يقال أحياناً بأن إذاعة دمشق هي التي فتحت للسيدة فيروز أبواب الشهرة ، فيما تركز بعض الأدبيات ، في هذا المجال ، على نوافذ إعلامية أخرى ، كإذاعة الشرق الأدنى و الإذاعة اللبنانية . بالمقابل هناك إجماع على أن أغنية عتاب كانت أساس شهرتها ، دون تحديد الناشر . وفي الواقع فإن أغنية عتاب سجلت أولاً لصالح الإذاعة اللبنانية ولكنها لم تنتشر ، لأن البث كان محدوداً ، وكان يمكن أن تنسى ، ولكن يبدو أنها كان لها خصوصية في حياة فيروز وعاصي ، فأرادا لها أن تنتشر ، و رغبا في إعادة تسجيلها لصالح إذاعة دمشق ، التي كانت قادرة على إيصال بثها ، كما إذاعة القاهرة ، إلى أغلب البدان العربية والمغتربات ، في إطار الاتفاق الذي كان يقضي بأن يأتي عاصي وفيروز ومنصور أسبوعياً إلى دمشق لتسجيل أعمال جديدة .
المقال التالي يحلل أسباب انتشار هذه الأغنية بالذات ، فيتوقف عند النص ، ولغته البعيدة عن لغة عاصي الشعرية ، و تفسير ذلك ، ثم ينتقل إلى أسلوب اللحن ، ومدى تمكنه من التعبير عن المعاني التي تضمنها النص ، وعن الشخصية التي كشف عنها ، وصولاً إلى تحديد الشرائح التي قبلت الاغنية أولاً ، قبل أن تشيع وتنتشر..
تم التسجيل في إذاعة دمشق في 12 تشرين الثاني / نوفمبر 1952 ، فانتشرت الأغنية ، و فتحت لفيروز أبواب الشهرة ، مشكلة علامة فارقة في تاريخها الفني ، ما شجع الأخوين رحباني على طباعة الأغنية على أسطوانة في باريس ، مفتتحَين بها مساراً ناجحاً لإنتاج أسطوانات فيروز، استمر معهم طيلة مشوارهم الفني المشترك وما تلاه.
النص بين عاصي وفيروز
عبرت الأغنية عن حيرة فتاة أمام غيرة الحبيب ، وعن عجزها عن معالجة هذا الواقع ، إذ تقول فيها فيروز من كلمات عاصي وموسيقاه:
حاجي تعاتبني يئسـت من العتـاب ومن كتـر ما حملتني هالجسم داب
حاجي تعـاتبني واذ بـدك تروح روح وأنا قلبي تعـود عالعـذاب
علّمت قلبي من الطفولة عا هواك وما اتطلعت هالعيـن إلا عا حماك
والله بيشهد ما ضحكت مرة لسواك وليش بتضلّك تفـتّـحلي بـواب
عايشـة بعيـدة عن ليـالي الصفا عيشـة جفا وبحكي مع الناس بجفا
يا هل ترى مش هيك بيكون الوفـا وكيف بيكـون الوفا عطيني جواب
إن كان غيرة هالجدال وهالشكوك أضنيتني يكفي بقـا يرحم ابـوك
وإن كـان غير حباب عمبيعلموك الله يباركلك يا ولفي بها لحبـاب
كل مـا عم زيــد في حبك ولوع كل ما بتزيــد في عيني الدمــوع
ويا ريت عن حبك المضني لي رجوع راح تهرب الأيــام ويمر الشــباب
وين بتلاقي متــل قلبي قلــوب شــو صار صافيلك وغافرلك ذنوب
وقديش عن حبـّـك قلت بكره بتـوب ما تبت يا ولفي ولا هالقلب تــاب
من البداية ينتبه المدقق إلى أن النص يأتي على لسان فتاة ” عايشـة بعيـدة عن ليـالي الصفا ” ، ولم يكن هذا متداولاً في بداية الخمسينات ، حيث كانت النصوص لا تفرق بين المذكر والمؤنث ، فالنصوص يكتبها شعراء ، ليغنيها رجال ، حتى لو غنتها النساء ، والمخاطَب ، أي الحبيب ، مذكّر أيضاً ، ولو كان حبيبة ..
وفي الواقع ، فإنني أرى أن مؤشرات كثيرة جاءت لتؤكد ، أن المعاني الواردة في الأغنية ، كانت قالتها فيروز لعاصي ، ولم يكتبها عاصي لها ، بلغته الشاعرية الرقيقة ، إذ أن لغة النص بعيدة تماماً عن نصوص عاصي ، وقريبة مما يقوله الناس ، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك : ” ليش بتضلّك تفتحلي بواب ” ، كيف بيكون الوفا عطيني جواب ” ، ” يكفي بقا يرحم أبوك ” !! كما يشير النص إلى أن أحباباً لعاصي يسعون لإبعاده عاطفياً عنها! .. وأعتقد أن عاصي أعاد صياغة كلمات فيروز ولحنها لتغنيها ، في فترة كانت علاقتهما تتأرجح ، قبل أن تستقر بالزواج في أوائل عام 1955.
اللحن .. كلاسيكي ومعبر
جاء اللحن على مقام البيات الشجي ، المضمخ بالعاطفة البريئة ، مع تلوينات مقامية لاحقة ، ذات طابع كلاسيكي ، يتوافق مع كلاسيكية الشخصية التي كشف النص عن مواقفها ، في إطار تقاليد المجتمع الذي تعيش فيه ، في الخمسينات من القرن الماضي ، كما عبَّر من خلال بساطته وهدوئه وأسلوب تطويره ، عن بساطة المعاني وعفويتها ، مبتدئاً بجمل لحنية متلونة ومتناوبة ، عبرت بشكل واضح عن التردد: جملة لحنية أولى واضحة متصاعدة ، تليها جملة لحنية مترددة ضعيفة متراجعة نحو الأصوات المنخفضة ، ليتكرر التناوب ، المعبر عن ضياع الفتاة بين الإقدام والمبادرة ، من جهة ، و التراجع والاستكانة ، من جهة أخرى ، كما حفل اللحن بالغناء المرسل ، مع بعض التناوب مع المقاطع الموقّعة ، و لكنه لم يقدم عناصر جديدة توحي بأهمية خاصة للأغنية ، وكأنما اكتفى بالتعبير عن حالة التردد ، في الإجمال ، دون أن يُغفلَ التعبير على مستوى الكلمة ، كما جاء عند: إذا بدك تروح … روح .. ، في تعبير فطري ، يجسد أسلوب أي شخص يقول هذه الكلمات ، وهذا بحد ذاته له أهمية كبيرة ، نسبة لغناء ذلك العصر ، ولكنه لم يكن جديداً ، أمام ما حفلت به ألحان سيد درويش وعبد الوهاب وفريد الأطرش والسنباطي والقصبجي ، من تعبير متقدم عن المعاني .
أشار عاصي إلى أن النص يتصل به ، من خلال مشاركته بالعزف على البزق ، في بعض المداخلات البسيطة الحيادية ، إذ أنني أرى أنه كان يرمز لنفسه غالباً عندما يوظف البزق في ألحانه ، فيما رمزت حيادية تدخلاته إلى أنه لم يكن لديه ( وهو الحبيب المخاطَب ) ، أي جواب عن الأسئلة التي يطرحها النص ..
لماذا قبل الناس هذه الأغنية ؟
في بداية الخمسينات ، كان العالم العربي يعيش تغيرات مفصلية ، وكان الناس يبحثون عن الجديد في كل شيء ، بعد حصول بلدانهم على الاستقلال ، وبعد انتشار أشعار مثل أشعار نزار قباني ، التي كانت تخاطب فتيات ذلك العصر بلغة مختلفة . كانت المرأة قد بدأت تأخذ مكانها في المجتمع ، ولكن هذا كان يضعها في مواجهة مواقف تحتار في كيفية معالجتها ، وغالباً ما كانت تتراجع وتنطوي على نفسها ، دون أن تتجرأ على القيام بأي مبادرة ، وهذا ما عبرت عنه الأغنية ، بلغة بسيطة جداً ، بعيدة عن أي تكلف أو تنميق : ” واذا بـدك تروح روح وأنا قلبي تعـود عالعـذاب ” ، وهي كلمات عفوية ، مما يمكن أن تقوله أي فتاة ، في الخمسينات من القرن الماضي ، في هكذا موقف . كان هذا في مجمله جديداً ، زاد في تأثيره صوت فيروز المختلف عن السائد : صوت شفاف صادق صافٍ هادئ ، بعيد عن الأصوات السائدة في بداية الخمسينات ، استطاع التعبير عن صفاء فتيات تلك الفترة ، و عن حيرتهن وترددهن وحيائهن ، وهن يتلمسن طريقهن في هذا العالم الجديد ، المليء بالمطبات والعثرات ، في وقت كان المجتمع فيه ، يخطو خطواته الأولى ، نحو إتاحة الفرصة أمام الفتيات ، للتعلم والمشاركة والتسلح بعناصر الأمل الناهض ، من جهة ، ويخرجهن إلى عوالم جديدة ، من جهة أخرى ، تتطلب الكثير من الحذر ، وتنتج أحياناً الكثير من عناصر الانكفاء والعجز الكاسر.
يقود هذا في مجمله إلى الاعتقاد ، بأن هذه الأغنية انتشرت أولاً بين الفتيات ، ممن عشن مواقف مماثلة ، قبل أن تنتشر لاحقاً في مجالات أوسع..