يقصد بالتوزيع الهارموني استخدام تمازج الأصوات بشكل متزامن ومتناغم، لإضفاء مسحة تعبيرية أو جمالية على اللحن الأصلي. ويعتبر التوزيع الموسيقي نتيجة طبيعية للصنعة التلحينية وللفكر الموسيقي، في حين ينظر إلى الإيقاع واللحن،على أنهما من الإبداعات الفطرية عند الإنسان، التي داخلتها الصنعة لاحقاً، عندما سعى الإنسان إلى وضعها في قوالب محددة.
تطور تمازج الأصوات
ظهر أول ذكر لتمازج الأصوات المنسجمة عربياً في كتب الكندي في القرن التاسع الميلادي، كما تعود الإشارات الأولى لتمازج الأصوات في الغرب إلى القرن التاسع أيضاً، حيث طُبِّق الأورجانوم وهو عبارة عن أداء متزامن لأصوات يلذ وقعها للأذن، ثم ظهرت بعد حوالي مئتي سنة، إمكانيات أن يتحرك اللحنان المتمازجان في اتجاهين مختلفين صعوداً وهبوطاً، وسميت هذه الطريقة الديسكانت. شهد القرن العشرون تطوراً كبيراً في الأساليب الهارمونية، التي تتنوع وتتجدد مع مرور الزمن، محافظة على سعيها لإضفاء الأبعاد التعبيرية الإضافية على الفكرة اللحنية الأصلية.
التوزيع الهارموني في الموسيقى العربية
يولد التوزيع الهارموني في الموسيقى الغربية مع الفكرة اللحنية الأساسية، أو ينتج عنها، حسبما يريد المؤلف الموسيقي، الذي يضع الفكرة ويقوم بالتوزيع اللازم لها. أما في الموسيقى العربية، وبسبب بعد كبار الملحنين العرب عن دراسة هذه الأساليب المتداولة في الموسيقى الغربية، فقد تم اللجوء إلى التسلسل التالي: يضع الملحن الفكرة اللحنية المرتبطة بالنص المطروح للتلحين، ثم يأتي دور موزع مختص لتوظيف التوزيع الآلي ( تنويع الآلات الموسيقية في مقاطع مستقلة ) ، أو التوزيع الهارموني في مزج الأصوات الأساسية للحن، مع أصوات موسيقية أخرى تتوافق معها، وتضفي أبعاداً تعبيرية جديدة. ساهم هذا في توسيع الفرقة الموسيقية العربية.
كان المسيو كاسيو، الذي عمل مع سيد درويش في مسرحه الغنائي، أول من أدخل التوزيع إلى ألحان سيد درويش، الذي استخدم بنفسه البوليفوني ( تمازج الألحان ) غناءً في نهاية الفصل الأول من مسرحية ( شهرزاد ) ، كما اعتمد محمد القصبجي على عزيز صادق في توزيع أعماله مع أم كلثوم، اعتباراً من أغاني فيلم “نشيد الأمل ” عام 1937 ، وكذلك فعل محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ورياض السنباطي .قام عزيز صادق بتوزيع ” نشيد الجامعة “عام 1937 ، من ألحان رياض السنباطي في فيلم نشيد الأمل، وكذلك أوبريت ” قيس وليلى ” عام 1939 ، لمحمد عبد الوهاب، و تانغو “نويت أداري آلامي ” عام 1938 لأسمهان ، وأوبريت ” انتصار الشباب ” عام 1941 ، من ألحان فريد الأطرش. نذكر أيضاً مساهمات أندريه رايدر في توزيع أعمال محمد عبد الوهاب لاحقاً، وعلي اسماعيل مع عبد الحليم حافظ في قصيدة ” لاتكذبي ” مثلاً، وعبد الحليم نويرة مع محمد القصبجي في فالس” أنا قلبي دليلي ” لليلى مراد، إضافة إلى مساهمات ابراهيم حجاج ومحمد حسن الشجاعي وفؤاد الظاهري.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الرحابنة قاموا بتوزيع أعمالهم للسيدة فيروز، أي أنهم قاموا بأعمال التلحين والتوزيع معاً، في توجه خاص قلما ظهر عند الملحنين العرب.
تسبب التوزيع في إطلاق شهرة بعض الملحنين في بداياتهم، كما حصل مع الفنان عمار الشريعي، عندما قام بتوزيع أعمال فريد الأطرش فلفت الأنظار إليه.
توقفت هنا عند ” نشيد الجامعة ” ، لأنه تضمن توزيعاً هارمونياً من عزيز صادق للحن السنباطي ، الذي أتى على مقام الراست ، المبني على أرباع الأصوات ، وكانت هذه تجربة غنية وغير مسبوقة ، إذ تركز التوزيع الهارموني في الموسيقى الغربية على المقامات المسماة: المعدلة ، وهي الماجور والمينور ، و جارتها التجارب في الموسيقى العربية، فنفذت التوزيع الهارموني على ألحان بنيت على المقامات الموسيقية العربية التي لا تتضمن أرباع الأصوات ، كمقامي العجم والنهاوند ،ورغم ذلك ، لم تشر أدبيات الموسيقى العربية إلى تجربة التوزيع الهارموني في ” نشيد الجامعة ” ، رغم أهميتها.
وفيما بعد خاض الأخوان رحباني بعض التجارب لإضفاء التوزيع الهارموني على المقامات الشرقية ، فيما تخصص الموسيقار السوري نوري اسكندر في هذا المجال.