رؤية تاريخية وتحليلية لتطور القصيدة الغنائية العربية في المشرق العربي في القرن العشرين

تطوير القصيدة الغنائية

تسبب توجه العالم العربي إلى إعادة الاعتبار للغة العربية ، في إطار بروز المشاعر القومية ، بعد الحرب العالمية الأولى ، متزامناً مع نمو بعدي التعبير عن المعاني ، وزيادة الجرعة الموسيقية في الألحان الجديدة ، في توجه الملحنين إلى إدماج الشعر في مختلف القوالب الغنائية ، قديمها كالطقطوقة ،  وحديثها كالمونولوج الرومنسي ، أو إلى بناء ألحان للقصائد ، على إيقاعات وافدة كالتانغو والرومبا ، ثم إلى التفنن في تشكيل ألحان تلك القصائد ، من تداخلات ذوقية لتلك القوالب والإيقاعات ، في تجارب قام بها أساساً كل من محمد عبد الوهاب و رياض السنباطي و فريد الأطرش و محمد القصبجي على وجه الخصوص ، بحيث غابت الحدود بين القوالب ، و تأكد تلازم مسار تطور تلحين القصيدة ، مع مسارات تطور تلحين القوالب الأخرى.

في البداية ، قدم محمد عبد الوهاب قصائده الغنائية الأولى من ألحانه ، على أسلوب عبده الحمولي وأبي العلا محمد ، ومنها ” تعالي نفن نفسينا غراماً ” 1924 ، و ” منك يا هاجر دائي ” 1924 ، و ” علموه كيف يجفو  ” 1932 ، فيما جاءت قصيدة ” يا جارة الوادي ” 1928  وفق الأصول ، إلا في أن ختامها ، إذ أتى ختامها على درجة استقرار صوتية تختلف عن درجة استقرار المقام الرئيسي ، وكان ذلك لحاجة صوتية لا علاقة لها بسير اللحن ، كما كنت أوضحت في برنامج ” عبد الوهاب مرآة عصره “.

كان لتأسيس محمد القصبجي قالب المونولوج الرومنسي ، على نصوصٍ لأحمد رامي بالعامية ، منذ منتصف العشرينات ، أثره البالغ في تطوير أساليب تلحين الشعر ، إذ اعتمد القصبجي مقدمة موسيقية خاصة للمونولوج ، و لم يلتزم فيه بامتداد اللحن على طول البيت ، معتمداً بالمقابل امتداداتٍ وتوقفات للأداء الغنائي تتصل بالمعاني الرومنسية لا بالوزن الشعري ، إضافة إلى تنويع الإيقاعات وزيادة الجرعة الموسيقية في اللحن.

وفي هذا السياق ، أقدم محمد عبد الوهاب ، على تجديد قالب القصيدة الغنائية ، من خلال إدماج عناصر المونولوج الرومنسي فيه ، محولاً القصيدة إلى مونولوج رومنسي شعري ، فقام بوضع مقدمة موسيقية خاصة للقصيدة ، و بتقطيع اللحن حسب المعاني  ضمن البيت الشعري ، وليس وفق تقطيع الشطرات ، و وبنفكيك  إيقاع الشعر الذي تميّز به تلحين القصيدة القديمة ، مركزاً على إبراز نبضات اللفظ لحنياً . اعتمد عبد الوهاب أيضاً التغييرات الإيقاعية ، و الامتدادات الصوتية ، وأضاف أسلوب الإلقاء الغنائي ، مع مشاهد مرسلة ، مبتعداً عن أسلوب التطريب العابق عادة في أداء القصيدة الغنائية. أتى ذلك مثلاً في مونولوج ” على غصون البان ” 1928 ، و مونولوج  ” الهوى والشباب  ” 1931 ، و رثائية ” أيها الراقدون تحت التراب ” 1935 ، التي أتت أيضاً على قالب المونولوج ، حيث اعتمد عبد الوهاب في تلحينه لهذه القصيدة لحناً متدفقاً لا تكرار فيه ، مع إدخاله عنصر التكرار ، من خلال مقطع موسيقي قصير ، كان افتتح به القصيدة الرثائية ، وصولاً إلى قصيدة ” الجندول ” 1941 ، وهي في الواقع قصيدة – موشح من الناحية الشعرية ، فجمع إلى عناصر قالب القصيدة التقليدية ، الامتدادات الصوتية ، و التغييرات الإيقاعية ،  مع لوازم موسيقية مفاجئة مستوحاة أيضاً من قالب المونولوج الرومنسي ، وفق ما رسخه محمد القصبجي ، كما استعار تكرار غناء بعض الأبيات من قالب الطقطوقة ، و الغناء المرسل من الموال ، أو من القصيدة القديمة المرسلة.


لم يقدم محمد القصبجي في البداية على مجاراة عبد الوهاب ، وبقي يتعامل مع تلحين القصائد وفق الأسلوب التقليدي ، سواء مع أم كلثوم ، إذ كانت أم كلثوم تتمسك بأسلوب الحمولي وأبي العلا ،  أو مع أسمهان ، حيث جاءت ألحانه الأولى لها ، عام 1932 ، على قوالب الطقطوقة والقصيدة التقليدية والمونولوج الرومنسي بالعامية. ومع ذلك يمكن رصد بداية التحول عنده في لحنه لقصيدة ” خاصمتني ” لأم كلثوم ، خاصمتني لأم كلثوم ،  الذي أتى وفق أسلوب المونولوج الرومنسي الشعري .

بالمقابل ، تركز تجديد محمد القصبجي لقالب القصيدة الغنائية على البعد الموسيقي ، إضافة إلى ما كان فعله في إرسائه لقالب المونولوج ، وذلك من خلال إبراز أوضح لدور الفرقة الموسيقية في أداء فواصل موسيقية ، أصبح لها دور يوازن دور الصوت البشري في أداء القصيدة الغنائية ، من خلال إنشاء حوار بين المقاطع المغناة والموسيقية ، يخالف الدور المتواضع الذي كان لها ، في أداء ما كان يسمى اللوازم الموسيقية البسيطة ، التي كانت الغاية منها إكمال دورة الإيقاع ، ما أسهم في تعميق إلغاء التوافق الموصوف في الأسلوب التقليدي في تلحين القصيدة بين الجملة اللحنية والبيت الشعري ، تجسد هذا مثلاً في قصيدة أسقنيها التي لحنها القصبجي لأسمهان عام 1939.


عندما ندمج أسلوبي عبد الوهاب والقصبجي ، المعتمدين أساساً على قالب المونولوج الرومنسي ، إضافة إلى المشترك بينهما في اعتماد التعبير اللحني عن المعاني أثناء الغناء ، مع ما يتطلبه ذلك من توقفات أثناء الغناء ، عند وجود معان جزئية ضمن البيت الشعري الواحد ، لتتقاطع مع لوازم موسيقية تعبيرية ، لم تعد “لازمة ” لإكمال الإيقاع ، بل لتقوم بدور حواري مع الأقسام المغناة ، فإننا نستكمل الرؤية المتكاملة للتجديد العام في أسلوب تلحين القصيدة الغنائية ، الذي ابتعد بها عن القالب الأصلي ، و جعلها تندرج في إطار ما أسميه المونولوج الرومنسي الشعري. مع الوقت ، أصبحت القصيدة تقدم أيضاً مع تكرار ألحان ضمن البناء الأساسي، في اقتراب من قالب الطقطوقة، كما في قصيدة ” سوف أحيا ”  1955 لفيروز ، أو إضافة مقاطع مرسلة ، في استعادة للشكل المرتجل القديم.


التطوير التالي جاء من عبد الوهاب ، عندما قدم القصيدة الراقصة ابتداءً من عام 1933 ، في قصيدة ” جفنه علم الغزل ” على إيقاع الرومبا جفنه-علم-الغزل ، ثم ” سهرت منه الليالي ” عام 1935 ، على إيقاع التانغو، وصولاً إلى ” عندما يأتي المساء ” عام1937 ، على إيقاع الكوكارتشا.

من أهم القصائد التي غناها محمد عبد الوهاب: ” خدعوها بقولهم حسناء” عام 1927 ، و ” ياجارة الوادي ” عام 1928 ، و ” يا ناعماً ” عام 1929 ، و ” الهوى والشباب” عام 1931 ، و ” علموه كيف يجفو” عام 1932 ، و ” الصبا والجمال ” عام 1939 ، و ” الجندول ” عام 1940 ، و ” مضناك جفاه مرقده ” عام 1942 ، و ” الكرنك ” عام 1942 ، و ” كليوبترة ” عام 1944 ، و ” لست أدري” عام 1944 ، التي قدمت لأول مرة نفحات فلسفية في الغناء العربي ، و ” همسة حائرة ” عام 1946 ، و ” جبل التوباد ” عام 1951 ، كما لحن قصائد أخرى لغيره ، منها : قصيدة  ” أيظن ” عام 1960  لنجاة ، و ” لاتكذبي ” عام 1962 التي غنتها نجاة وغناها عبد الحليم حافظ ، و ” أنت قلبي ” عام 1967 التي غناها عبد الحليم أيضاً ، وصولاً إلى قصيدة ” أسألك الرحيل ” التي غنتها نجاة 1990 ، و قصيدة ” منك يا هاجر دائي ” ، منك يا هاجر دائي لسمية ، التي أعاد عبد الوهاب تقديمها بلحن جديد لسمية قيصر ، اعتمد فيه إيقاع المصمودي ، وهو من إيقاعات الموشحات ، و أدخل المجموعة ” المذهبجية ” من قالب الطقطوقة ، مع تكرار المذهب كما في ذلك القالب ، مبقياً على المشاهد المرسلة ، كما في مشهد ” ليتني ” ، مستوحياً قالب المونولوج ، بما يجعل تلك القصيدة تجسيدأ واضحاً للمزج بين قوالب عديدة ، يجمعها أن الأغنية تقدم باللغة العربية الفصحى!


يرجى المتابعة من خلال الرقم 3 في أسفل الصفحة

Tagged , , , , , , , , , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading