موشح العناية صدف : عندما تطرح الموشحات الأسئلة الكبرى في الحياة!

شعار كتاب الأغاني الثاني

كثيراً ما يُعاب على الموشحات ، و على الغناء القديم عموماُ ، أنه ركَّز على الغزل والعواطف ومشاعر الحب ، ولم يتعرض لمواضيعَ أخرى ، تعالج هموم الإنسان ، أو محاولاته لفهم ما يدور حوله ، و لإدراك أساس وجوده في هذا الكون .. وهذا صحيح نسبياً ، ويتصل بسوق الغناء المستهدف قديماً ، والذي كان في الغالب سهرات الأثرياء ، الباحثين عن ما يخفف عنهم عمل اليوم .. ما تسبب في ابتعاد المغنين والملحنين عن مواضيع ، قد تعكر صفو جلسة الغناء..

ومع ذلك ، فقد تم توظيف عناصر الغناء في مسارات أخرى ، ومنها مثلاً ، الإنشادُ الديني ، أو ما سبق وأشرتُ إليه في حديث سابق ، في أخبار كتاب الأغاني ، على موقعي على الإنترنت ، حول ما كتبه أبو العتاهية لهارون الرشيد ، مذكراً إياه بعِبَر الحياة ..

العنايا صدف - العنوان - مصغراليوم سأتوقف عند موشح ، وثقه كتاب ” من كنوزنا ”  ، للدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة ، الصادر عام 1955 ، ودوَّنه الأستاذ نديم الدرويش ابن الشيخ علي الدرويش ، ووثقه غناءاً الأستاذ صباح فخري : العناية صدف ..


موشح يطرح الأسئلة الكبرى

العناية صدفلنتابع أولاً الكلمات ، كما وردت في الكتاب ، ولنتوقف عند معانيها ، والأسئلة الكبرى التي تطرحها ، وخاصة حول حيرة الإنسان أمام أسباب النجاح في الحياة .. وهل يعود النجاح إلى الصدف ، أم إلى سعي الإنسان وعمله ..؟ وإذا عممنا الأسئلة المطروحة لوصلنا إلى السؤال الاساس : هل الإنسان مسيَّرٌ أم مخيَّر ؟ وهو سؤال شهير حاول كثير من العلماء الإجابة عليه ، لم يكن آخرهم العلامة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه : الإنسان ، مسيَّر أم مخيَّر ، الصادر عن دار الفكر بدمشق.

في البداية دققت المقصود من كلمة : العنايا الواردة في بداية النص ، فهل هي جمعٌ محتملٌ لكلمة عناء ؟ أم أن المقصود هو العناية ؟ ولما لم أجد لكلمة العنايا  ذكراً  في القاموس المحيط ، أوغيره من القواميس والمعاجم ، فقد اعتمدت أنها : العناية ، خاصة أن مصطلح : العناية صدف ، مصطلح متداول لدى أهل التصوف ، وخلاصته ، أن الفيوضات الإلهية تأتي بغتة ، كيلا يتعلل العباد بحسن الإستعداد ، و أن العناية حظ ، و لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وسرعان ما أكد التسجيل أن المقصود : العناية ..

النص من حيث الشكل وارتباطه بقالب الموشح التلحيني

نقطة ثانية حول النص من حيث الشكل: لم يكن موقع ( الخانة ) دقيقاً بين الأبيات وفق أسلوب فن الموشحات الشعري : هناك ثلاثة أبيات أولى، كما يبين النص في الصورة أعلاه ،  متماثلة في الوزن و بقوافٍ متماثلة أيضاً في الشطرات الأولى ونهايات الأبيات ، وهي تشكل الدور الأول ( بيتان ) ونصف الدور الثاني ، فيما أكمل الدورَ الثاني بيتٌ بقافيتين لشطرتيه مختلفتين عن قوافي الأبيات الثلاثة الاولى، لتأتي الخانة المشكلة من ثلاث شطرات متماثلة القافية ، ليكمل الغطاء ببيتين مماثلين في القوافي للبيت الذي أكمل الدور الثاني أعلاه. والأصح كان ، وفق فن الموشحات الشعري ، أن تأتي الأبيات الثلاثة أولاً ، ثم الخانة ، ثم الأبيات الثالثة التالية وفق ما يلي:

العناية صدف           في خبايا الأيام
والعطايا  تحف          لا بسعي الأقدام
قد عرف من عرف       وجهل من قد لام

قد عطا رب ساهر  وحرم رب قاهر  هكذا العقل حائر

لا   تعول   على     غير أهل الصدق
لست ترقى العلا     في البها والحذق
يسعد الله من شا     ومن شاء يشقي

والواقع أن السبب في تغيير مواقع الابيات أتى لتحقيق قالب الموشح التلحيني ، من حيث ضرورة وجود دورين في البداية ، بلحن متكرر ، وكل دور مشكل من بيتين ، وهذا بمجمله يستلزم أربعة أبيات ، ما تسبب في نقل أحد أبيات الكتلة الثانية إلى الأعلى ، ليبقى البيتان الأخيران ، ليشكلا ما يسمى الغطاء ، الذي بدوره عليه أن يكون مماثلاً للأدوار في عدد الأبيات ، أي أن يأتي ببيتين ، لأنه سيكون بذات لحن الدورين الأول والثاني المتكرر.


لنتابع التسجيل كما سجله الأستاذ صباح فخري:


اللحن يعبر عن حالة الحيرة

إذا دققنا في اللحن سنجد أنه أتى على مقام الصبا ، الحزين عادة ، مع إعطاء الإيقاع نفحة من الحيوية ، لتخفيف مزاج الحزن ، وتحويله إلى مزاج الحيرة ، كما نلاحظ أن اللحن دار حول خمسة أصوات فقط ، دون أن يمتد لمساحات صوتية أكبر ، كما هي العادة في الموشحات ، ما يعبر أيضاً عن دوران التساؤلات في ذهن كاتب النص ، دون إجابات واضحة ، ويؤكد ذلك أن لحن ما يسمى بالخانة ، وهو القسم المخصص للمطرب منفرداً ، والذي عادة ما يحقق الذروة اللحنية ، أبقى على محدودية المساحة الصوتية ، وعلى دوران اللحن ضمن الأصوات الخمس التي أحاطت باللحن.


لماذا أثار هذا الموشح تردد المغنين والمنشدين في تسجيله كاملاً ؟

لنتابع التسجيل التالي للموشح بصوت السيد أحمد شكري  حيث أصبحت الخانة:

قد عطا رب ساهر  وحرم رب ماهر هكذا العقل حائر

 


الشيخ درويش الحريري سجل هذا الموشح عام 1932 ، ضمن تسجيلات مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1932 ، ولكنه سجله بدون خانة ، وقد يقال بأنه استبعد الخانات ، في أغلب تسجيلاته لصالح المؤتمر ، وهذا صحيح ، ولكن الإذاعة التونسية ، اسنبعدت الخانة أيضاً ، عندما وثَّقت هذا الموشح ، كما أنها قدمته بسرعة مختلفة ، كما يبين التسجيل التالي:


فهل أن الخانة أضيفت في حلب ؟  أم أنها موجودة في أصل الموشح واستُبعدت ، لأنها تطرح الأسئلة  بوضوح أكثر ..؟ ففي الأبيات هناك عموماً دعوة لقبول الواقع  الموصوف ، فقد ” جَهِل من قد لام ” ، وفق ما جاء في النص ، لأن ” الله يسعد من شاء ، ومن شاء يشقي ” ( الأصح : من شا بدون همزة ، لتوفير التماثل مع كلمة العلا في البيت السابق في الروي  ) ، أما الخانة ، فإنك تراها تطرح بوضوح حيرة العقل ، أمام ذلك الواقع ، وكأنها كانت تشكل ذروة في التساؤل الاساس، بعد طرح الواقع في الأبيات الأولى ، قبل أن تعود الأبيات الأخيرة للدعوة لقبول الواقع .. وما يؤكد احتمال استبعاد الخانة ، رصدي لتقديم هذا الموشح في حلب أحياناً ، من قبل بعض المطربين ، مع استبدال كلمة “قاهر” التي وردت في الخانة بكلمة “ماهر” .. كما في التسجيل التالي ، بصوت السيد أحمد شكري من حلب.. فيما سجله الأستاذ صباح فخري ، كما تابعنا أعلاه ، بنسخته الكاملة ..  ما يؤكد أن الخانة كانت ، بنصها ، مثيرةً للتردد عند المغنين ..

ومن هنا نكتشف  أسباب اكتفاء الغناء القديم بمواضيعه العاطفية المعروفة .. وابتعاده عن كل ما قد يثير الجدل..!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading