الفصل السابق : حياة وفن أسمهان – الفصل الثالث – 3
الكتاب المسموع : حياة وفن أسمهان
الفصل الثالث – القسم الرابع
القسم الرابع: رائعة أسمهان يا طيور وتحليلها
التسجيل الصوتي للاستماع المتزامن مع قراءة النص :
الآن عندما أتخيّل ردّ فعل القصبجي ، ولعلّي أقول: كيف كان ردّه؟ أو كيف كانت درجة حنقه وهو يتسلّم هذا القرار؟
كيف سيكون ردّه؟ هل سيقدِّم قصيدة جديدة لـ أسمهان ؟ وبأي أسلوب يقدّمها؟ وقد تنازل كثيراً، وهو من كبار دعاة التجديد في الغناء العربي عندما قدّم قصيدة بالأسلوب التقليدي تقرّباً من أم كلثوم . لا.. ليست القصائد ، أو لم تعد القصائد هي المجال ، لقد قرّر أن يقدِّم لـ أسمهان عملاً غنائيّاً سيبقى للأبد نقطة مضيئة في تاريخ الغناء العربي، وسيبقى يُذكَر هذا العمل كأهمّ عمل غنائيّ قدَّمته أسمهان ، وبأسلوب لم تقدِّمه أية مطربة عربية حتى اليوم. إنه مونولوج تغريد البلابل يا طيور . هذا العمل أريد أن أتوقف عنده قليلاً لأنه فعلاً دخل تاريخ الغناء العربي.
في هذا العمل، هناك أبطالٌ ثلاثة، هناك مقولة الشاعر، وتؤديها أسمهان بحنجرتها، بصوت الحنجرة الأساسي، هناك صوت الطيور، أو تغريد الطيور، وتؤديه أسمهان بصوت الرأس الأوبرالي الذي لم تقدِّمه قبلها مطربة عربية، ولم تنجح حتى اليوم مطربة عربية في الغناء العربي، وبأسلوب قدّمته أسمهان ، في أن تقدِّمه. أنا لا أتحدّث عن الأوبرا الغربية، أنا أتحدّث في الغناء العربي، والانتقال من الحنجرة إلى الرأس في انسيابية بارعة.
وهناك أيضاً حركة الطيور، وهي البطل الثالث الذي ستقدِّمه الموسيقى، ستُعبّر عنه الموسيقى. كان هذا العمل لأول مرة في تاريخ الغناء العربي تأخذ فيه الموسيقى دوراً بطلاً.
تبدأ المقدمة الموسيقية بلحن تؤديه الفرقة الموسيقية الكبيرة، الأوركسترا، مع التوزيع الهارموني ، والتوزيع الهارموني هنا لعلّه يرمز إلى ألوان الطيور المتنوعة في توافقات جميلة. يبدأ اللحن بجملة لحنية متوثِّبة، لعلّها تصف حركة الطيور في حياتها العادية، وهي تتوثّب وتتحرّك، إلى أن يأتي صوت أسمهان المعبِّر عن مقولة الشاعر، وهي تقول، وهي تغنّي “يا طيور” بصوت الحنجرة. هنا اللحن الذي سيأتي موسيقياً يعبِّر عن استدارة الطيور لكي تستمع إلى هذا الصوت وتلبي النداء. فعلاً من البداية سنلاحظ الأبطال الثلاثة: الحنجرة مقولة الشاعر، الموسيقى التي تصف حركة الطيور، ثم يأتي ذلك الصوت البديع الذي قدّمته أسمهان عندما تعبّر عن تغريد الطيور.
(قطع إلى أغنية يا طيور لـ أسمهان )
يا طيور غنِ حبي وانشدي وجدي وآمالي
للي جنبي واللي شايف ما جرى لي
أشتكي له يبتسم ويزيد ولوعي
يا طيور
صوري له حالي من سهدي ودموعي
لقد اكتشف القصبجي أن صوت أسمهان سبيكة نادرة من صوت الأنثى والكمان والأوبوا والحمامة، يغلّفه شجن الأنثى المحرومة من الحنان. وأراد بالتالي أن يحوِّل هذا الصوت إلى آلة موسيقية طيّعة، وكان له ما أراد. لقد استطاعت أسمهان أن تتنقل على طول مساحتها الصوتية دون أن تتغير طبيعة صوتها، ولا أن تختلّ كثافة الصوت على امتداد المساحة الصوتية ، واستطاعت كذلك أن تنتقل من صوت الحنجرة إلى صوت الرأس في يسر عجيب.
(قطع إلى أغنية يا طيور لـ أسمهان )
غنّت الأطيار من فوق الأشجار أعذب الأشعار
مالت الأغصان من هنا الألحان والفؤاد ولهان
والنسيم يسري عليل يحمل الصوت الجميل
نعم! تتغنّى أسمهان في الصوت الجميل، وتأتي لحظة موسيقية لتعبّر عن حالة الطيور، وهي تستمع إلى الصوت الجميل. كيف نتصوّر أن تكون حركة الطيور؟ ألا تكون مهتاجة؟ متوثِّبة؟ حيويّة؟ وهي تستمع إلى الصوت الجميل، وفعلاً تأتي اللحظة الموسيقية متوثِّبة حيويّة تُعبّر عن هياج الطيور، ثم يدخل النظم في الحديث عن الحنان، وعن الأغاني، وإذ باللحن يتحوّل في غناء أسمهان على مقام البيات الشرقي الأصيل، تؤدي أسمهان فيه بحرفية واضحة … ولكن عندما يكون هناك عودة للموسيقى، مع أسمهان ومقام البيات الشرقي يغيب التوزيع الهارموني ، وعندما تعود الموسيقى يكون هناك توزيع هارموني في توافق الأصوات يُعبر عن توافق الألوان في الطيور، كما رأينا، وهنا يمزج القصبجي بحرفية واضحة بين مقام البيات الشرقي وبين الموسيقى التي لا تعتمد في بنائها المقامي على الأرباع، وإنما على التوزيع الهارموني ، يدمجها في حرفية واضحة، فلا نُحسّ بغربة، و السبب في أننا لا نُحس بغربة هي حرفية القصبجي ، الملحِّن القدير الذي يستطيع أن يُحقّق هذه التمازجات في قدرة واضحة، ومع ذلك لا ينسى القصبجي التعبير عن المعاني، مثلاً في كلمة “الغدير”، عندما تغنّيها أسمهان يتخافض اللحن للتعبير عن أنه في الغدير تسيل المياه من الأعلى إلى الأخفض، فيتخافض اللحن عند أسمهان ، وفي عبارة مثلاً “وميله ليَّ” يحمل اللحن لنا تمنّياً واضحاً.
(قطع إلى أغنية يا طيور لـ أسمهان )
والزهور فاحت بعطر الأماني والغدير ردد معاها الأغاني
امتلا الجو حنان يشرح الشوق والهوان
ياريت نصيبي عطفه ووداده وميله ليَّ
نصل الآن إلى ختام العمل الذي نظمه الشاعر يوسف بدروس ، والذي يقال إنه كان محبّاً لـ أسمهان ، فشبّه صوتها في مونولوج يا طيور بصوت الكروان. لنتوقف عند لفظة “الكروان”، ومن غنّاها من الأصوات. الأستاذ عبد الوهاب في مونولوج “كروان حيران” الذي قدّمه في عام 1935 في فيلم دموع الحب ، مدّ صوته في تعبير مبدع عن صوت الكروان. لنتابع:
(قطع إلى أغنية كروان حيران لـ محمد عبد الوهاب )
كروان حيران
أما السيدة أم كلثوم فقد عبّرت بأسلوبها عن صوت الكروان ضمن عبارة وضحكة الكروان في أغنية شمس الأصيل التي قدَّمتها من ألحان رياض السنباطي في عام 1958. لنتابع أسلوب أم كلثوم في التعبير عن صوت الكروان:
(قطع إلى أغنية شمس الأصيل لـ أم كلثوم )
بايتين حوالينا
نسمع ضحكة الكروان
على سواقي بتنعي
أما أسمهان فقد غنّت في عام 1939 مع محمد القصبجي والشاعر يوسف بدروس ” لو كان بيعشق ونابه حظّي لكان بكي من عذابه وناح مع الكروان”، وأترك للسادة المشاهدين أن يقارنوا بين أداء أسمهان لصوت الكروان، وأداء الأستاذ عبد الوهاب ، والسيدة أم كلثوم . وأؤكّد على أداء أسمهان لذلك في تصاعد لحنيّ انفعالي يتقاطع مع تصاعد للموسيقى التي عبّرت دائماً عن حركة الطير، وهنا تتصاعد الموسيقى متقاطعة مع صوت أسمهان لتصف حركة الطير وهو يرفع عنقه في نواحه.
ستحمل لكم الشارة، شارة نهاية البرنامج ، هذا المقطع الغنائي الذي يحمل إليكم نوح الكروان ، الذي أتمنى على السادة المسؤولين عن البث ، ألا يقطعوا الشارة حتى ختام نواح الكروان. ولكن هنا لا بد من أن أتساءل، وأقرّر: لقد توقف القصبجي في ما بعد عن هذا الخط الرائع. ما دور أم كلثوم في هذا؟ وما دور فريد الغائب عن الحلقة في هذا أيضاً؟ هذه أسئلة سنجيب عليها في الحلقة القادمة. أما الآن فلأترككم ، وأنا أكرّر رجائي للمسؤولين ، بأن يستمر بث الشارة حتى ختام نواح الكروان. أترككم إذاً مع نوح الكروان و أسمهان .
(قطع إلى شارة البرنامج مع أغنية يا طيور لـ أسمهان )
لو كان بيعشق ونابه حظي وأنا سهران
لكان بكى من عذابه وناح مع الكروان