رؤية تاريخية وتحليلية لتطور القصيدة الغنائية العربية في المشرق العربي في القرن العشرين

ريـاض السنباطي

بالمقابل ، يمكن اعتبار رياض السنباطي آخر ملحن بقي على وفائه لقالب القصيدة التقليدي ، خاصة مع أم كلثوم ، في مرحلة الأربعينات والخمسينات ، إذ اعتمد في تلحينه القصيدة على الإيقاعات العربية الوقورة ، والبحور الشعرية التقليدية الفسيحة ، والكلمة الفصحى التي تقتضي في الإجمال لحناً مركزاً ، كما أبدع تراكيب لحنية جديدة ، تتداخل المقامات الموسيقية فيها بشكل غير مسبوق، معتمداً أسلوب الدفق اللحني المتصاعد من بداية اللحن حتى نهايته ، ومستفيداً من صياغة قفلات اللحن لقصائده المقدمة على المسرح مع السيدة أم كلثوم ، في تخافض مثير للحن يحقق استجابة تفاعلية من الجمهور المتابع لكل تفاصيل الأغنية.

لحن رياض السنباطي لأسمهان قصيدتين : ” يالعينيك ” ، عام1941 ، و ” أيها النائم ” عام 1944 ، كما لحن لأم كلثوم لاحقاً قصائد كثيرة منها ” ولد الهدى ” عام 1946 ، و ” سلوا قلبي” عام 1946 ، و ” سلوا كؤوس الطلا ” عام 1946 ، و ” نهج البردة ” عام 1946 ، و ” رباعيات الخيام ” عام 1949 ، و ” قصة الأمس ” 1958  ، قصة-الأمس-لأم-كلثوم ، وفق الأسلوب الموصوف أعلاه. ابتداءً من منتصف الستينات ، قدم رياض السنباطي رؤيته النهائية لقالب القصيدة الغنائية في قصيدتي ” أراك عصي الدمع ” 1965 ، و” الأطلال ” 1966 ، للسيدة أم كلثوم . أضفى السنباطي في القصيدة الأولى فكرة تغليف أغنية كاملة بعاطفة عابقة هي الكبرياء ، فيما حملت قصيدة “الأطلال “، التي غنتها أم كلثوم عام 1966 ، من ألحانه ، الشكل اللحني الذي يلخص ملامح التجديد الذي مر به تلحين القصيدة ، إذ اعتمد اللحن في بنائه على مقدمة موسيقية معبرة عن المعاني، مع توظيف الآلات الموسيقية لترميز المعاني الخفية في مسار القصيدة  ، إضافة إلى تقطيع اللحن في البيت الواحد حسب المعاني ، مع تقاطع مع الموسيقى ، ولكن في المقاطع المرسلة فقط ، في استبقاء لعنصر التوافق بين الجملة اللحنية والبيت الشعري ، أو إحدى شطرتيه ، في المقاطع الموقّعة. اعتمد السنباطي أيضاً بناءً عاماً للحن، استند إلى تناوب بين المقاطع المعتمدة على الإيقاع، والمقاطع المرسلة، و إلى تصاعد مستمر للحن ، وصولاً إلى ختام كل مقطع في ذروة لحنية واضحة تعود للاستقرار، وقد تبقى معلقة، إن تطلب المعنى ذلك.

فريد الأطرش

قدم فريد الأطرش قصائد كثيرة ، كان منها ، وفي  إطار أشكال السبك المتنوعة ، قصيدة هامة هي ” ختم الصبر بعدنا بالتلاقِ ” عام 1944 ، على إيقاع الـدور الهـندي، وهو إيقاع مركب درج الملحنون على توظيفه ضمن غناء الموشحات. تعتبر هذه القصيدة من أهم ما قُدم من قصائد على الإيقاعات المركبة.  إليكم تحليلي لهذه القصيدة إبرازاً لما احتوى الأداء واللحن من عناصر غير مسبوقة.


كما قدم فريد قصيدة ” يامنى روحي سلاماً ” عام 1945 ، في رثائه لشقيقته أسمهان ، و تابع ذلك في التانغو الشهير ” يا زهرة في خيالي ” عام  1947.

ما تسبب في توجيه القصيدة الغنائية باتجاهات جديدة، خاصة عندما  ظهرت ضرورة إنجاز سبك واضح بين الإيقاع الراقص غربي المنشأ، وأسلوب الأداء الشرقي، المعتمد على لحن قد يستند إلى مقام موسيقي شرقي أصيل ، في القصيدة الواحدة. قدم فريد أيضاً  قصيدة ” الشاطئ ” عام 1954 ، وتابع مع قصيدة عدت يا يوم مولدي عام 1961 ، كما أعاد تقديم قصيدة  ” أضنيتني بالهجر ” عام 1967 ، بعد أن كان غناها لأول مرة عام 1939 ،وفي الأسلوب التقليدي ،  ثم لا وعينيك 1967 ، و شعبنا يوم الفداء عام 1967 ، ووردة من دمنا 1968 و عش أنت 1972 ، أما أسمهان فقد غنت من ألحان محمد القصبجي قصيدتين من أخلد ما لحن ، وهما” ليت للبراق عيناً ” عام 1938 ، و ” أسقنيها بأبي أنت وأمي ” عام 1938 ، ومن ألحان فريد الأطرش قصيدة ” يا ليالي البشر ” 1941 .

محمد الموجي

تميز محمد الموجي في مجال القصائد الهامة التي لحنها لعبد الحليم حافظ ، ومنها : ” حبيبها ” عام 1965 ، و ” يا مالكاً قلبي ” عام 1969 ، و ” رسالة من تحت الماء” عام 1973 ، و ” قارئة الفنجان ” عام 1976  ، كما يمكن التوقف عند قصيدة ، هي من أواخر ما لحِّن الرواد من القصائد ، وهي قصيدة ” في عينيك عنواني ” ، التي أتت بصوت الفنانة سمية قيصر ، في بداية التسعينات ، من كلمات الشاعر فاروق جويدة ، و التي تقاسم اللحن فيها كل من محمد عبد الوهاب و محمد الموجي.


الأخوان رحباني وفيروز

قدمت فيروز مع الأخوين رحباني القصيدة القصيرة المختصرة ، مثل : لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب 1960 ، و ” سنرجع يوماً إلى حينا 1956  ” ، و ” شال ” ، كما غنت قصائد كثيرة للشام منها ” سائليني يا شآم ”  1960 ، و ” شآم يا ذا السيف ” 1963 ، و ” أحب دمشق ” 1973 ، و ”  يا شام عاد الصيف ” 1976 . غنت  فيروز أيضاً عدداً من الأبيات المقتطفة من قصائد من الشعر الجاهلي ، ومن القصائد الدينية ، كقصيدة ابن جبير ” أقول وآنست بالليل نارا ”  1953 ، أقول وآنست بالليل نارا ، كما قدمت مغناة راجعون 1955 و زهرة المدائن 1967 لفلسطين.


في الشام

يمكن التوقف في الشام عند تجربة نجيب السراج في قصائد عديدة ،  من أهمها قصيدة بيت الحبيبة 1958 ، من شعر نزار قباني ، وخاصة عند صياغته في جملة لحنية واحدة ، لمحات من الجمل اللحنية لكل من ” الميجانا ” و ” الأوف ” و ” الليا ” المتداولة شعبياً  ، وكذلك عند إدماجه للآهات من المجموعة ( الكورس ) ضمن البيت الشعري المتكرر بين مشاهد القصيدة ، وفق قالب الطقطوقة ، ناهيك عن التناوب بين المشاهد المرسلة والموقّعة. بيت الحبيبة لنجيب السراج

يمكن التوقف أيضاً عند تجربة عزيز غنام في تلحين القصيدة ، بناء على تركيبات إيقاعية تتوافق تماماً مع متطلبات العروض الشعري ، كما في قصيدة ” حامل الهوى تعب ” لصباح فخري ، من كلمات أبي نواس ، وعند تجربة بكري كردي وخاصة في قصيديتيه الرائعتين : ” هذه العبرة ” ، و ” طرفها سهم وقلبي هدف ” من كلمات حسام الدين الخطيب ، اللتين غناهما الأستاذ صباح فخري.


وأخيراً

رأينا أن الملحنين العرب قاموا بتداول القصيدة الشعرية وفق قوالب تلحينية مختلفة ، أهمها قالب المونولوج الرومنسي. بالمقابل ، استقرت القصيدة الغنائية كقالب خاص على أسلوب محدد ، يعتمد امتداد الجملة اللحنية على طول البيت الشعري الواحد ، دون توقفات داخلية ، أو تقاطعات مع الموسيقى ، محتفظة في ذلك بجذورها كإنشاد محسن للشعر ، مع التساهل في تكرار كلمة البداية في البيت ، وفق ما يقوم به الشاعر عادة أثناء إلقائه لقصيدته ، كما مثلاً في تكرار كلمة ” تٌرى ” في قصيدة ” في عينيك عنواني ” لسمية قيصر ، التي عرضنا لها أعلاه ،  أو كلمة ” عيناكِ ” في قصيدة “عيناكِ ” لخالد الشيخ.  اعتمد قالب القصيدة الغنائية أيضاً على القفلات التطريبية ، وتقسيم القصيدة إلى مشاهد مشكلة كل منها من بيت واحد أو أكثر ، حيث يختص كل مشهد بمقدمة موسيقية خاصة ، قد تتغير على طول المشاهد ، أو تكرر ، محتفظاً بالمشاهد المرسلة ، في استبقاء لجذور القصيدة التقليدية المرسلة دون إيقاع ، مع السماح بالتوقفات التعبيرية أثناء أداء تلك المشاهد المرسلة ، كما اعتمد قالب القصيدة الغنائية تصاعدَ اللحن وتكثيفه ، وزيادة درجة توتره ، تدريجياً ، في جمل متلاحقة ومتصاعدة ، وصولاً إلى ذروة قبيل اختتامها.

انحسرت القصيدة الغنائية في الألحان الجديدة ، مع انحسار أهميتها في عالم عربي لم يعد يهتم لا بلغته ولا بغنائه ، ولولا إقبال بعض الأصوات المعاصرة على قصائد نزار قباني لتقديمها بسبب جماهيريتها ، لغابت القصيدة نهائياً عن ساحة الغناء العربي المعاصر!

د. سعد الله آغا القلعة

مواد منشورة في الموسوعة تتعلق بالقصيدة الغنائية

Tagged , , , , , , , , , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading