الفصل السابق : حياة وفن أسمهان – الفصل الثاني – 4
الكتاب المسموع : حياة وفن أسمهان
الفصل الثالث – القسم الأول
أسمهان وفريد الأطرش بين السنباطي وعبد الوهاب .. وأم كلثوم
التسجيل الصوتي للاستماع المتزامن مع قراءة النص :
مساء الخير..
في الحلقتين السابقتين من برنامج أسمهان ، رأينا كيف استقرت الطفلة أسمهان ، أو آمال الأطرش ، في القاهرة مع والدتها وشقيقيها فؤاد وفريد في عام 1924، وكان ذلك هرباً من ملاحقة الفرنسيين في سورية لكل من كان يمت بنسب لآل الأطرش إبان الثورة السورية الكبرى.
وهكذا إذاً استقرّت في القاهرة، وفي نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات بدأ صوتها يتكوّن وينضج، ولكنها سرعان ما تزوجها الأمير حسن الأطرش ، ابن عمِّها، فعادت إلى سورية لتُقيم ست سنوات كاملة، انتهت بذلك الفراق الإجباري الذي عاشته طيلة حياتها بعدئذ تتعذّب من خلال ذلك الفراق.
على كل حال، عندما عادت إلى القاهرة في عام 1938، كانت بحاجة إلى من يقف إلى جانبها، إلى من يأخذ بيدها، وكان هذا شقيقها فعلاً فريد الأطرش .
الأستاذ فريد الأطرش الذي كان يُلحِّن ويُغنّي، وكان عازفاً بارعاً على العود ، وضع فوراً خطة محكَمة لكي يُقدّم أسمهان للعالم الغنائي في القاهرة. كان لسان حاله يقول: إن استطعت أنا أن أوصلها عبر ألحاني لكي تجتذب كبار الملحنين ليلحنوا لها، فيضعوها في قمة منافسة للسيدة أم كلثوم ، عندها بعدئذ سأصبح أنا من كبار الملحنين، لأنني ملحُّنها الخاص، أنا شقيقها، وسأصبح إذاً من كبار الملحِّنين عبر صوتها.
وفعلاً نجحت هذه الخطة المُحكمة عبر مونولوج نويت أداري آلامي الذي قدّمه لها في عام 1938، فغنّته، واستطاعت جذب كبار الملحّنين، فلحَّن لها القصبجي ، ولحّن لها مدحت عاصم ، وأخيراً لحّن لها الأستاذ محمد عبد الوهاب .
ولكن، في عام 1938، ومع مونولوج نويت أداري آلامي ، قدّم لها أغنية ثانية، دينيّة هذه المرة ” عليك صلاة الله وسلامه “. لماذا قدّم لها هذا الخط اللحني المختلف؟ إلى مَن كانت الرسالة موجَّهة عبر هذه الأغنية؟ لنستمع إليها أولاً مع شارة البرنامج، ثم أجيب:
(قطع إلى شارة البرنامج وأغنية عليك صلاة الله وسلامه لأسمهان )
عليك صلاة الله وسلامه شفاعة يا جد الحسنين
ده محملك رجعت أيامه هنية واتملت به العين
فعلاً لقد كانت أغنية عليك صلاة الله وسلامه في خطّ تلحيني مختلف عن مونولوج نويت أداري آلامي ، هي أغنية دينيّة، ونويت أداري آلامي مونولوج على إيقاع التانغو . لماذا قدّم الأستاذ فريد عبر صوت أسمهان في السنة ذاتها هاتين الأغنيتين في خط تلحيني مختلف؟
في الواقع، يجب أن نعود إلى تلك الفترة، ولنتمعّن في وضع الأستاذ رياض السنباطي . كان الأستاذ رياض قد كسب حيّزاً كبيراً من الشُّهرة في منتصف الثلاثينات عبر أغنيتين دينيتين: عودة الحجّاج وقيام الحجاج اللتين غنّاهما أحمد عبد القادر .
إذاً هنا، الأستاذ فريد عندما يُقدّم هذا اللحن الديني، هو يوجِّه رسالة للسنباطي: إن صوت أسمهان قادر على أن يؤدي هذه الأنماط الدينية، فلماذا لا تتعاون معها؟ ولكن الرسالة الأهم كانت موجّهة إلى السيدة أم كلثوم ، لأننا يجب أن نلاحظ أن الأستاذ فريد الأطرش يصغر الأستاذ رياض السنباطي بأربع ( الصحيح تسع) سنوات فقط، ومادام الأستاذ رياض عبر هاتين الأغنيتين الدينيتين كسب شهرة، ثم قدّم للسيدة أم كلثوم على بلد المحبوب ودّيني في نمط تلحينيّ مشابه، هي ليست أغنية دينية بالضرورة، ولكنها مشابهة تلحينياً، وغنّتها السيدة أم كلثوم ، إذاً رسالته الثانية هي للسيدة أم كلثوم : إنّني أستطيع أن ألحِّن هذه الأنماط، مادام الأستاذ السنباطي دخل عالمك التلحيني عبر ” على بلد المحبوب ودّيني “، فلماذا لا أدخل أنا أيضاً، وأنا قادر على تلحين هذه الأنماط، وبسويّة مكافئة؟
لكي نتأكد من التشابه بين ” عليك صلاة الله وسلامه ” و”على بلد المحبوب ودّيني”، وبالتالي من رسالة فريد الأطرش لـ أم كلثوم في قدرته على التلحين لها، نتابع أولاً القسم الأول من عليك صلاة الله وسلامه ، ولنقارنه بعد ذلك بالقسم الأول من على بلد المحبوب ودّيني.
(قطع إلى أغنية عليك صلاة الله وسلامه لـ أسمهان )
عليك صلاة الله وسلامه شفاعة يا جد الحسنين
ده محملك رجعت أيامه هنية واتملت به العين
لنستمع مباشرة إلى القسم الأول من على بلد المحبوب ودّيني، سنلاحظ، طبعاً المقارنة ليست بين أم كلثوم وأسمهان ، هي مقارنة في الجملة اللحنية. سنجد أن الجملتين اللحنيتين متقاربتان، على مقام موسيقي واحد هو مقام البيات . فعلاً لقد كان الأستاذ فريد الأطرش يتقرّب من أم كلثوم عبر أسلوب الأستاذ رياض السنباطي التلحيني.
(قطع إلى أغنية على بلد المحبوب ودّيني لـ أم كلثوم )
على بلد المحبوب ودّيني
زاد وجدي والبعد كاويني
لكي تكون المقارنة أدق، لنستخدم آلة القانون لنعزف الجملة اللحنية فقط، بمعزل عن الفروق بين صوت السيدة أم كلثوم وبين صوت أسمهان ، وشروط التسجيل، واختلاف الطبقة الموسيقية. هنا نوحِّد المقام والطبقة الموسيقية وظروف التقديم. نبدأ مع عليك صلاة الله وسلامه طبعاً، أصلاً الجملتان اللحنيتان على مقام واحد، مقام البيات .
(قطع إلى عزف عليك صلاة الله وسلامه على آلة القانون )
نستمع مباشرة إلى على بلد المحبوب ودّيني، في نفس الطبقة الموسيقية، وعلى القانون طبعاً:
(قطع إلى عزف على بلد المحبوب ودّيني على آلة القانون )
ولكي نحقق تمازج اللحنين للتأكد من ارتباطهما بجوّ لحني واحد، سأعزف الجملتين اللحنيتين متتاليتين في آن واحد.
(قطع إلى العزف على آلة القانون )
لم تصل الرسالة التي أرسلها الأستاذ فريد إلى العنوان، وقبل أن نبيّن أي عنوان تلقَّفها، لا بد أن نتوقف عند أداء أسمهان لهذه الأغنية.
في الواقع في هذه الأغنية غلّف أداء أسمهان خشوعٌ واضح، فهي أغنية دينية. ولكنّني أريد أن أتوقّف عند عبارة محدّدة يقترب فيها أداء أسمهان من أداء شقيقها فريد الأطرش .
كنّا قد بيّنّا هذا في الحلقة السابقة ضمن أوبريت قيس وليلى في كلمة “يا مرحبا” كيف تؤديها أسمهان مثل شقيقها فريد الأطرش في أسلوب الأداء، وهي هنا تؤدي أيضاً في عبارة طه الرسول، عندما سنستمع إليها الآن، دقِّقوا معي، إنّه أسلوب الأستاذ فريد في الغناء، ممّا يثبت أنه كان معلِّمَها الأوّل.
(قطع إلى أغنية عليك صلاة الله وسلامه لـ أسمهان )
وإيمتى عيني تشوف منظركم يا مأذنتين فوق الحرمين
وأطول مطال حجاج اتباركم وشربوا من زمزم بقين
وفي المدينة نالوا القبول
في نور نبينا طه الرسول
يابخت زواره بإكرامه عليك صلاة الله وسلامه
للأسف! لم تصل الرسالة التي أرسلها الأستاذ فريد الأطرش عبر أغنية عليك صلاة الله وسلامه إلى السيدة أم كلثوم . وللأسف! لم تصل جميع الرسائل التي أرسلها طيلة حياته إليها، ولعلّنا نعرض لهذا في برنامج خاص عن حياة وفن الأستاذ فريد الأطرش .
على كل حال، الرسالة الموجَّهة للسنباطي في ذات الأغنية يظهر أنها وصلت، ولكنّه كان يتمهَّل. إذاً من استلم الرسالة؟ من تنبَّه إلى ما قدَّمه الأستاذ فريد الأطرش في “عليك صلاة الله وسلامه “؟ إنه طبعاً الأستاذ محمد عبد الوهاب الجاهز دوماً لاستقبال والتقاط أي رسالة، ولو لم تكن موجَّهة إليه! وفعلاً سرعان ما قدّم، وفي ذات النمط التلحيني أغنية لـ أسمهان هي محلاها عيشة الفلاح في فيلم يوم سعيد ، فعلاً النمط التلحيني ذاته، ولكنّه أضاف في هذه الأغنية طُرفة غنائية في الغناء العربي، هي تلك اللفظات التي تأتي في نهايات المقاطع المتكرِّرة في محلاها عيشة الفلاح : “ياه.. ياه..” دائماً، كانت طُرفة. لماذا أؤكّد عليها؟ لأن الأستاذ فريد الأطرش سيردّ عليها مع أسمهان بطُرفة مماثلة.
(قطع إلى أغنية محلاها عيشة الفلاح لـ أسمهان )
محلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه مرتاح
يتمرغ على أرض مراح والخيمة الزرقا ساتراه
ياه ياه ياه ياه ياه ياه
كان النمط التلحيني الذي حكم هذه الأغنيات التي استمعنا إليها واحداً: أولاً الأسلوب الشعبي، القالب ، هو الطقطوقة ، مقام البيات هو المقام السائد فيها جميعها. إذاً كانت متشابهة، بالإضافة إلى وجود المذهبجيّة ، أو مجموعة المغنين الذين يؤدون المقاطع المتكررة إلى جانب الصوت الفردي. ولكن هناك خاصّة أخرى مهمّة وهي أنه عندما يؤدي الصوت الأساسي المقطع الغنائي الذي يؤديه، لا تقاطع مع الموسيقى، يُنهي المقطع الغنائي وتبدأ الموسيقى، ثم يبدأ مقطع غنائي جديد وتأتي الموسيقى، لا تقاطع، هناك انفصال بين الغناء والموسيقى، وهذه أساليب الغناء القديم، الغناء العربي قبل أن يأتي المونولوج الذي سمح بتقاطع وتواصل الموسيقى والغناء في المقطع الغنائي ذاته.
على كل حال، الأستاذ فريد الأطرش سرعان ما ردّ على محلاها عيشة الفلاح في أغنية “يللي هواك شاغل بالي “على مقام البيات ، على أسلوب الطقطوقة ، المقطع الغنائي لا تقاطع مع الموسيقى، لنستمع إليها أوّلاً، ثم ندقق أين ردّ بطُرفته على “ياه.. ياه..”
(قطع إلى أغنية ياللي هواك شاغل بالي لـ أسمهان )
ياللي هواك شاغل بالي وفي غرامك أنا يا ما قاسيت
ضحّيتلك حبي الغالي وفـْ بعدك يوم ما اتهنيت
روحي وروحك متفقين وفؤادي ع الحـب أميـن
فرقنا لـوم اللايميـن وحرمني من اللي تمنيت
فريد الأطرش ومزج المدارس التلحينية
المقطع التالي من” ياللي هواك شاغل بالي ” فعلاً مقطع عجيب تماماً. لنوضّح ذلك. نتذكّر أنه في مونولوج نويت أداري آلامي ، الأستاذ فريد الأطرش مزج بين المونولوج وبين إيقاع التانغو الراقص. هنا هو يمزج بين أسلوبين تلحينين مختلفين لملحِّنين مختلفين.
كيف كان هذا؟ في المقطع التالي ” يا واحشني وتايه منّي على عيني بُعدك عنّي”، عند بُعدَك عنّي ينتقل إلى مقام الصَّبا ، مذكِّراً إيّانا بذات العبارة التي ترِد في دور قدّ ما حِبّك زعلان منّك على مقام الصَّبا الذي لحّنه الأستاذ القدير محمد عثمان ، الذي عاش في نهايات القرن التاسع عشر. إذاً هنا مدرسة قديمة في هذه العبارة على مقام الصَّبا ، وإذ بعدها في البيت التالي ” ده زماني كذِّب ظنّي وحرمني من قولة يا ريت ” هنا عند يا ريت يرد بطُرفة غنائية مماثلة لـِ “ياه.. ياه..” في ذات الأسلوب الغنائي للأستاذ عبد الوهاب ، وهي “هيه.. هيه..”. وهكذا إذاً في بيتين متتاليين، أولاً المدرسة القديمة ومحمد عثمان ، ثم محمد عبد الوهاب ، والردّ في طرفة غنائيّة على “ياه.. ياه..”. لنتابع.
(قطع إلى أغنية يللي هواك شاغل بالي لـ أسمهان )
يا واحشني وتايه منّي على عيني بُعدك عنّي
ده زماني كذِّب ظنّي وحرمني من قولت يا ريت
هيه.. هيه.. هيه
ياللي هواك شاغل بالي وفي غرامك أنا يا ما قاسيت
ضحّيتلك حبي الغالي وفـْ بعدك يوم ما اتهنيت
طبعاً الأستاذ فريد الأطرش ، عندما يُقدِّم أمزجة لحنيّة مختلفة في عمل واحد، إنما يقصد أيضاً، عندما تكون هذه الأعمال المقدَّمة، أو هذا المزج بصوت أسمهان ، إنما يقصد أيضاً أن صوت أسمهان قادر على أداء الأساليب التلحينية المختلفة في عمل واحد إن لزم الأمر.