أسلط الضوء في المقال التالي ، على نجومية أمير الكمان سامي الشوا غير المسبوقة ، في عالمٍ عربيٍ سيطرت فيه نجومية المغنين ، تلك النجومية التي سمحت له مبكراً ، أن يسجل أسطواناتٍ ، يقدم فيها عزفاً على آلة الكمان لأدوارٍ كاملة ، درج الناس على الاستماع إليها غناءً من كبار المطربين .. وتجد شركات الأسطوانات أن لها سوقاً كبيرة تسمح بإنتاجها ..!
كثيراً ما طرحت على نفسي تساؤلات كثيرة : كيف استطاع سامي الشوا الموسيقي أن يحقق نجومية غير مسبوقة في عالم عربي سيطر فيه الغناء ؟ هل استقى مكانته من قدراته في إبراز المقامات الموسيقي العربية ، بتنوعها وجمالياتها ، في تقاسيمه ..؟ أم كان ذلك لتأثير عزفه على الأحاسيس والمشاعر ، كما ذهب بشارة الخوري ” الأخطل الصغير ” عندما قال فيه:
أجراحٌ تســــــيل أم أرواح على أُنمليك ذُبن حنينا
أم شآبيب من جداول شتى يتفجرن ضاحكاً وحزينا
وترٌ يأخذ العيون فيجمدن عليه كأن خلقن ســــكونا
فترفق إذا ضربت فما تضرب إلا مكامن الحس فينا
أم كان ذلك لقدراته التعبيرية التي أبرزها عبر كمانه في أساليب لم تكن مسبوقة ، كما في عمله الموسيقي ” أعرابي في الصحراء ” الذي كنت توقفت عنده سابقاً ؟ أم لأنه جاء إلى عالم الموسيقى من خلال آلة جديدة على العرب بشكلها الغربي ، وهي آلة الكمان ؟ أم من حقيقة أنه سجل مع كمانه منفرداً أو مع فرقته الموسيقية ” تخت الشوا ” مئات الأسطوانات ، وهو ما لم يقم به أي موسيقي أو مطرب في زمانه؟ أم من خلال معرفتنا بأنه اختتم بعزفه حفل مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي أقيم في القاهرة عام 1932 ، و حضره الملك فؤاد الأول ملك مصر ، والذي غنت فيه أم كثوم ، ولم يشارك فيه عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء ؟ أم لأنه عزف أمام ملوك وأمراء في مناسبات كثيرة ..؟ أم لأنه جال في أوربا وأمريكا فقدم عزفه على أهم مسارح تلك البلاد ؟ أم .. ؟
لقد استعرضت هذه المحطات وغيرها في مسيرة فناننا الكبير سامي الشوا في مقالي الافتتاحي عنه .. ولكنني سأسلط الضوء اليوم على محطة محددة ، تسمح لنا باستجلاء حقيقة مكانته في عالم الموسيقى العربية من خلال المقارنة .. فالمقارنة هي التي تبرز المكانة أكثر من أي وصف..
الجميع يعرف أن النجومية في عالم الغناء العربي كانت محصورةً بالمطربين والمطربات مستبعدةً الموسيقيين .. على الأقل حتى منتصف القرن العشرين .. إذ لطالما مجَّد الجمهور الصوت والكلمة ، معتبراً دور الموسيقي محصوراً في التمهيد للغناء ومصاحبته ، أو في مرافقة المطرب أثناء ارتجالاته ، وبالتالي فإن إقدام موسيقي على تسجيل أسطوانة ، في الأربعينات من القرن الماضي ، مع فرقة موسيقية مصاحبة ، لعمل غنائي أتى في قالب هو الأصعب والأكثر تطوراً في الموسيقى العربية ، حيث يقوم مع كمانه بدور المطرب ، يثبت جرأة هذا الموسيقي ، من جهة ، والمكانة التي وصل إليها في عالم الموسيقى العربية ، أمام المطربين والمطربات ، و كذلك أمام منتجي الأسطوانات..
نعم ..هذا ما فعله سامي الشوا ، عندما سجل لصالح شركة جرامافون ، في عام 1949 ، دور ” كادني الهوى ” الشهير من ألحان محمد عثمان ، وفي هذا تحديان : فالدور أولاً هو القالب الغنائي العربي الأهم والأكثر تطوراً ، كما أتى في شكله النهائي ، وفق ما صاغه محمد عثمان ، ملحن دور ” كادني الهوى ” ، في خمسة أقسام لحنية متتالية غير متكررة ، تتدفق فيها الألحان ، وصولاً إلى ذروة نهائية قبل الختام .. وهو أيضاً القالب الذي استطاع أكثر من أي قالب غنائي آخر ، إبراز قدرات المطرب الصوتية ، وخاصة خلال أقسام ” الهنك ” و ” الآهات ” ، التي تسمح للمطرب أن يقوم بارتجالات في ذرى لحنية ، تشحن المستمعين بشحنات كثيفة من الطرب .. ودور ” كادني الهوى ” ثانياً ، هو دورٌ مشهور ، وقد كان سجله مطربون ومطربات كثر ، منهم الشيخ يوسف المنيلاوي والشيخ سيد الصفتي ، كما سجله لاحقاً كل من ماري جبران وعباس البليدي والشيخ إمام وعزيز عثمان.. وكذلك فرقة عبد الحليم نويرة .. وحتى علي الحجار ومحمد الحلو من الجيل المعاصر.. ومع كل هذا لم يتوان سامي الشوا ، عن استبعاد المطرب ، والتقدم بكمانه لتسجيل هذا الدور !!
نعم .. لقد اخترت هذا التسجيل، لأنه قدم إحدى أولى المحاولات في الموسيقى العربية لتجريد عمل غنائي شهير من الكلمة ومن الصوت ، والاكتفاء باللحن والأداء الموسيقي ، وهذا مجال واسع لإعادة إنتاج التراث الغنائي العربي بأسلوب جديد ، ولأنه أبرز أيضاً قدرة سامي الشوا على إدارة التوازن بين الكمان والفرقة الموسيقية ، و عكس جرأته في وضع أدائه على الكمان ، في موقع المقارنة مع أصوات المطربين ..في عالم عربي سيطر فيه الغناء .
يلفت النظر في التسجيل المرفق ، وهو ما أدعوكم لمتابعته أيضاً ، سيطرة سامي الشوا على قوس كمانه ، و تلوينات شدة الضغط عليه ، ليكون الصوت الناتج مباشراً ، أو ليِّناً ، أو انسيابياً ، أو عاطفياً ، بما يتوافق مع رؤيته لخلايا الجمل اللحنية التي يؤديها ، بغض النظر عن الكلام ، الذي تم استبعاده ، لتبقى الموسيقى سيدة الموقف!
أما المحطات الأخرى التي تثبت مكانته .. والمسيرة التي قطعتها آلة الكمان في دخولها عالم الموسيقى العربية ، على أيدي عائلة الشوا ، من حلب إلى القاهرة إلى العالم العربي .. فلها أحاديث أخرى..