كثيراً ما يثار الحديث عن اقتباسات محمد عبد الوهاب ، وهي صحيحة ، و لا يثار بالمقابل حديثٌ عن ترجمة الآخرين لألحانه السائرة إلى لغات أخرى ، تلك الترجمة التي كانت ولا زالت تتسبب في اتهامه ، بأن ألحانه الأصلية ، كانت مقتبسةً من تلك الألحان المترجمة !
أعرض اليوم لقصيدة سهرتُ منه الليالي، وترجمتها إلى اللغة التركية.
قدم الأستاذ عبد الوهاب هذه القصيدة في سياق فيلمه ” دموع الحب ” ، الذي عرض لأول مرة في شهر كانون الأول / ديسمبر عام 1935 ، ثم ترجمت كلماتها إلى التركية ، بعد عرض الفيلم في تركيا ، و سجلت بذات اللحن ، بعنوان ” دموع الحب ” ، لصالح شركة كولومبيا ، في عام 1938 ، من قبل مطربٍ تركي معروف في ذلك الزمان ، عاش بين عامي 1897 و 1943 ، هو حافظ برهان .
إليكم الظروف التي رافقت تلك الترجمة… وخفاياها!
منعُ تقديم الأغاني التركية الكلاسيكية حرّض عرض الأفلام السينمائية العربية في تركيا
كانت الحكومة التركية قد منعت ، بين عامي 1934 و19366 ، تقديم الأغاني الكلاسيكية التركية ، التي تشترك في الكثير من عناصرها مع الأغاني العربية ، في الإذاعة التركية ، بغية توجيه الجمهور التركي إلى الموسيقى الغربية الأوربية ، في إطار عملية متكاملة لفصل تركيا عن الشرق ، كانت تضمنت أيضاً ، إلغاء استعمال الأحرف العربية في الكتابة. بنتيجة ذلك ، مال الجمهور التركي إلى الإذاعات العربية ، وإلى متابعة عروض الأفلام العربية ، التي بدأ يستوردها موزعو الأفلام ، لعرضها في دور السينما التركية.
بدأ عرض فيلم ” دموع الحب ” في تركيا أوائل عام 1938 ، في دار سينما تقسيم الشهيرة وسط استامبول ، مترجماً إلى اللغة التركية ، عبر كتابة الحوار ، وكذلك كلمات الأغاني ، على الشاشة ، بالتركية ، واجتذب الجمهور بسرعة كبيرة ، حيث تردد أن 120 ألف شخص شاهدوا عرضه فيها ، و 100 ألف آخرين في دار سينما فرح ، فيما كان عدد سكان استامبول لا يزيد عن 600 ألف.
كان هذا الفيلم ، بسبب نجاحه منقطع النظير ، فاتحة عرض أفلام أخرى كثيرة ، لأم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش وليلى مراد وعبد الغني السيد ، على سبيل المثال لا الحصر.
نجاحُ أغنية سهرتُ منه الليالي حرَّض تسجيلها مترجمةً إلى اللغة التركية
حافظ برهان ، المطرب التركي المعروف ، و لدى نجاح الفيلم ، أعاد تسجيل قصيدة ” سهرتُ منه الليالي ” ، بلحنها الأصلي ، في ذات العام ، بعد ترجمة كلماتها إلى التركية ، لصالح شركة كولومبيا للأسطوانات. حصدت الأسطوانة نجاحاً كبيراً ، و ذُكر على غلافها ، أن الكلمات لحافظ برهان، دون تحديد الملحن ، بما يشي بأن الشركة لم تحصل على موافقة عبد الوهاب على التسجيل ، بحسبانه ملحن الأغنية ، فيما لجأت الشركة إلى تقديمٍ صوتي في بدايتها ، أشير فيه إلى أن الأغنية مأخوذة من فيلم ” دموع الحب “.
من المفيد هنا التذكير ، بأن ترجمة كلمات الأغاني ، مع الحفاظ على ألحانها الأصلية ، كانت عملية شائعة في العالم ، فأغلب الألحان الناجحة أوربياً وأمريكياً ، كانت تترجم وتغنى بلغات عديدة ، كما أن السيدة فيروز غنت لاحقاً العديد من الأغاني ، سواء المترجمة إلى العربية أو المعرّبة ، مع الحفاظ على ألحانها الأصلية ، إضافة إلى أن هذه العملية لا تختلف كثيراً عن ما سمي القدود الحلبية ، التي كان يتم فيها ، منذ مئات السنين وحتى الآن ، وضع نص جديد ، على لحن قديم ، و إن كان التبديل يتم في إطار اللغة العربية ، من العامية إلى الفصحى ، أو العكس..
منعُ عرض الأفلام العربية في تركيا حرَّض تقديمها باللغة التركية!
المهم ، أن الحكومة التركية منعت لاحقاً ، تقديم الأفلام العربية بلغتها ، فنما اتجاهٌ لدبلجتها إلى التركية ، ثم لدبلجة الأغاني أيضاً ! إذ أن غالبية الأفلام العربية الأولى المستوردة إلى تركيا كانت غنائية. اعتمدت عملية دبلجة الأغاني على ألحانٍ تركية جديدة لكلمات أغاني الفيلم ، بعد ترجمتها أيضاً ، و قام بعملية الدبلجة ملحنون ومغنون أتراك عديدون ، كان منهم المطرب التركي المشهور منير نور الدين ، الذي كان يسجل أغنيات أفلام عبد الوهاب الجديدة صوتياً ، لتعرض أثناء أداء عبد الوهاب لأغانيه في الفيلم ، وكان الملحن التركي سعد الدين قايناق ، من بين من وضعوا تلك الألحان الجديدة ، التي كانت في كثير من الأحيان تستلهم الألحان الأصلية ، وتسعى لتوافق أمثل لها مع إيقاعية اللغة التركية . بالنتيجة ، كان الفيلم العربي يحافظ على حضور نجومه ، المحبوبين من الجمهور التركي ، صورةً فقط ، ليتحول لغةً و صوتاً إلى فيلم تركي ، وكان الجمهور يتابع الألحان على أنها لعبد الوهاب ، دون أن يخطر له ، أنها كانت تتعرض لعمليات إعداد ، كانت أحياناً تمس أصالتها!!
أعتقد أن تسجيل حافظ برهان لأغنية عبد الوهاب ” سهرتُ منه الليالي ” ، كان من الإرهاصات التي أدت إلى الدبلجة الكاملة للأفلام العربية في تركيا .. كما سنرى..
اختلافٌ في إيقاعية اللغتين العربية والتركية حرَّض إعداد تلك الأغاني لحنياً عند تقديمها باللغة التركية
يمكن التوقف ، لدى متابعة تسجيل القصيدة بنسختها التركية ، عند مدى الصعوبة التي واجهها حافظ برهان ، في أداء المقطع الأخير من الأغنية ، وخاصة عند كلمة ” وصالي “، والتي لعلها أثارت كما سأبين لاحقاً ، فكرة إعادة إعداد الألحان ، لتحقيق توافقها مع إيقاعية اللغة التركية :
أما رأيت حبيبي في حسنه كالغزالِ
ربي كساه جمالاً ما بعده من جمال
أنظر كيف تهادى من رقة و دلال
قل للأحبة رفقاً بحالهم وبحالي
يبدون صداً ولكن هم يضمرون وصالي
بُني لحنُ هذا المقطع على مقام الهزام وتفرعاته ، مصوّراً في غير مكانه الصوتي الطبيعي (على درجة النوا – الصول ، بدلاً من درجة السيكاه – مي نصف بيمول ) ، ما كان يربك الموسيقيين ، من غير القادرين على تنفيذ ذلك التصوير ، لما يتطلبه من عزفٍ لدرجات صوتية في غير مواقعها الطبيعية . عند كلمة “وصالي” ، يعود عبد الوهاب بلحنه إلى مقام الراست على درجة الراست ( الدو ) ، فيما يشبه حركة بهلوانية ، أراد من خلالها إثبات قدرته على التحكم بصوته ، من جهة ، ومعرفته ، من جهة ثانية ، بالمقامات وتصويرها في غير مواقعها ، في أسلوب ندر استخدامه في الغناء الدنيوي ، وشاع بين كبار المغنين الكلاسيكيين ، و كذلك المنشدين في إطار الإنشاد الديني ، للانتقال بين المقامات وإثبات مقدرتهم وبراعتهم ، دون أي مرافقة للموسيقى لأدائهم ، وأيضاً ، ومن جهة ثالثة ، أراد عبد الوهاب إثبات قدرته على مزج الأجواء اللحنية ، بين تصوير المقامات الشرقية الأصيلة ، و اعتماد إيقاع التانغو الغربي ، في عمل غنائي واحد!!
المهم أن من يتتبع التسجيل ، يكتشف مدى ارتباك حافظ برهان ، وهو يؤدي هذا القسم من الأغنية ، رغم جمال صوته ، وذيوع صيته ، في تاريخ الغناء التركي! وقد يكون ذلك بسبب صعوبة أداء مقام الهزام الموسيقي وتفرعاته ، في غير مكانه الطبيعي ، كما يمكن أن يكون ، وللإنصاف ، بسبب احتمال اختلاف تتالي الأحرف الصوتية ، بين كلمة ” وصالي ” ، حيث تم تنفيذ الجسر المقامي ، وبين الكلمة التركية المقابلة لها ، في ترجمة حافظ برهان لها ، فارتبكت العلاقة بين الكلمة التركية واللحن العربي ، وأربكت المغني المخضرم ، وحرّضت ، كما أرى ، فكرة إعداد الألحان ، كيلا تتكرر هذه التجربة الصعبة.
صورةٌ وُضعت لتقريب فكرة دوبلاج الأغاني العربية التي اعتمدت في تركيا لاحقاً
وضعتُ للتسجيل الصوتي لنسخة حافظ برهان صورةً ، من مقدمة فيلم دموع الحب ، ومن أجواء الأغنية ، لإعطاء فكرة ، عن كيفية ظهور أغاني عبد الوهاب السينمائية في تركيا ، عبر دبلجتها ، لاحقاً!