رؤية تاريخية وتحليلية لتطور القصيدة الغنائية العربية في المشرق العربي في القرن العشرين

شعار كتاب الأغاني الثاني

تقديم

أقدم فيما يلي رؤيتي التاريخية والتحليلية ، أي في المضمون الفني والسياق التاريخي ، لتطور قالب القصيدة الغنائية في المشرق العربي في القرن العشرين. طبعاً لا يمكن الإحاطة بكل ما أنتجه كبار الملحنين والمطربين في هذا الإطار، ولكنني توقفت عند أمثلة ، ضمت في خلاياها العناصر الجديدة ، التي حملت بذور التطور فاتبعها الآخرون لاحقاً.

رؤية تاريخية وتحليلية

اعتمد الغناء العربي في شبه الجزيرة العربية منذ بداياته في العصر الجاهلي ، على الشعر كأساس ، يبنى عليه تنغيم بسيط موقّع، بحيث اعتبر الناتج إلقاءً محسناً للشعر. استدعى هذا الواقع أن يتطابق إيقاع اللحن مع إيقاع الشعر تطابقاً تاماً. ثم ظهر نمط جديد من الغناء سمي “الغناء المتقن “،  مع بروز تأثيرات الألحان السائدة في الشام والعراق ، أمكن فيه أن يختلف إيقاع اللحن عن إيقاع الشعر، ضمن ما تسمح به اللغة أصلاً، من مدٍ لبعض الأحرف ، وخطفٍ لأحرفٍ أخرى، وهكذا بدا أن غناء القصيدة اعتمد منذ بداياته على ألحان تعتمد على الإيقاع وفق ما ورد في كتاب الأغاني.

ولكن الشواهد التي وصلتنا من مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، بصوت سلامة حجازي ، الذي اعتمد القصيدة المرسلة ، أو التي بقيت تؤدى في حلب  ، الناشر الأهم للتراث منذ  العصور الوسيطة و حتى أيامنا هذه ، ضمن وصلاتها الغنائية ، تبين أن القصيدة الغنائية السائدة في العصر الوسيط ، وحتى بداية النهضة الموسيقية العربية الحديثة ، كانت إما مرسلة الأداء ، تؤدى مرتجلة من قبل المطرب ، وفق قدراته الصوتية ومعارفه في المقامات الموسيقية وتفرعاتها ،  أو ملحنة وفق أسلوب تلحين الموشحات الوافد من الأندلس والمعتمد على الإيقاعات المركبة.

تابع الأستاذ صباح فخري هذا التقليد المتوارث في حلب ، فأتت أغلب القصائد التي غنّاها معتمدة على الأسلوب المرسل ، كما في قصيدة ” يامن يرى أدمعي ” ، في ارتجال ذوقي من قبله في البداية ، يتبعه مع الوقت تثبيت للّحن وتكراره ، لتصبح القصيدة ملحّنة ومرسلة ، وذلك وفق الأسلوب الذي كان أرساه أيضاً محمد عبد الوهاب ، في تثبيت ألحان مواويله ، بعد أن أسهمت الأسطوانة في تثبيتها ، وسيرورتها بين مقلديه.


كانت الوصلة الغنائية في حلب تتكون من ثلاث فقرات ، تبدأ الفقرة الأولى بوصلة من الموشحات ، لتأتي فقرة ثانية مخصصة لأداء القصيدة المرسلة المرتجلة من قبل المطرب ، مع التغني بكلمة يا ليل ، بمصاحبة آلة القانون تحديداً ، لتأتي الفقرة الثالثة والأخيرة ، وتتضمن وصلة من القدود الحلبية والأغاني الشعبية ، يتخللها أداء الموّال المرتجل المرسل ، بمرافقة آلة الكمان تحديداً. في فترة لاحقة أضيفت فقرة رابعة لتقديم الدور ، قبل وصلة القدود الحلبية ، بعد أن استقر كقالب غنائي رئيسي منذ نهايات القرن التاسع عشر. وبالتالي فقد كانت القصيدة تشكل فقرة غنائية خاصة تخصص للمطرب ، لاستعراض قدراته الصوتية ، ومعرفته بمسالك المقامات .. وتفرعاتها.


كان عبده الحمولي، الذي عاش في نهاية القرن التاسع عشر، وسجل بعض الأسطوانات البدائية، أول من أرسى دعائم أسلوب التلحين التقليدي للقصيدة ، المعتمد على الإيقاع ، كما يظهر من قصيدة ” أراك عصـي الدمع “، التي غنتها أم كلثوم من ألحانه.

ولاشك في أن أبا العلا محمد، الذي عمل في بطانته، كان له الـدور الأهم في إرساء دعائم هذا الأسلوب وفي إنتشاره ، من خلال ما لحنه وغناه ووثقه في الأسطوانات ، كما كان لأم كلثوم الدور الأهم في انتشاره الواسع لاحقاً، عندما اعتمدته ووثقته في أسطواناتها ، كما في قصائد ” الصب تفضحه عيونه ” الصب-تفضحه-عيونه  و ” وحقك أنت المنى والطلب “.

اعتمد الأسلوبان القديمان ( المرسل والموقّع ) على عناصر مشتركة ، فالأداء الغنائي يتطلب قدرة صوتية متميزة ، ومساحة صوتية واسعة ، و تمكناً في ترجيف الصوت ، وفي أداء قفلات تطريبية ، تتطلب سيطرة كاملة على تنقل الصوت عبر الأصوات الموسيقية المتلاحقة ، ناهيك عن ضرورة إحكام اللفظ ، وضبطه وفق أحكام التجويد المعتمدة في تلاوة القرآن ، من حيث الإيقاع اللفظي ، و التشديد على مخارج الحروف. بالمقابل ، درجت العادة على أن يُمهد للقصيدة الغنائية ، بدولاب، كما أي أغنية ، وهو مقطوعة موسيقية تمهيدية بسيطة متكررة اللحن لكل مقام موسيقي ، إضافة إلى بدء الغناء بمقام موسيقي محدد، والعودة إليه في النهاية، مهما كانت التفرعات الواردة ضمن لحن القصيدة الملحنة أو المرسلة المرتجلة.

عبده الحمولي

عبده الحمولي

استند أسلوب التلحين الموقّع ، والذي يبنى أساساً على إيقاع الوحدة الكبيرة ، على قاعدة ثابتة ، تستوجب وجود جملة لحنية خاصة لكل بيت من أبيات القصيدة ، وأن تمتد الجملة اللحنية الخاصة بالبيت على طوله ، تبدأ مع بدايته وتنتهي بنهايته ، في توافق مباشر مع ما ساد في الشعر العربي التقليدي ، من ضرورة اكتمال الفكرة الشعرية في بيت واحد، ضمن القصيدة متغيرة الأفكار والصور الشعرية ، واعتبار ما خالف ذلك ، من توظيف أكثرَ من بيتٍ لإكمال الفكرة الشعرية ، ضعفاً لدى الشاعر.
تستوجب القاعدة ذاتُها استقرار اللحن في البيت الأول ، على درجة استقرار المقام الرئيسي، لتأتي لوازم موسيقية ارتجالية ، قد تكرر اللحن الغنائي، وقد تمهد للبيت الغنائي التالي، الذي قد يعتمد على مقام الأغنية الأساسي، أو على تفرع مقامي جديد، مع ضرورة التمسك بالعودة إلى استقرار المقام الفرعي ، في نهاية لحن كل بيت ، أو المقام الأساسي في البيت الأخير، في توافق مباشر أيضاً مع الضرورات الشعرية، في اعتماد القافية والروي في نهاية كل بيت شعري، ومع ما ساد أيضاً فيما سمي بيت القصيد، وهو البيت الأخير من القصيدة الذي يلخص المعنى العام.

يرجى المتابعة من خلال الرقم 2 في أسفل الصفحة


Tagged , , , , , , , , , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading