حلب .. مركز الإشعاع الموسيقي في المشرق العربي
عُرفت حلب لمئات من السنين خلت ،على أنها المدينة التجارية الأهم في المشرق العربي ، حيث تتلاقى طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب. تسبب هذا الواقع في نمو القوة الاقتصادية للمدينة ، وبروز مظاهر الترف والغنى فيها ، فتحولت بالنتيجة إلى مركز موسيقي رئيسي ، بتحريض من التجار الأثرياء ، توافرت له عناصر الاختزان والابتكار والتنافس ، التي جعلته قادراً على تحريض تطور فنانيه ، وعلى جذب فناني العالم العربي لزيارته أو الإقامة فيه ، فيما أَصبحت القوافل التجارية واسطة النشرالموسيقي و التفاعل و التكامل مع العالم .
استمر تأثير مركز حلب ، حتى افتتاح قناة السويس عام 1869 ، ومن ثم انفصال سورية عن الامبراطورية العثمانية ، وفقدان حلب للتواصل مع العراق ، بسبب وقوع سورية تحت الإنتداب الفرنسي ، والعراق تحت النفوذ البريطاني ، و ما تلا ذلك من حرمانها من مينائها الأساسي “الإسكندرون ” مع أَوربا، فتحول هذا المركز إلى موئل وناشر للأصالة الموسيقية العربية ، كما اختزنها لمئات خلت من السنين ، فيما أصبحت القاهرة المركز الجديد المنفتح على مستجدات القرن العشرين.
أتوقف اليوم في المقال التالي ، عند تيارات تجديدية موسيقية ، وُلدت في حلب ، ولم تُعرف كثيراً ، لأنها لم تسع للانتشار خارج حلب.. من خلال رائد التجديد الموسيقي في حلب .. أحمد الأوبري.
تيار التجديد في غناء حلب يجد مجاله في المعهد الموسيقي والإذاعة
نعم.. لقد أخفت هذه الصورة الغالبة التي جعلت من حلب رمزاً للأصالة الموسيقية العربية ، وحامياً لتراثها ، تيارات موسيقية تجديدية أخرى كانت تسعى لرسم طريقها في حلب ، يعيقها أنها غير مطلوبة في المناسبات الاجتماعية الحلبية ، فأسهم في تحفيزها قيام الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة بتأسيس أول معهد موسيقي في حلب عام 1946 أولاً ، من خلال تدريس أساسياتها للطلاب ، وعرض نتاجها في الحفلات التي كان يقيمها المعهد ، ثم إذاعة حلب عام 1949 ثانياً ، التي أفردت لتلك التيارات الناشئة مساحة كافية إلى جانب تيار الأصالة الأساسي . إلا أن تيارات التجديد اكتفت بما حصلت عليه ، فلم تسع للانتشار خارج حلب ، فيما استطاع تيار الأصالة ، وخاصة مع الأستاذ صباح فخري ، أن يخرج إلى محيطه القريب في دمشق أولاً ، ومن ثم إلى لبنان وسائر أقطار العالم العربي، حاملاً تراث حلب بما فيه من ألحان قديمة وجديدة ، كألحان عمر البطش و بكري كردي مثلاً ، التي للمفارقة كانت وضعت بشكل متزامن مع ما كان ينتجه تيار التجديد في ذلك الوقت ، ولكنها وجدت انتشارها من خلال اندماجها مع نتاج التراث الحلبي الغنائي الذي اختزن عبر مئات السنين . بقي تيار التجديد في حلب ، إما لاكتفائه بالوصول إلى الجمهور الحلبي عبر الحفلات والإذاعة ، أو لأنه لم يكن قادراً على المنافسة خارج حلب ، بسبب افتقاده للصوت القادر على نشر نتاجه من الألحان ، وإن وجد ، كصوت زكية حمدان مثلاً ، إلا أنه سرعان ما كان يجد ذلك الصوت ، وقد اجتذبته مراكز أخرى ناشئة ، اعتمدت التجديد و الحداثة عنواناً لها ، كبيروت.
الريادة لأحمد الأوبري
كانت ريادة تيار التجديد هذا قد عقدت في حلب للأستاذ الموسيقي والملحن والباحث أحمد الأوبري ، الذي وصفه الأستاذ صميم الشريف بأوصاف قد يستغربها البعض ، لأنها لا تتناسب مع واقع شهرته المحصورة في حدود مدينة حلب ، إذ قال عنه: ” كان معقد الأمل في حلب ” و ” كان ألمع فنان بزغ نجمه في سمائها “.. وهذا صحيح ، من وجهة نظر الأستاذ صميم ، الذي كان من دعاة التيار ذاته في دمشق ، ولكنه لا يتوافق تماماً مع واقع وجود تيار آخر تزعمه ملحنون كبار أيضاً ، تخصصوا في البناء على الأصول والتطوير من خلالها. ضم تيار التجديد في حلب كلاً من كميل شمبير وأنطوان زابيطا وعزيز غنام ومحمد رجب وجميل عويس ونديم الدرويش وابراهيم الدرويش وتوفيق الصباغ ، وتبعهم ابراهيم جودت وسمير حلمي ورضوان رجب ومحمد قدري دلال وآخرون.
أحمد الأوبري الباحث
ولد أحمد الأوبري في حلب عام 1885 ، و درس الموسيقا الكلاسيكية الغربية مع كميل شمبير على يد أساتذة إيطاليين في مدرسة الشيباني. تخصص في العزف على آلة “الكلارينيت”، وأتقن التدوين الموسيقي و قواعد الموسيقا الغربية، والتوزيع، والهارموني، والبوليفوني أيضاً ، وهو ما ظهر لاحقاً في مؤلفاته اللحنية ، فيما درس قواعد الموسيقى العربية و أتقن العزف على آلة العود والنشأت كار بجهوده الشخصية .
كان الأوبري هاوياً للموسيقى فتعددت اهتماماته في إطارها ، مبتدئاً بتدريسها في ثانويات حلب بعد حصوله على شهادة البكالوريا ، إلى جانب عمله الوظيفي في بلدية حلب ، ثم في مصلحة الأشغال العامة فيها ، كما اهتم بالبحث الموسيقي ، فقام في عام 1929 وحرصاً منه على فاصل أسق العطاش من الضياع، بتوثيق هذا الفاصل في كتيب حمل عنوان ( فاصل أسق العطاش الشهير) ، وتصدر الكتيب مقدمة كتبها فتح الله قسطون، الذي قام بجمع الفاصل وضبط ألفاظه، بينما كتب أحمد الأوبري لمحة تاريخية فنية عنه مع تدوينه الموسيقي ، ما سمح بأن يسجله الأستاذ صباح فخري لاحقاً. حضر أحمد الأوبري مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عقد في القاهرة عام 1932 ، ممثلاً لسورية ، كما وضع كتاباً مخطوطاً درس فيه علاقة الأوزان الشعرية بالأوزان الموسيقية ، و كتب مقالات نقدية في الموسيقا ، نشرت بعضها مجلة الحديث الحلبية التي ترأس تحريرها الأستاذ سامي الكيالي ، ومنها مقاله حول زيارة السيدة أم كلثوم لحلب عام 1931.
والملحن المجدد
اهتم الأوبري أيضاً بتنشيط الحركة الموسيقية في حلب ، فاشترك مع كل من الشيخ علي الدرويش والشاعر عمر أبو ريشة وآخرين في تأسيس النادي الموسيقي في حلب عام 1935 ، ولكنه كان إلى جانب هذه النشاط متعدد الأوجه ملحناً مجدداً أيضاً، اعتبره الدكتور صالح المهدي ” صاحبَ المدرسة الوصفية الابتدائية العربية ” ، إذ ابتعد عن السائد في التلحين في قوالب الغناء العربي كالموشحات والقصائد والبشارف والسماعيات ، واتجه ، بتأثير من دراسته للموسيقى الغربية ، إلى التلحين في القوالب المستحدثة ، مع إعطاء ألحانه نفحة تعبيرية كانت جديدة في الغناء العربي ، فلحن على قالب المونولوج الرومنسي ، وكذلك على الإيقاعات الراقصة ، وخاصة التانغو والرومبا ، فكان أول من لحن على هذه الإيقاعات في سورية ، ويقال في العالم العربي ، دون أن أتمكن من تدقيق ذلك ، لافتقاد أعماله إلى تحديد تاريخ نشرها ، مركزاً في ألحانه على تلحين الفصحى مبتعداً ما أمكنه عن العامية ، كما لحن المعزوفات الموسيقية والمارشات العسكرية والأناشيد الوطنية والأوبريت ، ومنها أشهر أعماله على الإطلاق : أوبريت «ذي قار» الذي نظمه شعراً صديقه الشاعر عمر أبو ريشة ، وتم تقديمه على مسرح «اللونا بارك» في حلب عام 1933 ، كما ألف مقطوعات موسيقية تدل عناوينها على بنيتها التعبيرية ومنها : أنين وزفير، رياضة الزهرات، دموع الحنان، سلوى، دمعه على هنانو، إلى أم كلثوم تحية موسيقار..
ألحان تضيع مع الوقت
من المؤسف القول أن أغلب ألحان الأستاذ الاوبري ، وكذلك صديقه كميل شمببر ، وغيرهما من ملحني حلب المجددين ، غير متوفرة ، إلا على شكل تدوينات موسيقية ، ما يوحي بافتقارها إلى أي جهة منتجة ، فيما خلا إذاعة حلب ، التي تحتفظ مكتبتها ببعض ألحان الأوبري ومنها: نشيد «يا ظلام السجن خيم» الذي طالب فيها المستعمر الفرنسي بالرحيل عن بلادنا، و«أنت سورية بلادي»، و«دمت يا شهباء ما دام الزمن»، و«أوطاننا وهي الغوالي».
رحل أحمد الأوبري عن هذه الدنيا عام 1952 ، تاركاً مهمة تعزيز مسار التجديد لتلميذه الأستاذ عزيز غنام ، الذي سار على نهجه ولهذا حديث آخر.
أريج الزهر يا ليلى
من أجمل ألحان أحمد الأوبري أغنية ” أريج الزهر يا ليلى ” ، من كلمات الشاعر شارل خوري ، وهي أغنية شاعت وانتشرت كثيراً ، في حلب واللاذقية ، دون أن يعرف الناس ملحنها ، جاءت في نسختها الأولى بصوت الفنانة سحر ، وبسبب عدم توفرها أقدمها لكم بصوت الفنانة ميادة بسيليس .
كلمات الأغنية:
أريج الزهر من عرفك ومعنى السحر في طرفك
نسيم الصبح من لطفك يحار الشعر في وصفك
فأنت الكل يا ليلى
وصال الغيد أهواه وقلبي منك يأباه
ولا يرضيه إلاه أيخشى ما تمناه
أجيبي القلب يا ليلى
أريحي قلبي العاني على وصف وتحنان
على هديٍ وألحان فطول البعد أضناني
وأدمى القلب يا ليلى
إذا رتلت أشعاري بأعصار وأسحار
ففيها طيفك الساري على أوتار قيثاري
شجي الوقع يا ليلى
يزور الطيف أحيانا محباً ذاق هجرانا
فليت الهجر ما كانا وليت الطيف ما بانا
وبانت وحدها ليلى
شكوت الحب والشكوى عزاء للذي يهوى
ففيها أعذب السلوى ومنها بارق الرجوى
لظلٍ تاه عن ليلى
غرامي بت أبكيه على أطلال ماضيه
فكم طابت أمانيه وكم طالت لياليه
على الولهان يا ليلى
خضعنا للهوى قهراً وما زلنا له أسرى
أضعنا بالمنى العمرا وما زلنا به سكرى
وليلى لم تزل ليلى
أريج الزهر من عرفك ومعنى السحر في طرفك
نسيم الصبح من لطفك يحار الشعر في وصفك
وأنت الكل / الروح / يا ليلى