في 28 تشرين الأول / أكتوبر عام 1973 رحل عميد الأدب العربي طه حسين عن هذه الدنيا ، وبعيد وفاته أنتجت الإذاعة المصرية على عجل مسلسلاً إذاعياً في ثلاثين حلقة عن قصة للكاتب كمال الملاخ بعنوان ” قاهر الظلام ” ليروي قصة حياة الأديب الكبير ، الذي أصيبت عيناه بالرمد وعمره أربعة أعوام ، ما أطفا النور فيهما إلى الأبد ، ومع ذلك استطاع التفوق على أقرانه ، وكتب اسمه على صفحات التاريخ بأحرف من نور.
وضع الأستاذ محمد عبد الوهاب موسيقى شارة المقدمة والنهاية ، ووضع الأستاذان محمد الموجي وعلي اسماعيل الألحان ، فكان للموجي وضع ألحان النصوص التي غناها الأستاذ عبد الحليم حافظ ، فيما وضع اسماعيل الألحان الأخرى التي قدمت من قبل المجموعة ، والموسيقى المرافقة للأحداث.
المقال التالي يلقي الضوء على النصوص الثلاثة التي وضعها الأستاذ محمد حمزة على لسان الأديب الكبير ، لتواكب مسار الأحداث في المسلسل ، كما يخضع ألحانها للتحليل ، في سعي لتحديد مكامن التعبير فيها ، عن مضامين عميقة عاشها الأديب الكبير في مختلف مراحل حياته ، منذ أن فقد نعمة النظر في طفولته . يتوقف المقال أخيراً ، في أسلوب غير مسبوق ، عند العلاقة بين كل من الدكتور طه حسين ، والفنان عبد الحليم حافظ ..
دُعي الأستاذ محمد حمزة لكتابة ثلاثة نصوص على لسان الأديب الكبير ، يجري تلحينها لتواكب حلقات المسلسل ، ولتعبر عن مواقف هامة في حياته ، و عناصر القوة والتصميم والإرادة التي مكنته من مواجهة مشاعر الإحباط ، و تجاوز حرمانه من نعمة النظر.
عبّر النص الأول عما فطر عليه طه حسين من قدرة على التحدي : تحدي عاهته التي رافقته في بداية حياته ، ثم تحدي المجتمع لاحقاً ، عندما أثارت آراؤه جدلاً لم يتوقف حتى اليوم:
والله ما قول الآه ولا قدر مكتوب والله
والله ما قول يا زمن خليتني ليه مغلوب والله
جاء اللحن مرسلاً على مقام الهزام ، و جال في منطقة جنس الحجاز ، مركزاً على درجة استقراره ، دون أن يستقر على درجة استقرار المقام الأساسي ( التي توحي عادة بالارتياح ) إلا في آخر ثانية ..
وفي تقديري أن هذا جاء بقصد تعبيري محض ، فالنص يعبر عن عملية مستمرة من التحدي ، إذ أن أي روح مقاومة متحدية ، لا ترتاح ، في تحديها لظروف الحرمان الدائم ، إلا عندما تفارق الجسد ، وقد انتصرت على عجزها. كان من الممكن أن يكون اللحن على مقام الحجاز فقط ، ويلامس درجة استقرار الحجاز مراراً كما جاء في هذا اللحن ، ولكن هذا كان سيتعارض مع المضمون ، الذي كما قلت ، يعبر عن تحد دائم ، لا ينهيه إلا الموت.. و لا يريحه إلا النجاح .. وخلود الذكر..
عبر ثاني النصوص: يا مركبي سيري ، عن الثقة بالنفس ، والقدرة على تجاوز الحرمان ، كما برر الجهد اللازم تقديمه في ذلك ، بأنه واجب كل مبدع أمام وطنه ومجتمعه.
يا مركبي سيري ولا تخافي الرياح
لو فيه ظلام في الوجود قلبي أنا ملاح
يا بخت من قاسى يا دنيا
علشان كل البشر ترتاح
وضع الموجي لحن هذا الموال على مقام الحجاز كار ، وسجله عبد الحليم في ثلاث نسخ : النسخة الأولى جاء اللحن فيها مرسلاً بدون إيقاع
والثانية داخلَها الإيقاع
تم توظيف النسخة الأولى للتعبير عن مواقف الأزمات ، التي كانت عابقة بالألم ، في وجدان الأديب الكبير ، والثانية عندما كان يتجاوز أزماته ، ويحقق خطوة ما إلى الأمام. تم أداء النسخة الثانية بأسلوبين : الأول ( الأداء حسب النسخة الثانية ) لا يؤكد على مخارج الحروف ، والثاني ( الأداء حسب النسخة الثالثة ) يؤكد عليها ، مع إيقاع أبطأ ، وتعبير في الأداء أوضح .. لإبراز معاني التصميم والإرادة ذاتها ، التي تؤدي إلى نجاحات ، قد ترافقها مواقف صعبة ، تبرزها ملامح التعبير في الأداء ، وذلك حسب تغير المواقف وتنوعها ، على طول حلقات المسلسل.
أما ثالث النصوص: في ناس بتخلق من الألم قوة ، فقد أكد على معاني النص الثاني ، مع تعميمه لإعطاء المبدع ، الذي استطاع تحدي قسوة ظروفه ، دوراً في توجيه المجتمع ، الذي يعيش أيضاً ظروفاً قاسية ، و في قيادته ، لكي ليتحدى ظروفه بالمثل ، ويحقق مستقبلاً أفضل..
في ناس بتخلق من الألم قوة
وناس بتخلق من الدموع سكة
بتمشي عليها بعديهم
خلايق مؤمنة بيهم
دنيا
جاء اللحن مرسلاً على مقام البيات ، كما سجله عبد الحليم في نسختين ، على درجتين صوتيتين مختلفتين ، الثانية قرار الأولى ، أي أنها ذاتها على طبقة صوتية أخفض ، والغاية التعبيرية ، فيما أعتقد ، هي في اختلاف طبيعة التعبير في الطبقة الأخفض ، التي فيها شجن وألم ، والأحدّ ، وفيها قوة وتصميم.
تم توظيف كل نسخة ، كما النسخ المختلفة للألحان الموصوفة أعلاه ، وعلى طول الحلقات الثلاثين للمسلسل ، حسب المواقف التي كان يمر فيها الأديب الكبير ، في حياته المضمخة بالألم والأمل .
بين طه حسين وعبد الحليم..
استطاع عبد الحليم أن يعبر بصدق عن المعاني التي حملتها الألحان الثلاثة ، بنسخها المختلفة ، وأعتقد أنه كان مؤهلاً لذلك ، إذ أنها عبرت عن واقعه أيضاً : ألم يحرم وهو في ريعان الشباب من نعمة مقابلة لنعمة البصر ، وهي نعمة الصحة ، فيصاب بأول نزيف في المعدة عام 1955 ، وتصبح حياته مهددة يومياً ، لدرجة أنه كان لا ينام إلا عندما تشرق شمس يوم جديد ، فيطمئن .. وينام .. ومع ذلك ، كان على أغنياته أن تعبر عن مشاعر الأمل والتفاؤل ، التي عاشها العالم العربي في الخمسينات ومنتصف الستينات ، فكان عليه أن يتحدى الحرمان ، كما طه حسين ، وألا يستسلم ، ما جعل تلك المعاني تعبر عن مشاعر وأحاسيس و إرادة طه حسين للمستمعين ، ولكنها بالنسبة له ، كانت تعبر واقع صعب عاشه ، فتحداه ، وقاومه ، ولم يستسلم له ، ذلك التحدي الذي لم ينته إلا عندما استقرت روحه وارتاحت ، في الثانية الأخيرة التي سبقت رحيله ذات يوم ، على سرير مستشفى في عاصمة غريبة .. يلفها الضباب..
مقالة رائع عن عميد الأدب العربي الراحل طه حسين والمسلسل الإذاعي الذي انتج عنه والأغاني التي غناها الراحل عبدالحليم ولحنها كبار عمالقة التحلين محمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وعلي اسماعيل مع كبارالشعراء..شكراً لك د.سعد على التحفة الرائعة..لك أرق تحياتي.
شكراً لكم!