أتوقف اليوم ، وعلى مدى نشرتين متتاليتين ، عند موضوعين محددين : الشيخ أحمد أبو خليل القباني ، وتوثيقه لرحلته من الشام إلى مصر موسيقياً ، ثم دوره في نقل مقام العجم إلى مصر. ولأبدأ بالموضوع الأول :
أبو خليل .. خلّده المسرحيون وأهمله الموسيقيون..
كان الشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي ، فناناً مجرباً ، اختزن عناصر الموسيقية العربية الشائعة في عصره ، وأبدع فيها نظماً وتلحيناً ، ثم دفعته نزعة التجريب ، ورغبته في توظيف الغناء ضمن عالم ساحر هو المسرح ، بأدواته المختلفة من ملابس وديكورات ،وحركة ، إلى أن ابتدع المسرح الغنائي العربي ، المعتمد على ألحان جديدة ، توضع للمسرحية الغنائية ، وتقدم في سياقها ، وذلك في بلاد الشام أولاً ، لينتقل بعدها إلى مصر ، بعد أن أجبرته ظروف ، سأعرض لها لاحقاً ، على ذلك ، حاملاً معه في نفس الوقت ، ما اختزنه من صنعة موسيقية ، ونتاج مسرحي ، ليساهم في ولادة المسرح الغنائي في مصر . إلا أن التاريخ الذي حفظ له دوره في ابتداع المسرح الغنائي العربي ، أهمل أهميته كملحن مبدع ، وأستاذ معلم ، لحَّن عشرات الموشحات الجميلة والمطربة ، والأغاني الشعبية الفرحة ، التي لا تزال تملأ مسامعنا دون أن ندري أنها لأبي خليل القباني ، كما أهمل دوره في نقل عناصر اللغة الموسيقية العربية ، من مقامات وإيقاعات و موشحات و قصائد و ألحان ، كانت اختزنتها بلاد الشام ، طيلة القرون الماضية ، إلى مصر، تلك العناصر التي أسهمت ، مع عوامل أخرى كثيرة ، في تحريض النهضة الغنائية الحديثة في أرض الكنانة ، التي انطلقت في نهايات القرن التاسع عشر ، و امتدت حتى بعيد منتصف القرن العشرين.
موشح ما لعيني أبصرت .. !
أسلط الضوء اليوم على موشح من ألحان الشيخ القباني : ما لعيني أبصرت.. وقصته ..
عندما حقق مسرح القباني نجاحاً كبيراً في دمشق ، حاول المحافظون فيها ، التدخل لدى الوالي لإنهاء هذه (المهزلة) ، متعللين بأن الشباب يمثلون أدوار الفتيات ،مما يدعو بشكل واضح للتخنث ، وساعدهم أهل التصوف ، الذين كانوا يوظفون الغناء ضمن طقوسهم ، بعد أن لاحظوا دور منبر الغناء الجديد ، في انحسار عدد المتابعين لطقوسهم. ولما لم يلق مدحت باشا والي دمشق بالاً لهذه المحاولات ، إذ كان يدرك أهمية دور أبي خليل ، في تغيير الواقع الاجتماعي السائد ، سعى هؤلاء إلى استصدار أمر سلطاني بوقف مسرحه ، و لكن التنفيذ كان أقسى، إذ أحرق المسرح ، وأُجهضت مدرسة فنية متكاملة ، مع أنه نُقل بعدئذ ، أن الأمر السلطاني كان مزورا”.
هل هناك أقسى على المبدع من هذا.. ؟ فنان شامل .. ينظم ، ويلحن ، ويغني ، ويمثل ، ويخرج المسرحيات ، ويهتم بالديكور والملابس .. ومع ذلك .. يُحرق مسرحه في وطنه .. لأن نجاحه أثار الغيرة والحسد.. .. !
بالنتيجة ، اضطر أبوخليل أن يخرج من الشام ، مع فرقته المسرحية والموسيقية وراقصي السماح إلى مصر، وعلى متن الباخرة التي أقلته إلى الاسكندرية ، كان يشهد شاطئ الشام يبتعد رويداً رويداً .. فتأثر ، و وضع و غنى هذا الموشح ، الذي تقول كلماته :
ما لعيني أبصرت أرضها قد أقفرت
وغدا الظبي بعيد وبكائي لا يفيد
طاب لي فيها الهوى واستقرت بالنوى
عاملتني بالجفا فهي لا تدري الوفا
من أوائل ملامح التعبير في الموشحات
اختار أبو خليل لموشحه إيقاع الأكرك : 6/8 ، و مقام العجم ، وهو مقام يحمل في خلاياه العزة و التصميم على النجاح ، فكان الموشح بالتالي حاملاً في الوقت ذاته ألم فراق الوطن ، والتصميم على النجاح ، وهكذا كان ، إذ كان استقبال مصر لأبي خليل يفوق التوقعات . لعل هذا الموشح كان من أوائل محاولات التعبير الموسيقي في الموسيقى العربية ، إذ يُبرز مسار اللحن ، تخافض الجمل اللحنية مع معاني التحسر ( الظبي بعيد ، عاملتني بالجفا ) ، وتصاعدها مع معاني الاستنكار ( وبكائي لا يفيد) .
توثيق عائدية هذا الموشح لأبي خليل
دراساتٌ كثيرة وثَّقت لموشحات أبي خليل ، ومنها كتابُ الملحن الكبير كامل الخلعي ، الذي درس على يدي أبي خليل : الموسيقى الشرقي ، وكتاب : تراثنا ، الذي أصدرته اللجنة الموسيقية العليا في مصر ، ودراسة هامة للباحث السوري جبرائيل سعادة ، ومن تلك الموشحات ما جاء على مقام العجم، أو أحد فروعه ، وهو مقام الشوق أفزا ، فوثقت لها تلك الكتب والدراسات ، ولم تورد موشح : ما لعيني أبصرت ، فيما كنت واثقاً من عائدية الموشح له ، من خلال النص ، الذي يتطابق مع حالة أبي خليل ، وسفره إلى الاسكندرية عن طريق البحر.
وبعد البحث في الموضوع ، اهتديتُ إلى الوثيقة الصوتية التي أثبتت عائديته لأبي خليل ، وهي أسطوانة من عدة أسطوانات ، كان سجلها الشيخ درويش الحريري ، لصالح مؤتمر الموسيقى العربية الأول في القاهرة ، الذي انعقد عام 1932 ، ووثق فيها الموشحات التي كانت في حافظته. جاءت الأسطوانة تحت رقم 142 ، ووثق فيها الشيح الحريري 4 موشحات لأبي خليل ، على مقام العجم والشوق أفزا ، منها ثلاث وثقت لها الدراسات المشار إليها سابقاً ، ورابع هو هذا الموشح: ما لعيني أبصرت ، ما أكد عائدية الموشح إليه.
ولكن هذا الموشح ، وغيره من الموشحات التي وضعها الشيخ أبو خليل القباني ، كانت لها وظيفة أخرى ، وهي نقل مقام العجم إلى مصر ، إذ أنه لم يكن معروفاً فيها ، قبل وصول أبي خليل . طبعاً لم تكن رحلة المقام سهلة ، إذ أن ثقاة الملحنين ، كانوا يتمسكون بالمقامات الشرقية السائدة ، كالراست والبيات والسيكاه ، ما أشاع التردد في قبول هذا المقام لسنوات ، إلى أن أتى ما فتح له الطريق ، وهذا موضوع النشرة التالية!
التسجيل الذي أعرضه اليوم لموشح ما لعيني أبصرت ، كان سجله الأخ الأستاذ صباح فخري ، مشكوراً ، لصالح برنامجي التلفزيوني ” نهج الأغاني ” ، وهو من أعمالي لعام 1997.