حياة وفن أسمهان – الفصل الأول – 4
الكتاب المسموع : حياة وفن أسمهان
الفصل الثاني – القسم الأول
صوت ساحر حزين يعود إلى القاهرة فيشعل تنافس الملحنين
التسجيل الصوتي للاستماع المتزامن مع قراءة النص :
مساء الخير..
ها نحن نتابع رحلة البحث والتحليل في حياة أسمهان الغنيّة القصيرة، وما كان من أثرٍ لصوتها المتألق في تحريض تنافس كبار الملحنين، وتطوير فكرهم الموسيقي، في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات.
رأينا في الحلقة الأولى كيف استقرّت الطفلة أسمهان ، أو الطفلة آمال الأطرش، مع والدتها علياء المنذر وشقيقَيها فؤاد وفريد في القاهرة، في حوالي العام 1924، وكان ذلك هرباً من ملاحقة الفرنسيين لهم، عندما كانوا يعيشون في بيروت، وذلك لانتسابهم إلى أسرة آل الأطرش في سورية، والتي كان زعيمها، أو كبيرها، سلطان باشا الأطرش قد أصبح أحد كبار زعماء الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي .
استقرت إذاً أسمهان الطفلة مع أسرتها في القاهرة، وتكوَّن صوتها فيها في نهاية العشرينات، وبداية الثلاثينات. ثم رأينا ما كان من أثر لزواجها من ابن عمها الأمير حسن الأطرش ، وعودتها إلى سورية للإقامة معه ست سنوات كاملة… ثم ما كان من أثرٍ… لقرارها بتركه … لعجزها، في ما أعتقد، عن إنجاب الطفل الذكر، وعودتها إذاً بالنتيجة إلى القاهرة واستقرارها… من أثرٍ في تغليف صوتها بمسحة من الشجن والحزن الدفين، التي لم تفارقه بعد ذلك، والتي أتت من ذلك القرار الصعب الذي اتخذته بأن تترك زوجها ، وأن تقيم في القاهرة، لأنها لم تستطع أن توفر له ما يريد. عادت أسمهان إلى القاهرة، وكانت تُحسّ بالضياع، وغنّت ذلك الموّال السوري الذي تتحدث فيه عن تلك الأيام التي عاشتها، والتي تخطر ببالها دوماً، وأنها تأتي للقاهرة لكي تبيع بضاعتها من الغناء، ولكن، للأسف، لا أحد يشتري.
(قطع إلى شارة برنامج أسمهان وموال جمال محملة لـ أسمهان )
جمال محملة وأجراس بتعن وأيام ال مضت عالبال بتعن
وحملت بضاعتي وأدور ت أنا أبيعها غريب وما حدا منّي اشترى
فريد الأطرش يفتح لها الطريق
فعلاً، حالة من الضياع الكامل!
ضمن حالة الضياع هذه يبرز دور فريد الأطرش ، شقيقها، للأخذ بيدها. كان فريد طموحاً، كان يرى أنه بإمكانه منافسة كبار الملحنين وكبار المطربين، فيما لو أُتيحت له الفرصة. كان عازفاً بارعاً للعود، كان يغنّي من ألحانه ومن ألحان الآخرين، لكنّه استطاع أن يشدّ الأسماع إليه عبر بعض الأغاني ذات النكهة السورية… لكنّه كان يرى أنه بحاجة ماسة لصوت متألّق، لكي يوصل ألحانه عبر ذلك الصوت للناس. وهكذا التقى ضياع أسمهان مع بحث فريد عن الصوت المتألق!
كانت الخطة التي وضعها فريد للانطلاق مع أسمهان خطة منطقية تماماً، كان.. أو رأى أنه يجب عليه، أو يجب على ألحانه لـ أسمهان أن تتجه أولاً في محور واحد: جذب كبار الملحنين للتلحين لـ أسمهان ، لأن هذا، إن حصل، فإن أسمهان سرعان، بصوتها المتألق، سرعان ما ستتبوّأ مكانة منافسة للسيدة أم كلثوم ، وعندها يستطيع عبر ألحانه لصوتها أن يصبح من كبار الملحنين، وكان هذا منطقياً فعلاً، وكانت البداية مباشرة، وهو ما سنُخصص له …أو… ما سنُخصص له هذه الحلقة من برنامج أسمهان : هو: كيف استطاع فريد مع أسمهان أن يحققا جذب محمد عبد الوهاب للتلحين لـ أسمهان ، ولنبدأ فوراً.
في عام 1936، كان فريد الأطرش قد غنّى من ألحانه مونولوج نويت أداري آلامي في عام 1936، وهذا المونولوج لم ينل حظاً كبيراً من الشهرة… اختاره لكي تغنيه أسمهان لأنه لم يكن لديه الوقت الكافي لكي يُلحن لها شيئاً مباشراً أو جديداً، ولكنّه اختاره لأنه رأى أنه يُعبّر أيضاً عن حالة أسمهان العاطفية. كان يريد أن يقول لها: إذا أردت أن تُغنّي وتعيشي في القاهرة، عليك أن تخفي آلامك، وعليك أن تُظهِري السعادة والسرور. ولكنه أيضاً كان قد ضمّن هذا المونولوج رسائل عديدة للأستاذ محمد عبد الوهاب ، ضمن المحور الذي سبق أن تحدثت عنه.
قبل أن نتابع، لنستمع إلى مونولوج نويت أداري آلامي الذي غنّته أسمهان في عام 1938، مقدِّماً لها لأول مرة للجو الفني في القاهرة.
(قطع إلى مونولوج نويت أداري آلامي لـ أسمهان )
نويت أداري آلامي.. واخبّي دمعي ونحيبي
واحكي شجوني وغرامي.. لحالي ولطيف حبيبي
يفيدني إيه النواح.. والناس تشاهد أسايا
والدمع فات الجراح.. وكنت فاكره دوايا
مدخل أسمهان الأول .. فريد و الرومنسية
مونولوج نويت أداري آلامي كان الأستاذ فريد الأطرش قد لحّنه في العام 1936 وغنّاه، أي قبل عودة أسمهان ، ولذلك كان الهاجس الأساسي عندما لحّن هذا المونولوج، كان الأستاذ محمد عبد الوهاب.
الأستاذ فريد الأطرش مع أن عمره كان حوالي الـ21 عاماً، في عام 1936، كان يرى أنه قادر على منافسة الأستاذ عبد الوهاب ، لأنه هو يلحِّن ويغني مثلما الأستاذ عبد الوهاب ، على عكس كبار الملحنين أمثال زكريا أحمد ، و محمد القصبجي ، اللذين اكتفيا بالتلحين. ولهذا فكانت الرسائل الموجهة في مونولوج نويت أداري آلامي موجّهة إلى الأستاذ عبد الوهاب .
الأستاذ عبد الوهاب ، في عام 1935، أي قبل ذلك بعام واحد، قبل عام 1936، كان قد قدّم في فيلم دموع الحب قصيدة على إيقاع التانغو ، كان قد قدّم مزجاً لقالب أصيل في الغناء العربي، القصيدة ، مع إيقاع راقص هو التانغو ، وكان ذلك إذاً في قصيدة سهرت منه الليالي.
الأستاذ فريد الأطرش الذي كان يسير خلف الأستاذ محمد عبد الوهاب كظله، قال لماذا لا أحقق نفس الشيء؟ لماذا لا أمزج المونولوج مع التانغو ؟ وهذا شيء لم يُنفّذه الأستاذ عبد الوهاب . وفعلاً نفّذ ذلك.
ولكن قبل أن نتابع.. المونولوج ما هو؟ المونولوج كما ابتدعه الأستاذ القصبجي ، المونولوج الرومانسي ، هو عبارة عن أغنية شاعرية مرسلة دون إيقاع عموماً، تُظهِر امتدادات الصوت وجمال الصوت.
إذاً لم يكن.. كانت تتعارض هذه الصورة للمونولوج .. تتعارض مع الإيقاع الراقص للتانغو ، ومع ذلك الأستاذ فريد قال: لماذا لا أحقق هذا المزج؟
المونولوج الرومنسي مرة أخرى
قبل أن أتابع لنتأكد بالاستماع إلى مونولوج ليه يا زمان الذي قدّمته السيدة أم كلثوم في عام 1935 في فيلم وداد لنتأكد كيف كان المونولوج الرومانسي عند القصبجي ؟ مونولوج شاعري مرسَل، فيه امتدادات صوتية. كيف سيُدخِل فريد الأطرش التانغو عليه؟
إذاً لنتابع أولاً مع أم كلثوم .
(قطع إلى مونولوج ليه يا زمان لـ أم كلثوم )
ليه يا زمان كان هوايا سبب شقايا وهواني
البطء والاسترسال والامتدادات الصوتية إذاً هي عناصر هامة في المونولوج الرومانسي كما ابتدعه القصبجي.
الأستاذ عبد الوهاب عندما لحّن المونولوجات طبعاً الرومانسية ، لحّنها على الأسلوب ذاته في البطء والاسترسال، وإن كان في عام 1932 قدّم مونولوج مرّيت على بيت الحبايب وضمّنه في آخره مقطعاً على إيقاع التانغو، ولكنه، الأستاذ عبد الوهاب ، لم يُقدِم على تحويل المونولوج بكامله إلى إيقاع راقص، ولعلّ ذلك كان في رأيي تقديراً للأستاذ القصبجي، مبتدع المونولوج الذي وضعه على الشكل في البطء والاسترسال الذي شرحت.
المونولوج الرومنسي الراقص
الأستاذ فريد الأطرش عمره كان 21 عاماً، لم يُلقِ بالاً إلى هذه الأمور، وقال أنا سأحوّل كامل المونولوج الرومانسي إلى مونولوج على إيقاع التانغو ، أنا قادر على ذلك في منافستي للأستاذ عبد الوهاب .
لِنُبْقِ هذه الفكرة في الذهن ونتساءل الآن: عندما وضع هذا التانغو المونولوج الأستاذ فريد ، من أين استوحى ذلك؟ لقد كان في ذهنه قصيدة الأستاذ عبد الوهاب سهرت منه الليالي التي أسلفنا ذكرها، على إيقاع التانغو .
لكي نتأكد من ذلك ، نتابع مقدمة سهرت منه الليالي للأستاذ عبد الوهاب ، هذه المقدمة الموسيقية ستوحي للأستاذ فريد بالمقدمة الموسيقية لتانغو نويت أداري آلامي ، ولندقق في الضربات الأربع الممهِّدة في نهاية المقدمة الموسيقية للغناء عند الأستاذ عبد الوهاب ، هنا أربع ضربات، أما عند الأستاذ فريد فستصبح ست ضربات.
(قطع إلى أغنية سهرت منه الليالي لـ محمد عبد الوهاب )
سهرتُ.. منه الليالي.. ما للغرام وما لي..
إذا قارنّا هذه المقدمة الموسيقية الراقصة بمقدمة مونولوج ليه يا زمان التي استمعنا إليها قبل قليل، نلاحظ كم سيُغيِّر فريد الأطرش في قالب المونولوج الرومانسي الشاعري المرسَل، عندما سيضعه على إيقاع التانغو .
رسالة إلى أم كلثوم!
على كل حال، لِنُبْقِ هذه الفكرة في الذهن، ولنصل إلى الرسالة التي ستَلي ضمن نويت أداري آلامي ، ولم تكن هذه الرسالة موجهة للأستاذ عبد الوهاب ، بل ستكون موجهة للسيدة أم كلثوم !
رأى فريد أنه باعتبار أسمهان هي التي ستُقدّم هذه النسخة الجديدة من مونولوج نويت أداري آلامي ، عليه أن يقدّمها في أعلى سويّة ممكنة، وفي شكل مقارب للشكل الذي تقدِّم عبره السيدة أم كلثوم أغانيها.
كانت السيدة أم كلثوم في عام 1937 قد قدّمت فيلم نشيد الأمل ، وقدّمت ضمنه الأغاني مع الفرقة الموسيقية الكبيرة، مع التوزيع الهارموني ، من ألحان الأستاذ رياض السنباطي والأستاذ القصبجي . رأى فريد أن على أسمهان أن تقدَّم ضمن ذات الشكل، وفي سويّة مماثلة، لكي يرفعها رأساً إلى منافسة السيدة أم كلثوم .
لكي نتأكد لنستمع إلى مونولوج يا مجد من ألحان القصبجي وأداء السيدة أم كلثوم في فيلم نشيد الأمل عام 1937. إنه ذات الشكل الذي ستُقدَّم أسمهان عبره في مونولوج نويت أداري آلامي .
(قطع إلى مونولوج يا مجد لـ أم كلثوم )
يا مجد ياما اشتهيتك وسهرت فيك الليالي
يتبع .. القسم الثاني : مونولوج نويت أداري آلامي ورسائله التي لم تصل والتي وصلت