الفصل السابق : حياة وفن أسمهان – الفصل الثاني – 2
الكتاب المسموع : حياة وفن أسمهان
الفصل الثاني – القسم الثالث
قصائد القصبجي تدخل عالم أسمهان من جديد
التسجيل الصوتي للاستماع المتزامن مع قراءة النص :
لعلّك لاحظت عزيزي المشاهد كيف أن أسمهان أضفت على اللحن الراقص ذي المعاني التي لا تتلاءم مع الشجن، كيف أضفت مسحة الحزن الدفين التي غلّفت صوتها عليه. على كل حال، فيما بعد، سيُصحح مدحت عاصم هذا الوضع، وسيُقدِّم لـ أسمهان ما ستُغنيّه، معبِّرةً عن واقع حياتها.
لنتساءل الآن: ماذا عن الملحن الكبير محمد القصبجي ؟ الذي لا شك وصلته رسائل فريد عبر مونولوج نويت أداري آلامي ، والذي كان قد لحّن لـ أسمهان في بداياتها، وهو المهيأ أساساً لتلقّف وصول أسمهان إلى القاهرة.
أيضاً، كما حصل مع غيره، لم يكن لدى الأستاذ القصبجي الوقت لكي يلحن لـ أسمهان لحناً جديداً. لقد أراد ومباشرة أن يتعاون معها، ولكن لاحظ.. هو لاحظ مسحة الشجن التي تعتصر صوتها ، وأراد بالتالي أن يتعاون معها في مجال مقارب لهذا الوضع.
نتساءل الآن: هل سيكون ذلك عبر المونولوجات الرومانسية الرائعة التي أوصلها صوت أم كلثوم إلى أسماع الناس والجمهور المتعطش، في أبهى صورة ممكنة؟ لا.. لماذا يفعل ذلك؟ لنتساءل: لماذا يفعل ذلك وصوت أم كلثوم متاح أمامه وقد كان ملحنها الأول في عام 1938؟ لا.. إنه سيدخل مجالاً جديداً مع أسمهان .
قصيدة ليت للبرّاق عيناً
سنتعرف على هذا المجال عبر هذه الأغنية التي اختارها لها.. ليت للبرّاق ، والتي كانت المطربة حياة محمد قد غنّتها في فيلم ليلى بنت الصحراء في عام 1936، وأخذها القصبجي ، وأعطاها لـ أسمهان ، لأنه أراد عبر هذه الأغنية أن يدخل مجالاً جديداً في الغناء العربي مع أسمهان .
(قطع إلى قصيدة ليت للبرّاق لـ أسمهان )
آه.. ليت للبرّاق عيناً فترى ما ألاقي من بلاءٍ وعَنَا
هل لاحظت عزيزي المشاهد الآهات التعبيرية التي ابتدأت بها أسمهان هذه القصيدة؟
نعم.. قصيدة.. فعلاً لقد كانت القصيدة هي المجال الذي قرر القصبجي أن يَدخله مع أسمهان ، مجال التلحين. لماذا كانت قصيدة؟ لأن القصبجي كان يتحرَّق لكي يُلحن القصيدة لـ أم كلثوم.
لفهم هذا ومتابعة ما كان يحصل، لنطلب من الحاسب الآن أن يعطينا تسلسل تعامل السيدة أم كلثوم مع الملحنين في مجال القصيدة ، ابتداءً من العشرينات.
نجد أولاً بالنسبة لـ القصبجي ، نرمز له هنا باللون الأحمر، تعامل معها في نهاية العشرينات فقط بثلاث قصائد ، ثم توقف.
الآن ماذا عن أحمد صبري النجريدي ؟ نلاحظ ثلاثة أعمال أيضاً في نهاية العشرينات، وقد رمزنا له هنا بلون أقرب إلى الاخضرار. ولكن الملحن المسيطر كان الشيخ أبو العلا محمد الذي قدّم لها عشر قصائد قبل نهاية العشرينات، ثم غادر هذه الدنيا وتوقف. من كان يُلحن الآن لها في الثلاثينات إنه زكريا أحمد ، وهكذا كان القصبجي يتحرّق لأن يقدّم لها القصائد ، ومن أجل ذلك اختار قصيدة ليت للبرّاق كما رأينا.
أحب أن أؤكد على أن هذه القصيدة حملت لنا التعبيرية في غناء القصائد عند القصبجي ، التعبيرية عن المعاني، وقدمت لنا تمكُّن أسمهان في أداء الغناء الأصيل المعتمد على غناء القصائد . طبعاً أؤكد مثلاً على مقطعين في هذه القصيدة : المقطع الأول تغنّي أسمهان وهي تصف لأهلها حالتها في شكوى، حيث يعبر اللحن في تصاعد عن هذه الشكوى، وهي تصف هول ما جرى، فتقول “غلَّلوني.. قيَّدوني” في تصاعد للحن، وفي امتداد للتعبير عن طول المدة التي قضتها وهي في الأسر. إذاً المدة يُعبّر عنها بطول اللحن والشكوى يُعبّر عنها بتصاعد اللحن، بينما بعد قليل في مقطع “غلِّلوني.. قيِّدوني” وهي تخاطب آسريها، يأتي اللحن سريعاً للتعبير عن أنها لا يهمّها هذه المدة، ويأتي اللحن مستهزئاً في لازمة موسيقية، فيها شيء من الاستهزاء. وأخيراً عندما تأتي إلى مقطع “وافعلوا كل ما شئتم” في تصاعدٍ للحن يصل إلى الذروة، لكي تُعبّر عن أنها فعلاً لا يهمّها كل ما فعلوا وهي في الأسر.
فعلاً لقد عبّرت أسمهان في غنائها وعبّر القصبجي في اللحن عن المعاني تماماً، كما جاءت في هذا، وكان هذا جديداً في تلحين الشعر القديم.
(قطع إلى أغنية ليت للبرّاق لـ أسمهان)
غلَّلوني، قيَّدوني، ضربوا جسميَ الناحلَ مني بالعصا
قيِّدوني! غلِّلوني! وافعَلوا كل ما شِئتم جميعاً من بلا
فأنا كارهة بغيكم ويقيني الموتُ شيءٌ يُرتجى
الحقوق الفنية!
ومرة أخرى تتكرر الملاحظة ذاتها ؛ في قصيدة ليت للبراق التي روت قصة فتاة وقعت في الأسر، واشتكت لأهلها عمّا وقع معها أثناء الأسر… في هذه القصيدة التي غُنِّيت بصوت حياة محمد وأسمهان … تكررت الملاحظة ذاتها : تغيب النسخة بصوت حياة محمد واشتهرت النسخة بصوت أسمهان لدرجة أن تلك المطربة احتجّت أمام المحاكم على أسمهان لأنها غنّت أغنيتها، وكانت هذه أول قضية لـ الحقوق الفنية في مصر.
قصيدة أسقنيها بين عبد الوهاب والقصبجي
على كل حال لنعد لـ القصبجي ، لقد وردت فرصة نادرة لم يكن يتوقعها، شركة بيضافون اللبنانية التي كانت تتعامل مع الأستاذ عبد الوهاب في مجال الأسطوانات، عرضت على الأستاذ عبد الوهاب تلحين قصيدة أسقنيها للشاعر الأخطل الصغير بشارة الخوري ، وكان الأستاذ عبد الوهاب قد تعامل مع بشارة الخوري سابقاً في قصيدة جفنه علم الغزل وغيرها.
عرضت عليه هذه القصيدة ، هي قصيدة على شكل موشح ، ولكن سنعتبرها قصيدة لكي لا ندخل في تفاصيل، ولأنها بالفصحى. إذاً لنعتبرها قصيدة.
عرضت على الأستاذ عبد الوهاب إذاً هذه الشركة أن يُلحن هذه القصيدة ، وقَبِل وتسلَّم النص وحاول ووضع اللحن، ثم تردد في تسليمه. يظهر أنه لم يعجب بهذا اللحن! الشركة عندما لاحظت تردد الأستاذ عبد الوهاب قررت تكليف القصبجي بتلحين هذه القصيدة لـ أسمهان ، ووجد القصبجي في هذا فرصة نادرة، لأنه يستطيع أن يُقدّم لحناً تجديدياً لهذه القصيدة ، ينافس تجديدية الأستاذ عبد الوهاب في تلحين القصائد.
أسمهان وقصيدة أسقنيها
أول ما يسترعي الانتباه عندما نستمع إلى قصيدة أسقنيها أنها مناسبة لـ أسمهان في اتجاهين: أولاً: في اتجاه المعاني، كانت أسمهان في تلك الفترة تعيش حياة لاهية، تحاول بها أن تُخفّف من وطأة الشجن والحزن الدفين الذي تعيشه ؛ وهنا، كانت تعيش إذاً حياة لاهية وجاءت المعاني لتعبّر عن ذلك : “أسقنيها بأبي أنت وأمي لا لتجلو الهمَّ عني أنت همّي” فيها غزل واضح. وأيضاً في النظم: كان هناك ملاءمة من حيث الشكل للتعامل مع أسمهان .
كان الشاعر بشارة الخوري شهيراً أو معروفاً بأنه يُكثّف كثيراً أحرف الغُنَّة في قصائده. والغُنّة هي خاصة من أهم خصائص صوت أسمهان . ماذا أقصد بالغنّة؟ الغُنّة أولاً .. عندما يخرج الصوت عادة، يخرج من الحنجرة، ولكن في أحرف الغنّة ينقسم الصوت إلى قسمين: القسم الأكمل يخرج من الحنجرة، والقسم الإضافي يخرج من الأنف، وتحصل هناك تلوينات رائعة في هذه الغنّة.
حفلت القصيدة بأحرف الغنّة، مثلاً عندما يقول “أسقنيها.. بأبي أنــت وأمـي.. لا لتجلو الهــمّ عـنّــي أنــت همّــي”النون والميم هي من أحرف الغنّة التي كانت موجودة بتواتر كبير في هذه القصيدة، وهكذا تلاءمت مع أسمهان التي كانت صوتاً أَغَنَّاً في جميع مخارج الحروف التي تغنيها.
(قطع إلى قصيدة أسقنيها لـ أسمهان )
أسقـنيـها بأبـي أنـتَ وأمـي لا لتجلو الهمَّ عني أنتَ همّي
إمْلأ الكأسَ ابتساماً وغراما فلقد نام الندامى والخُزامى
زَحَمَ الصبحُالظلاما، فإلامَ؟
قُمْ نُنَهْنِهْ شَفَتَيْنا
ونُذَوِّبْ مُهجتَيْنا
رضِيَ الحُبُّ علينا
يا حبيبي بأبي أنتَ وأمّي أسقنيها لا لتجلو الهمَّ عني
أنتَ همّي
ألم تلاحظ معي عزيزي المشاهد أن أسمهان بشخصية صوتها الحزينة لم تستطع أن تعبّر تماماً عن معاني الغزل المفضوح التي حفلت بها القصيدة ؟
القصبجي وأسمهان وأمير الشعراء
على كل حال، هذه القصيدة ساهمت في تنبُّه الأستاذ عبد الوهاب إليها. لقد كان يتوقع أو يستمع أو ينتظر سماع هذا اللحن من القصبجي الذي قال عنه آل بيضافون إنه كان أجمل من لحن عبد الوهاب . إذاً ..هكذا.. القصيدة ساهمت في تنبّهه لـ أسمهان . القصبجي طبعاً انتشى لهذا النصر الكبير على الأستاذ عبد الوهاب بعد أن قالوا إن لحنه كان أجمل .. وهكذا قرر أن يدخل في عقر دار الأستاذ محمد عبد الوهاب عبر قصائد شوقي … أمير الشعراء أحمد شوقي ، التي كانت محتكَرة للأستاذ محمد عبد الوهاب ، واختار منها قصيدة هل تيّم البان .
لنتساءل الآن: هل سيُلحنها بشكل تجديدي ضمن منافسته للمجدِّد الأستاذ عبد الوهاب دائماً؟ أم سيقرر أن يلحنها بشكل تقليدي، لكي يقارب السيدة أم كلثوم ، وقد سمع أنها بصدد تنفيذ فيلم تاريخي سيحفل بالقصائد هو فيلم دنانير .
يتبع .. القسم الرابع : مدحت عاصم مجدداً مع أسمهان يقود إلى عبد الوهاب والسنباطي