نُشر في الموسوعة بتاريخ 19 تموز / يوليو 2015
اعتراضٌ على أسبقية .. مدعمٌ بتسجيل
تعليقاً على مقالي السابق حول موشح برزت شمس الكمال ، و خاصة حول نقطة محددة أتت عرضاً في المقال ، وهي أسبقية إذاعة حلب في توثيقه ، كتب الأستاذ محمد علي بحري ، وهو من الأساتذة المختصين في الموشحات والموسيقى الشرقية وخاصة العثمانية ، على صفحتي على موقع فيس بوك ، معترضاً على تلك النقطة ، في لغة لطيفة ، مرفقاً تسجيلاً للشيخ درويش الحريري لذلك الموشح ، سبق أن سُجِّل ضمن تسجيلات مؤتمر الموسيقى العربية الأول بالقاهرة عام 1932 ، ما يعني بأن تسجيل إذاعة حلب ، في رأيه ، ليس له أي أسبقية.
أجبت بأنني أشكره على ما تضمنه اعتراضه أولاً ، من تقدير لأعمال الوالد الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة ، الذي كان مؤسس إذاعة حلب ومديرها لسنوات ، وكنت نشرت المقال في الذكرى الخمسين لرحيله ، كما بينت أنني لا أوافقه الرأي في اعتباره ما سجله الشيخ درويش الحريري من الموشح له الأسبقية ، مؤكداً أنني سأنشر مقالاً خاصاً حول الموضوع . كررت إجابتي عندما كرر الأستاذ بحري طرح اعتراضه على الصفحة مرتين بأشكال مختلفة خلال ساعات ، آملاً منه أن يتوخى الصبر حتى أنشر مقالتي حول الموضوع مدعمة بالوثائق ، عندما يتوفر لدي الوقت ، وها أنا الآن أفي بوعدي..
خلاصة الاعتراض
1- هناك تسجيل قديم للموشح ، يعود لعام 1932 ، للشيخ درويش الحريري ، ضمن تسجيلات مؤتمر الموسيقى العربية الأول بالقاهرة عام 1932 . أرفق الأستاذ بحري رابطاً إلى موقع يو تيوب يقود إلى ذلك التسجيل .
2- تمنى لو أنني كنت استخرجت من أرشيفي أو أرشيف إذاعة حلب موشحاً ، تكون الإذاعة قد انفردت به فعلاً.
إجابة تتضمن نشر تسجيلٍ نادر لأول مرة
الإجابة على هذا الاعتراض ، تقتضي إيراد بعض الاصطلاحات الفنية التي لا بد منها ، والتي قد تخرج عن اهتمام القارئ غير المختص . آمل تجاوز ذلك.
الأصل في الموشح ، أي موشح ، أن يحقق القالب اللحني والقالب الشعري للموشحات ، ولنبدأ بالقالب الشعري لنصوص الموشحات الملحنة في بلاد الشام.
القالب الشعري للموشح الملحَّن
في بلاد الشام ، ثم في مصر ، يمكن أن يُلَحَّن الموشح مبنياً على قصيدة شعرية ، أو على نصٍ مبني وفق قواعد فن الموشحات الشعري ، الذي يتطلب تحقيق تناوبٍ وتكرارٍ للقوافي الداخلية في النص ( كنت أوضحت هذا الموضوع في الحلقة السادسة من برنامج نهج الأغاني عندما أوضحت العلاقة بين السمع والبصر ) . جاء نص موشح برزت شمس الكمال ، محققاً للحالة الثانية : لحنٌ مبني على نص يتَّبع قواعد فن الموشحات الشعري ، من حيث تناوب القوافي الداخلية وتكرارها . تقول كلمات موشح برزت شمس الكمال :
برزت شمس الكمال / من سنا ذات الخمار
أقبلت والبشر قال / احتسوا رشف العقار
يا خلي البال دعني / من ملام لايفيد
واترك العذل فإني / قد عدمت الاصطبار
نلاحظ بوضوح ، أن القوافي في الموشح تحقق متطلبات نصوص الموشحات ، حيث تم تلوين القوافي المتماثلة شاقولياً باللون ذاته .
النص الشعري لما ورد في التسجيل يتشكل من بيت واحد من الأبيات الأربعة!
لايمكن اعتماد تسجيل أي موشح ، كوثيقة مرجعية صوتية صالحة ، إن لم يحتوِ الأبيات الأربعة المشكلة لنصه الكامل ، والمحققة للقالب المطلوب ، وبالتالي فإن حذف أيٍ من الأبيات يخلُّ بالنص ، من حيث القالب الشعري على الأقل ، إن لم يخلّ بالمعنى.. التسجيل الذي أرفقه الأستاذ بحري مدته دقيقتان فقط ، و يتضمن البيت الأول فقط!
برزت شمس الكمال / من سنا ذات الخمار
التسجيل المرفق من الأستاذ بحري و المتداول على شبكة الإنترنت لما سجله الشيخ الحريري من الموشح
وهذا ألغى تماماً مرجعية القوافي وتناوبها وتكرارها ، وهي أساس قالب الموشحات كفن شعري ، و حوَّل النص إلى نص لا مرجعية شعرية له ، بل ولا معنى له ، فيما نسخة إذاعة حلب سجلت النص كاملاً في 20 دقيقة ، بما يعني أننا لا نستطيع اعتماد التسجيل المرفق من الأستاذ بحري كوثيقة مرجعية صالحة.
التسجيل المرفق من قبل الأستاذ بحري ، وهو المتداول على شبكة الإنترنت ، لا يتضمن كامل ما سجله الشيخ الحريري من الموشح !!
كان يمكن أن أتوقف هنا ، وأقول بأن التسجيل غير معياري ، و ليس وثيقة مرجعية ، لأنه تضمن بيتاً واحداً من أبيات الموشح .. وانتهى الموضوع .. ولكن المصداقية التي أعمل من خلالها ، تقتضي مني أن أبين بأنه يتوفر لدي ، في نظام معلومات الموسيقى العربية ، تسجيلٌ نادر ، يتضمن كامل ما سجله الشيخ درويش الحريري من موشح برزت شمس الكمال للمؤتمر .. ولكن هذا لن يغير من النتيجة .. لأنه ، مرة أخرى ، لم يتضمن جميع الأبيات ، و لا يمكن اعتماده كوثيقة مرجعية للموشح ، سواء من حيث النص أو اللحن. إليكم كامل ما سجله الشيخ درويش الحريري في المؤتمر ومدته 4 دقائق ، وهو تسجيل نادر ينشر لأول مرة:
التسجيل النادر و الكامل لما سجله الشيخ الحريري من الموشح – من مكتبتي
هذا التسجيل تضمن غناء البيتين الأول والثالث فقط من الموشح أي أن النص المغنّى هو :
برزت شمس الكمال / من سنا ذات الخمار
يا خلي البال دعني / من ملام لايفيد
وهذا النص مرة أخرى لا يتوافق مع أي مرجعية لقالب الموشحات الشعري ، إذ تضمن بيتين فقط من الأربعة المشكلة لنص الموشح ، لا تشكل معنى واضحاً ، ولم يسمح البيتان بأي قوافٍ متكررة !
الجانب اللحني
لنأت الآن إلى الجانب اللحني من الموشح. يتشكل القالب اللحني للموشح في حالته الأساسية من أربعة ألحان ، تتوافق مع أربعة أبيات ( أو أربعة مجموعات من الأبيات ). يسمى اللحن الأول : الدور الأول ، ويشكل البيت الأول حامله الشعري ، و اللحن الثاني : الدور الثاني ، ويشكل البيت الثاني حامله الشعري ، وهما دوران متماثلا اللحن ، على نصين مختلفين ، ما يتطلب بعض التموُّج أثناء أداء اللحن المتكرر في الدور الثاني ، لضبط العلاقة بينه والنص الجديد ، ثم يأتي اللحن الثالث ويسمى : الخانة ، ويكون البيت الثالث حامله الشعري ( يفترض في هذا البيت ( أو مجموعة الأبيات ) أن تكون له قوافٍ داخلية مختلفة عن قوافي البيتين الأول والثاني ، كما رأينا في القالب الشعري ) ، وهو لحن جديد مختلف عن لحن الدورين الأول والثاني ، يتوخى فيه الملحن الحيوية والتطريب ، ثم يأتي اللحن الرابع ، ويسمى الغطاء ، وهو تكرار للحن الدورين الأول والثاني ، ويشكل البيت الرابع حامله الشعري ، بقوافٍ داخلية تتماثل مع قوافي البيتين الأول والثاني ، وإن كان أداء اللحن المتكرر ، مرة أخرى ، يتطلب بعض التموّج ، لتحقيق الضبط الأفضل له مع النص الجديد.
هناك تلوينات على هذا القالب الأساسي ، كأن يتشكل الموشح من الدورين الأول والثاني فقط ( الحد الأدنى الذي يكفل إبراز تكرار القوافي شاقولياً وتكرار اللحن) أو من دورين وخانة ، أو من دورين وخانة و غطاء ، أو من تكرارات لتلك الحالات ، فيما لم تسجل أي حالة ، في حدود علمي ، لموشح كامل يتشكل من بيت واحد فقط ، إذ أن ذلك يخالف القالب الشعري ، الذي يتطلب التكرار لإبراز القوافي الداخلية ، أو من دور أول فقط ، إذ أن ذلك يخالف ضرورات تكرار اللحن ولو مرة واحدة في الموشح ، أو من دور أول وخانة فقط ، للأسباب المذكورة ذاتها ، فإضافة الخانة لا تغير من الواقع شيئاً ، في ضرورة أن يعبر الموشح في بنائه ، عن تكرار القوافي وتكرار لحن الدور الأول ، فيما يمكن تجاوز ذلك بإضافة الغطاء ، أي بتشكيل الموشح من دور واحد وخانة وغطاء ، حيث يؤمن الغطاء تكرار لحن الدور الأول ، كما جاء في موشح رب ليل : اللحن لبهجت حسان ، والنص للسان الدين ابن الخطيب الأندلسي ، على مقام النوأثر ، أو بتكرار الدور الأول والخانة عدة مرات ، كما جاء في موشح من طالب : اللحن لبهجت حسان أيضاً والنص لابن بقيّ ، على مقام المحير ، وهاتان الحالتان الأخيرتان مستحدثتان من قبل بهجت حسان ، تلميذ الشيخ عمر البطش ، جاءتا عند تلحين نصوص أندلسية ، لإحداث توافق بين أسلوب تلحين الموشحات في بلاد الشام ، وخاصة في حلب ، مع قالب الموشحات كفن شعري أندلسي ، يعتمد المزيد من التكرار.
من متابعة تسجيل إذاعة حلب ، وبإشراف الشيخ علي الدرويش ، لموشح برزت شمس الكمال ، نلاحظ أن التسجيل أتى كاملاً ، وفق القالب اللحني التالي :
دور أول : برزت شمس الكمال / من سنا ذات الخمار
دور ثان: أقبلت والبشر قال / احتسوا رشف العقار
خانة : يا خلي البال دعني / من ملام لايفيد
غطاء: واترك العذل فإني / قد عدمت الاصطبار
بالتالي فإن تسجيل الشيخ درويش الحريري الذي أضفته من مكتبتي لا يحقق ، مرة أخرى ، كما التسجيل المرفق من الأستاذ بحري ، ضرورات القالب اللحني للموشحات ، ولايمكن عدُّه وثيقة مرجعية صالحة.
نقطة أخرى : الخانة في تسجيل الشيخ الحريري لا تحقق مسار مقام الحجاز غريب
يمكن لأي مدقق أن يلاحظ أن لحن الخانة ، كما ورد عند الشيخ الحريري ( في التسجيل الكامل الذي سجله الشيخ الحريري للمؤتمر من الموشح و المضاف من قبلي ) لا تنطِّق ( في لغة الموسيقيين ) مقام الحجاز غريب كما يجب ، فإبراز جنس النهاوند على الدوكاه غير واضح ، بينما يُبرز تسجيل إذاعة حلب ذلك بوضوح ، إذ يستغرق جنس النهاوند من لحن الخانة لحوالي 78 ثانية متتالية.. بين التوقيت 11:22 وحتى 12:40 من التسجيل .
نلاحظ أيضاً أن ختام الخانة في تسجيل الشيخ الحريري ، الوارد بين التوقيت 3:33 وختام التسجيل ، مطابق لختام الدور الأول في التسجيل ، بينما ختامها في تسجيل إذاعة حلب ، الوارد اعتباراً من التوقيت 12:40 ، حتى نهاية الخانة ، مختلف ، و يركز على إبراز العلاقة المباشرة بين جنس النهاوند و جنس الحجاز في الهبوط اللحني ، في حركة تنطِّقُ مقام الحجاز غريب بدقة . تسبب هذا الواقع في تسجيل الشيخ الحريري ، في حصول التباس في تحديد المقام الذي بني عليه الموشح في الأدبيات الموسيقية ، هل هو مقام الحجاز ، أم مقام الحجاز غريب ، إذ أن ذلك التسجيل لا يبرز مقام الحجاز غريب ، بينما بيَّن مذيع إذاعة حلب ، في تقديمه للموشح ، أنه بُنيَ على مقام الحجاز غريب ، وأكد تسجيلها هذه النقطة بوضوح ، وهذه نقطة هامة جداً لصالح مرجعية تسجيل إذاعة حلب ، نسبة لتسجيل الشيخ الحريري ، من الناحية اللحنية، ولعل الشيخ علي الدرويش ، الذي كان من أهم المشاركين في مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة عام 1932 ، كما الشيخ درويش الحريري ، انتبه إلى واقع تسجيل الشيخ الحريري لهذا الموشح ، فأراد التأكيد على مقام الحجاز غريب في التقديم ، لمزيد من الدقة في التوثيق العلمي ، وهو ما اشتهر به الشيخ علي بين أقرانه.
المقدمة الموسيقية : مرة أخرى .. إبراز مقام الحجاز غريب
تضمن تسجيل إذاعة حلب مقدمة موسيقية للأدوار والغطاء ، وطبعاً هناك احتمالان : أن تكون المقدمة الموسيقية من أصل لحن الشيخ القباني ، أو أن تكون أضيفت من قبل الشيخ علي الدرويش خصيصاً للتسجيل ، والاحتمال الأول أرجح ،فيما أعتقد ، لأن المذيع لم يُشر إلى أن المقدمات الموسيقية مضافة ، من جهة ، و لأن الموشح قُدِّم لأول مرة في القاهرة ، في إطار عمل مسرحي ، هو مسرحية ” الحاكم بأمر الله ” ، كما سبق وشرحت في مقالي السابق عن الموضوع ، من جهة أخرى ، أي أنه لم يرد في إطار وصلة موشحات تقليدية ، ما يتطلب البدء بتمهيد موسيقي خاص له ، ولكن النقطة الأهم في تلك المقدمة الموسيقية المتكررة ، أنها مرة أخرى ، تبرز المسار اللحني لمقام الحجاز غريب.
بالنتيجة
كنت قلتُ في ردي المختصر على اعتراض الأستاذ بحري على صفحتي على الفيس بوك : إن ما سجله الشيخ درويش الحريري من الموشح لايعد وثيقة مكتملة ، وأعتقد أنني أوضحت ذلك الآن ، في إطار ما يسمح به موقعٌ ليس موجهاً للمختصين بالموسيقى ، وهناك تفاصيل أكثر أغفلتها ، كيلا ندخل في تفاصيل واصطلاحات يصعب متابعتها . مقابل هذا كله ، أتى تسجيل إذاعة حلب كاملاً ومحققاً لشروط القالبين الشعري واللحني ، و لشروط المسار المقامي ، كما عبَّر من خلال الكورس والمقدمات الموسيقية والمهابة في التقديم ، عن البعد المسرحي للموشح ، الذي ورد ضمن مسرحية الحاكم بأمر الله ، ما يجعله وثيقة مرجعية صالحة بامتياز ، سواء أكان ذلك من حيث النص ، أم اللحن ، أم الإطار العام ، ويعطية أسبقية تقديم التسجيل الكامل للموشح ، بأبياته الأربعة وهو ما كنت كتبته في مقالتي السابقة.
لم أكن أظن أنني سأضطر لإيضاح كل هذه النقاط ، لما فيها من تفاصيل موسيقية وشعرية ، قد تبعد عن الاهتمام العام ، ومع ذلك فقد كان لاعتراض الأستاذ بحري فائدة ، في أنه أثار هذا التوضيح… للتاريخ
يبقى سؤال :
لماذا حذفت الخانة المسجلة من قبل الشيخ درويش الحريري من التسجيل المتداول ؟ قد يكون حذفاً استنسابياً عشوائياً .. وقد يكون للأسباب التي أوردتها ، حول افتقاد الخانة لإبراز مقام الحجاز غريب ، خاصة إن علمنا أن تسجيلات المؤتمر كانت الغاية منها أن تكون أساساً لتوثيق الإيقاعات والمقامات ولدراسات بحثية تالية .. والله أعلم..
ملاحظة للمتابعة :
هناك حالة أخرى لتسجيلٍ لموشحٍ غير مكتمل ، بُني لحنه على دور واحد فقط ، وبعد تسجيله ، تم تنبيه الملحن المشهور إلى ذلك الخلل ، فلجأ لإعادة تسجيله مرة أخرى ، بشكل يخفف من وضوح الخلل قدر الإمكان. سأتوقف عند هذا التسجيل للموشح غير المكتمل لاحقاً..