثاني : نتائج الحرب العالمية الأولى : تقسيمٌ وانتدابٌ

كان جبل لبنان، عندما سكن وديع حداد مع أهله في إحدى قراه، يعيش، كما مختلف المكونات العربية في ظل السلطنة العثمانية، تحولات كبرى.

كانت الثورة الصناعية في أوربا، قد أدت في منتصف عام 1914، إلى تطور النزعة الاستعمارية لدى الدول العظمى، نظراً لحاجتها إلى مصادر للمواد الأولية وأسواق لتصريف البضائع. بالمقابل، تسبب بروز ألمانيا وإيطاليا اعتباراً من عام 1870، كدولتين قويتين، بعد تحقيق وحدة أراضي كل منهما، ومطالبتها بنصيبها من المستعمرات، إلى نشوب صراعات بينها وباقي الدول العظمى، وظهور تحالفات جديدة، نقلت الصراعات، من مستوى الدول، إلى مستوى أشمل وأوسع، تطور إلى حرب كونية سميت الحرب العالمية الأولى، كانت منطقة الشرق الأوسط من أهم ساحاتها.

انتهت الحرب العالمية الأولى بخسارة ألمانيا والسلطنة العثمانية، وانتصار فرنسا وبريطانيا، وإلى جانبها الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، التي كانت قد أحيت مشاعر قومية عروبية جامعة، في مشرق العالم العربي ومغربه، تتجاوز الأديان والمذاهب والطوائف، وكانت قد غابت منذ مئات السنين. لم يكن لبنان بمسيحييه ومسلميه بعيداً عن تلك التوجهات الجديدة.

ولكن هذه المشاعر الفياضة سرعان ما وجدت أمامها أفكاراً أخرى، أنعشتها سياسة التقسيم التي اتبعتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.

كانت عصبة الأمم، التي أُسست بناءً على معاهدة فرساي الأولى، الموقعة بين المنتصرين والمهزومين، قد قسمت سورية الكبرى بين القوتين العظميين: فرنسا وبريطانيا. استندت في هذا إلى اتفاقية سايكس – بيكو الموقعة عام 1916، لاقتسام النفوذ في بلاد الشام، وإلى مفهوم الانتداب، الذي طرحه الرئيس الأمريكي ويلسون أثناء انعقاد مؤتمر السلام في باريس في 18 كانون الثاني / يناير 1919، كما مهدت، عبر هذا التقسيم، لتنفيذ وعد بلفور للصهاينة، الصادر عام 1917، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

أُقر الانتداب الفرنسي على الولايات العثمانية في لبنان وسورية، والانتداب البريطاني عليها في فلسطين وشرق الأردن، وكذلك على العراق، في سعي لتفريق تلك الولايات نهائياً، عبر اعتماد أسسٍ إدارية ومالية واقتصادية مختلفة تماماً فيها، من خلال اختلاف نظم الإدارة الفرنسية والبريطانية، وأهدافها.

رفض المؤتمر السوري العام الذي انعقد في آذار 1920 اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور، والانتداب الفرنسي، وأعلن قيام المملكة السورية ضمن حدود سورية الطبيعية، شاملة ولايات سورية ولبنان والأردن وفلسطين، ونصب الأمير فيصل ملكا عليها في 8 آذار/ مارس 1920.

عرض الفرنسيون على فيصل، ابن الشريف حسين، عرش مملكة سورية المتحدة، على أن يقبل انتدابهم على سورية، فرفض لأن ذلك كان مخالفاً لأهداف الثورة العربية. لجأت فرنسا إلى احتلال لبنان، ثم زحفت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو إلى دمشق، فواجهتها القوات السورية مدعومة بالأهالي في 24 تموز 1920 في ميسلون، دون أن تستطيع إيقافها، فاستشهد الأميرلاي يوسف العظمة وزير الحربية، وسيطرت فرنسا على البلاد، وغادر الملك فيصل سورية في 28 من الشهر نفسه، إلى العراق.

فيما بعد وثقت فيروز لموقعة ميسلون في لحن ونص للأخوين فليفل في نشيد ميسلون.


أعلن الجنرال غورو حالة الطوارئ في البلاد في 27 تموز / يوليو 1920، وقرر نزع سلاح الجيش السوري، كما نفذ حكم الإعدام بعدد من الوطنيين، ونفى بعضهم، ثم أعلن تقسيم الجزء تحت الانتداب الفرنسي إلى عدة دويلات، وفق أسس طائفية ومذهبية، هي: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة اللاذقية، ودولة جبل العرب، ودولة الجزيرة، ولواء الإسكندرون، الذي تنازلت فرنسا عنه لاحقاً إلى تركيا، بموجب اتفاق 24 حزيران /يونيو 1939، في مقابل عدم انضمام تركيا إلى معسكر الألمان في الحرب العالمية الثانية.

الدويلات السورية ولواء اسكندرون و لبنان الكبير حسب تقسيمات الجنرال غورو

الدويلات السورية ولواء اسكندرون و لبنان الكبير حسب تقسيمات الجنرال غورو

كان لكل من تلك الدويلات علم، وعاصمة، وحكومة، وبرلمان، وعيد وطني، وطوابع مالية وبريدية خاصة، ولكن السوريين رفضوا هذا التقسيم، فانطلقت في عام 1925 الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش من السويداء، لتلتحق حوران ودمشق وحلب واللاذقية والجزيرة بالثورة.

عودة للأعلى



المشهد الثالث : وتجميعٌ : لبنان الكبير

بالمقابل، وإلى جانب الدويلات المؤسسة في سورية، بناء على أسس طائفية ومذهبية، أنشأ الجنرال غورو، وبأسلوب معاكس، دولة جديدة، تقوم على تجمع أديانٍ ومذاهب وطوائف، هي دولة لبنان الكبير، التي أصبحت بيروت عاصمة لها.

تشكلت الدولة الجديدة من عناصر لم يكن يجمعها كيان إداري واحد في إطار الدولة العثمانية: متصرفية جبل لبنان، وولاية بيروت، ولواء طرابلس، وأقضية أربعة في سهل عكار، كانت تتبع ولاية دمشق، ما جعل لبنان الكبير يتكون، وفي رقعة محدودة جغرافياً، من سهل وجبل وبحر، وهو ما سيكون له أثر كبير في قدح شرارة الإبداع، عندما تتصادم تلك المكونات، موسيقياً!!

مكونات لبنان الكبير

مكونات لبنان الكبير

مع الوقت أحيت هذه الدولة الجديدة مشاعر ذات نزعة مختلفة، عن النزعة العروبية، سميت الكيانية اللبنانية، ولم تكن تلك النزعة بدون أساس.

كان نظام المتصرفية في السلطنة العثمانية نظاماً خاصاً، أعطى لجبل لبنان (لبنان الصغير) استقلالاً عن المدن الساحلية منذ عام 1861، بضغط من الدول الغربية.

كان المتصرف مسيحياً من رعايا السلطان، توافق عليه الدول الغربية، وكان ذلك بحجة حماية سكان الجبل المسيحيين، ما عمق ارتباط الجبل بالدول الغربية. وقد زاد في ذلك الارتباط، قيام السلطات العثمانية بمحاصرة الجبل، خلال الحرب العالمية الأولى، معتبرةً إياه تابعاً للحلفاء، كردٍ على محاصرة سفن الحلفاء للشواطئ السورية واللبنانية، الواقعة تحت السلطة العثمانية، ما ولد مجاعة خانقة.

الأغنية الشهيرة ” ع الروزانا ” بصوت فيروز ، وثقت للمجاعة، ولتناقل البضائع بين جبل لبنان وحلب، التي سعت لإسعافه، ولكنها وثقت أيضاً للتكافل بين المكونات العربية تحت السلطنة العثمانية، ولاية حلب، وولاية بيروت، وجبل لبنان، في سعي لتجاوز محاولات ربط الجبل بالدول الغربية.


ولكن هذا لم يمنع بعض سكان الجبل، من السعي أمام سلطات الانتداب الفرنسي الجديدة، لإنشاء كيان مستقل لجبل لبنان.  ولما كان هذا الكيان يفتقد إلى مقومات الدولة، فقد كان السعي أن تُضم إليه بيروت والمدن الساحلية، وقد كان هذا ضرورياً لإكسابه الحدود المتكاملة مع البحر، فيما كان ضم الأقضية الأربعة، التابعة لدمشق تاريخياً، وذات الطبيعة السهلية، ضرورياً لتأمين فضاء حيوي زراعي للدولة الجديدة، إذ كانت مجاعة 1915 لا تزال ماثلة في الأذهان.

لم يكن هذا التجمع الجديد يحقق الإجماع، ولا موافقة دمشق وحلب وسائر المدن السورية الأخرى، وكان اللبنانيون منقسمين بين انتماءين: الانتماء للكيانية اللبنانية الناشئة، المدعومة من الغرب، والانتماء للعروبة ممثلة بسورية، والتي كانت أساس الثورة العربية الكبرى، التي قام بها الشريف حسين ضد العثمانيين في عام 1916.

بالغ المسيحيون في الحماس للبنان الكبير، وبالغ المسلمون في المدن الساحلية والسهل في رفضه، منسجمين في ذلك مع المقاومة التي نشبت في سورية ضد تقسيمها، إذ اعتبر أهل بيروت أن لبنان جزء لا يتجزأ من سورية والعالم العربي عموماً. رغم ذلك، أقر مجلس الممثلين في لبنان الكبير، في 23 أيار 1926، الدستور الذي كرّس لبنان الكبير، وأعلن قيام الجمهورية اللبنانية، تحت الانتداب الفرنسي، فكانت أول جمهورية في العالم العربي، ومع ذلك، لم يكن رفع المسلمين، بدعم مسيحيين لبنانيين، ودول عربية، راية العروبة، أمام الكيانيين المسيحيين اللبنانيين المدافعين عن الخصوصية اللبنانية، بدعم مسلمين لبنانيين، مؤشراً طيباً للمستقبل.

وفيما بعد وثَّقت فيروز لثنائية الجبل والشاطئ في أغانٍ كثيرة منها ” قصيدة لبنان ”  قصيدة لبنان لفيروز ، من شعر سعيد عقل وألحان الأخوين رحباني عندما غنّت ضمن القصيدة:

من أين يا ذا الذي استسمَته أغصانُ من أين أنت فداك السرو و البان
إن كنت من غير أهلي لا تمر بنا أو لا فما ضاقَ بإبن الجار جيران
و من أنا لا تسل سمراءُ منبتها في ملتقى ما التقت شمسٌ و شطآن
لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طارت بها الكتب قالت تلك لبنانُ
توزعتها هموم المجد فهي هوى وكر العقابين تربى فيه عقبان
أهلي و يغلون يغدو الموت لعبتهم إذا تطلع صوب السفح عدوان
لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طارت بها الكتب قالت تلك لبنانُ
من حفنة و شذا أرز كفايتهم زنودهم إن تقل الأرض أوطان
هل جنة الله إلا حيثما هنئت عيناك كل اتساعٍ بعد بهتان
هنا على شاطئ أو فوق عند ربا تفتّح الفكر قلت الفكرُ نيسان
كنا و نبقى لأنّا المؤمنون به و بعد فليسعِ الأبطال ميدان

لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طارت بها الكتب قالت تلك لبنانُ

كما وثقت للسهل في إطار لبنان الكبير عبر أغنيات عديدة ومنها: دوارة دورتيني سهل وجبل، أو في بحبك يا لبنان يا وطني بحبك بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك.

عودة للأعلى


المشهد الرابع: من جبل لبنان إلى بيروت

كان من نتائج دستور عام 1926، تشجيع هجرة سكان الريف والجبل إلى المدينة، وهكذا انتقل الكثير من سكان جبل لبنان إلى بيروت على مدى الأعوام القادمة، وكان منهم عائلة وديع حداد، التي انتقلت إلى بيروت في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين، فأقام وديع وزوجته ليزا وولداهما نهاد وجوزيف في غرفة متواضعة، ضمن بيت مشترك في منطقة زقاق البلاط، لتولد بنتهم الصغرى هدى هناك عام 1944.

بيت فيروز في زقاق البلاط

بيت فيروز في زقاق البلاط

عودة للأعلى


وبالنتيجة..

هل سيتقبل أهل بيروت هذه الهجرة؟ وهل ستتمكن بيروت من صهر من يأتي إليها، وطبعه بطابعها السائد، ثقافة وفناً وغناءً وموسيقى؟ أم أن من أتى إليها سيغيِّر ما استقرت عليه الأوضاع فيها منذ مئات السنين؟ وهل سيكون التغيير، موسيقياً على الأقل، بفعل الدولة الجديدة ومكوناتها المتمايزة فقط، أم أن نتائج الحرب العالمية الأولى، التي غيَّرت ملامح عالمٍ كامل، كان قد استقر على تفاصيله لمئات خلت من السنين، إذ تفككت السلطنة العثمانية، وبدأت القوى الأوربية تحكم سيطرتها على العالم العربي، كانت، تلك النتائج، ستجعل ملامح الفنون السائدة تتلاشى، لتنمو ملامح بيئة موسيقية جديدة، سترسمها خيوط سينسجها عدد كبير من المبدعين، في الموسيقى والغناء والأدب والشعر، وستكون فيروز والأخوين رحباني من بين أبرزهم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف كانت رحلتهم لتحقيق ذلك؟ وكيف ستصل نهاد، تلك الفتاة الوديعة، ساكنة بيت زقاق البلاط المتواضع في قلب بيروت، لتكون إحدى شهيرات العالم؟

فيروز إحدى شهيرات العالم : تستقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيتها

 

هذا ما سنأتي إليه اعتباراً من الفصل التالي : حياة وفن فيروز والأخوين رحباني – الباب الأول – الفصل الثاني

د. سعد الله آغا القلعة

فهرس كتاب حياة وفن فيروز والأخوين رحباني

Tagged , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading