الفصل السابق : حياة وفن أسمهان – الفصل الخامس – 1
الكتاب المسموع : حياة وفن أسمهان
الفصل الخامس – القسم الثاني
مهمة تاريخية وعودة للزوج
التسجيل الصوتي للاستماع المتزامن مع قراءة النص :
هذا الهوان الذي تُعبّر عنه أسمهان كان يتمثّل في الفقر الذي كانت تعيشه في تلك الفترة.
وتأتي فرصة جديدة. في منتصف عام 1941 دخلت الحرب العالمية الثانية فترة حاسمة، ويُصبح فيها الشرق الأوسط محوراً أساساً، ويُفكّر الحلفاء في ضرورة دخول سورية من الأردن لطرد السلطة الفرنسية الفيشيّة التي كانت تحكم سورية تحت اسم سلطة الانتداب الفرنسي . طبعاً لماذا سُمِّيت هذه السلطة بالفيشيّة؟ لأن ألمانيا كانت قد احتلّت فرنسا في فترة سابقة، ونصّبت في مدينة فيشي الفرنسية سلطة موالية لها سُمِّيت بالسلطة الفيشية. وهنا، لتحقيق ذلك، يتنبّه الحلفاء إلى دور محتمل لـ أسمهان ، فهي الزوجة السابقة لأحد كبار زعماء منطقة جبل العرب السورية الواقعة على تخوم الأردن الشمالية، ويتّصل بها الحلفاء لكي تقوم بدور كبير وتاريخي: عليها أن تُقنِع أهلها عبر زوجها بأن يسمحوا لجيوش الحلفاء أن تدخل من منطقتهم، وكذلك عليها أن تُقنِع زعماء قبائل البادية لكي يُنَفِّذوا السماح ذاته، لكي تتوصّل جيوش الحلفاء لأن تفاجئ السلطة الفيشية الموجودة والحاكمة في دمشق.
هنا قدّموا لها وعداً لجذبها لتنفيذ هذه المهمة، قدّموا لها وعداً بالاستقلال، وهو الوعد، وهو الاستقلال الذي كان يطلبه كبير عائلة آل الأطرش في منطقة جبل العرب السورية سلطان باشا الأطرش ، الذي كان أحد كبار زعماء الثورة السورية الكبرى ضدّ الفرنسيين.
رجعت لك يا حبيبي
تقبل أسمهان المهمّة، فهي تسمح لها أن تعود لأن تصبح أميرة، تعود إلى أهلها في كبريائها ليس كمغنّية، ولكن كأميرة بينهم، لها دور تاريخي في الحرب العالمية الثانية، وأيضاً هناك مال وفير، وأيضاً هناك قرب من زوجها الذي كانت دائماً تحب أن تعود إليه، إن حانت الفرصة، أو إن سنحت لها الفرصة لتحقيق ذلك. تعود مع وعود الاستقلال، تعود لكي تُقنِع الجميع، تعود وتبدأ بأن تتغنّى بذلك عبر أغنية “رجعت لك يا حبيبي “، من ألحان فريد الأطرش الذي لحّن هذه الأغنية خصّيصاً لها، لكي تُظهِر تشوّقها للعودة إلى زوجها .
في هذه الأغنية يظهر من البداية عود فريد الأطرش واضحاً في المقدّمة الموسيقيّة، ثم تُغنّي في تعبيريّة رائعة رجعت لك يا حبيبي ، مع الزفرة الحرّى التي تُغلِّف لفظة يا حبيبي، وندقّق كذلك في التنهّدات الخفيّة في نهايات الجمل، في أغلب مقاطع هذه الأغنية لأنها تُعبّر عن تشوُّقها للعودة ، تُعبِّر عن عواطفها التي طالما تجذّرت في نفسها، وكتمتها. ملاحظة لاحقة : تبين لاحقاً أن فريد الأطرش كان سبق له أن غنى هذه الأغنية من ألحانه في عام 1938 ، ثم أعاد تسجيلها بصوت أسمهان ، عندما توافقت معانيها مع ظروف أسمهان ، وأعتقد أنه لحنها وغناها عندما عادت اسمهان للقاهرة..
(قطع إلى أغنية رجعت لك يا حبيبي لـ أسمهان )
رجعت لك يا حبيبي بعد الفراق والعذاب
وكان لقاك من نصيبي من بعد طول الغياب
هل لاحظت عزيزي المشاهد حيوية المقاطع الموسيقية في هذه الأغنية؟ وهذه خاصّة موجودة في جميع الأغنيات التي لحّنها الأستاذ فريد الأطرش لأخته أسمهان ، دائماً المقاطع الموسيقية حيويّة، ولو كانت الأغنية فيها شجن، وفيها حزن، وفيها تشوُّق، لا يهم… المقاطع الموسيقية حيويّة لأنه كان متفائلاً.
كان الأستاذ فريد الأطرش فعلاً …في الفترة التي عاصر فيها أسمهان متفائلاً ولكنّه، عندما غابت أسمهان ، ورحلت عن هذه الدنيا، دخلت ألحانه في جوٍّ حزين دائم.
على كل حال، في هذه الأغنية، وفي المقطع التالي، هناك ملاحظتان: التعبيرية والتطريب في مقطع واحد. في المقطع التالي تغنّي أسمهان “ياما افتكرتك ” في لحن ممدود طويل للتعبير عن طول المدة التي عاشتها وهي تتشوّق للعودة إلى زوجها . ولكن عندما تُغني كلمة الليالي، تؤدّيها على أسلوب الموّال ، لأن كلمة الليالي تقارب أسلوب الغناء بـ يا ليل، أو التغنّي بـ يا ليل، والموّال . فيما بعد، الأستاذ محمد عبد الوهاب … هذه الأغنية قدِّمت في عام 1941، في عام 1942 و1943 عندما قدّم قصيدتي الكرنك وكليوباترا ، عندما ستمرّ كلمة الليالي سيؤديها الأستاذ عبد الوهاب على أسلوب الموّال . هل كان قد بدأ يستوحي من الأستاذ فريد الأطرش ؟
(قطع إلى أغنية رجعت لك يا حبيبي لـ أسمهان )
يا ما افتكرتك وكنت شاغل لي بالي
لما فارقتك صاحبت سُهد الليالي
كما لاحظنا، عبّر الأستاذ فريد الأطرش ، عبر صوت أخته أسمهان عن الزمن في يا ما افتكرتك، في لحن ممدود طويل، ولكن عندما سيأتي النّظم بعد قليل ليُعبّر عن التشوُّق اللاهب هناك إيقاع سريع للحن، أي أن الأستاذ فريد الأطرش كان يحاول أن يُعبِّر باللحن عن المضمون. قبل أن نستمع إلى هذا المقطع التالي أُفضّل أن أُعرِّج إلى مونولوج “رقّ الحبيب” الذي قدّمه الأستاذ محمد القصبجي مع السيدة أم كلثوم في عام 1944 … الذي عبّر فيه، عندما مرّت كلمة الزمن في لحن ممتد، وعندما أتت معاني التشوّق اللاهب عبّر أيضاً بإيقاع سريع، وكان ذلك في مقطع “من كتر شوقي سبقت عمري”.
لنستمع أولاً إلى أم كلثوم والتعبير عن الزمن الممتد عند القصبجي ، وعن التشوّق اللاهب.
(قطع إلى أغنية رقّ الحبيب لـ أم كلثوم )
من كتر شوقي سبقت عمري
وشفت بكره والوقت بدري
وايه يفيد الزمن
مع اللي عاش في الخيال
نصل الآن إلى التعبير عن التشوّق اللاهب مع أسمهان وفريد الأطرش .
(قطع إلى أغنية رجعت لك يا حبيبي لـ أسمهان )
في كل يوم يزداد حنيني إليك
ما يفوتش يوم من غير ما أسأل عليك
ونصل الآن لجديدٍ للأستاذ فريد الأطرش في مجال مزج القوالب . قبل قليل تعرّفنا على أسلوب جديد للأستاذ القصبجي في مزج القوالب في “فرّق ما بينّا ليه الزمان ” عندما أدخل من المونولوج تقاطع الموسيقى مع الغناء في الطقطوقة ، هنا الأستاذ في المونولوج ، الأستاذ فريد ، يأخذ شيئاً من الطقطوقة .
في الطقطوقة الغنائية هناك دائماً مجموعة غنائية تُغنّي إلى جانب المطرب أو المطربة، بينما في المونولوج دائماً هناك أغنية فرديّة يؤديها صوت واحد، يُعبّر فيه عن عواطفه وعن مشاعره. في هذه الأغنية تُغنّي أسمهان ، تُعبِّر عن عواطفها، وإذ بمجموعة غنائية تظهر في المقطع التالي. نتساءل: هل فعل ذلك ليمزج بين القوالب أم إنه أراد أن يشارك بصوته عبر المذهبجيّة أختَه فرحتها بالعودة؟ وذلك في مقطع “روحه برؤياك يفرح ويّاك” ، عندما يصعد بصوته ويظهر تماماً بوضوح، بين المذهبجيّة صوت فريد الأطرش يشارك أخته فرحتها بالعودة إلى أهلها.
(قطع إلى أغنية رجعت لك يا حبيبي لـ أسمهان )
كان قلبي عليل وما لوهش خليل
روحه برؤياك يفرح ويّاك
ومرة أخرى، هناك جديدٌ للأستاذ فريد الأطرش في مجال المزج؛ هو يقدم المونولوج في رجعت لك يا حبيبي ، وإذ به يمزج معه الموّال .. الموّال في العادة، وفي الغناء العربي القديم، هو لسان حال المطرب عندما يتغنّى بمعانٍ تُعبّر عنه.
اختار الأستاذ فريد لكي يقدّم الموّال في المونولوج عبارة ” أنا كنت خايف تنساني” ، وطبعاً هي كان لازم أن تُغنّي أو يجب أن تُغني أنا كنت خايفة تنساني، ولكن هذه الفروق بين المذكر والمؤنث في بداية الأربعينات، لم يكن مَن ينظم الكلام ينتبه إليها. إذاً أنا كنت خايف تنساني فعلاً، كلمة أنا، وجد الأستاذ فريد أنها تُلائم الموّال ، وهنا تستوقفني ملاحظة: هل كان هو أوّل من أدخل الموّال في الغناء العربي المعاصر عند لفظة أنا؟
الأستاذ عبد الوهاب في عام 1941 أيضاً قدّم قصيدة الجندول ، وقدّم فيها ضمن القصيدة موّال أنا مَن ضيّع في الأوهام عمره، وعند لفظة أنا.
لنتابع وندقّق أوّلاً أنا من ضيّع في الأوهام عمره، عبد الوهاب ، قصيدة وفيها موّال.
(قطع إلى أغنية أنا من ضيّع في الأوهام عمره لـ محمد عبد الوهاب )
أنا مَن ضيّع في الأوهام عمره
فعلاً أنا لا أستطيع أن أحدّد من كان السبّاق إلى توظيف عبارة أو لفظة أنا في الموّال ، في قالب تلحيني معاصر في الموسيقى العربية. هل كان الأستاذ عبد الوهاب في قصيدة الجندول التي غنّاها في عام 1941؟ أم كان الأستاذ فريد الأطرش في مونولوج رجعت لك يا حبيبي الذي قدَّمه في عام 1941 أيضاً..
على كل حال، ليس هذا هو المهم، المهم أن الأستاذ فريد الأطرش يتبع أسلوب الأستاذ محمد عبد الوهاب عموماً في مزج الأساليب التلحينية، هو هنا يقدّم مونولوج فيه موال ، فيه مذهبجيّة ، فيه سرعة، فيه تعبيريّة، فيه عوده الواضح. إذاً أسلوب المزج التلحيني الذي يتّبعه عبد الوهاب يتّبعه الأستاذ فريد الأطرش ، على عكس الأستاذ السنباطي والأستاذ القصبجي والأستاذ زكريا أحمد ، الذين كانوا يتّبعون نموذج المزاج اللحني الواحد في العمل الغنائي الواحد.
نصل الآن إذاً للاستماع إلى موّال أنا كنت خايف تنساني، عند لفظة أنا في المونولوج ، ونتابع لكي نستمع إلى ختام العمل الذي يعبق فيه الفرح، لأن الأغنية أساساً تعبّر عن فرحة العودة.
(قطع إلى موّال أنا كنت خايف تنساني ضمن مونولوج رجعت لك لـ أسمهان )
أنا كنت خايف تنساني
لكـن لقيتك تهوانـي
أعيد لك فؤادي الحنون
يرعاك ويهنا في ودادك
وأنشد هوايَ وألقاك معايَ
تسمع رجايَ
والماضي تاني يعود
يتبع : في سورية ..