كنتُ قد كتبتُ ما يلي على صفحتي على منصة فيس بوك ، قبل خمس سنوات ، في رحيل الشاعر سعيد عقل ، ممهداً للانتقال إلى قصيدة سائليلني يا شآم ، التي نشرتها في تلك المناسبة على موقعي على الانترنت:
لايزال عصر الإبداع يتهاوى .. سعيد عقل يرحل عن هذه الدنيا .. ليس اليوم ملائماً للحديث عن آرائه .. أو تناقضاته .. و حتى عن خطيئاته .. بل عن إبداعاته في فترات سبقت .. ومن أهمها ما عبّر به عن حبه وإعلائه للشام .. التي كتب فيها بعض أجمل ما كتب…عشر قصائد .. خلّدها صوت فيروز …. و أولها سائليني يا شآم .. التي لم تخل من رسائل.. نقلها تسجيل حفل معرض دمشق الدولي عام 1960..
شكر ..
وفي اليوم التالي كتبتُ:
أود أولاً أن أشكر جميع من قرأ ما كتبت ، سواء قرأ ذلك عبوراً ، أم سجل إعجاباً ، أم علّق ، إذ سجلت الصفحة ، كما الموقع ، رقي متابعيها ، وهذا ما أغبط نفسي عليه، حين لم تنعكس فيها أجواء الجدل الحار الذي قام بين محبي الراحل سعيد عقل وأعدائه ، على صفحات التواصل الاجتماعي ، فالرجل له محبوه ، أكثرهم بسبب إبداعه الشعري ، وأقلهم ، بسبب رسوه على تمجيده الكيانية اللبنانية ، و له أعداؤه ، و كلهم كانوا كذلك ، بسبب كيانيته اللبنانية تحديداً ، ثم بسبب رفضه الوجود الفلسطيني في لبنان في السبعينات ، وتطرفه في ذلك في الثمانينات ، عندما أيد ما قامت به ” إسرائيل ” أثناء اجتياحها لبنان عام 1982 شاكراً القوات الاسرائيلية على ما تفعله داعياً اللبنانيين للقتال إلى جانبها.. ، وكذلك له من يقبله في مجمله ، مبرراً له مواقفه تجاه الوجود الفلسطيني في لبنان ، واضعاً إياها في إطار الفعل ورد الفعل ، وواضعاً موقفه المتطرف الذي انتشر كالنار في الهشيم ، في إطار لحظات النزق .. ولو دون أن يعتذر عنه .. ومع كل هذا ، فقد رأيت أن أكتب عنه في إيجاز ، إذ لا يصح في رأيي ، أن يرحل شاعر مبدع ، حفل تاريخ الغناء العربي ببعض أعماله ، دون أن أتوقف عند رحيله ، في صفحة ، وفي موقع ، خصصا للموسيقى العربية ومبدعيها.
كانت التعليقات المكتوبة محدودة ، واتجهت في اتجاهين ، أولهما أيد إطلاقي صفة الإبداع على سعيد عقل ، وثانيهما ، أتى في تعليق واحد ، تحفظ على توقفي عند رحيله .. وأنا أشكر من علّق ، ففي الحالين كان التعليق لبقاً ودوداً .. ولكن وجود تعليق متحفظ ولو واحد ، دفعني للحديث مرة أخرى في الموضوع ، بعد أن اصبح سعيد عقل في مثواه الاخير.. وإليكم التفاصيل..
لابد من الاعتراف أولاً بأننا لا نستطيع أن نمحي التاريخ ، و بأن ما قاله سعيد عقل في الشام عموماً ، وفي دمشق خصوصاً ، أو في القدس أو مكة أو عمّان ، وبمعزل عن قائله ، و عن ادعائه بالكيانية اللبنانية التي ميزها عن محيطها العربي ، و عن مواقفه المشينة تجاه فلسطين ، التي أقامت الدنيا عليه ولم تقعدها ، لاشك دخل تاريخ الغناء العربي ، عندما غنته السيدة فيروز ، فاستراح في وجدان الناس .. ولا فائدة من مواقف تقلق هذه المساحة الوجدانية ، بل إن علينا حمايتها ، أمام فيض من المساحات القاتمة الحافلة بالضياع والتشتت.
لقد كنت اطلعت على بعض ما كتب في رحيل سعيد عقل ، سواء بلغة الإقصاء الكامل أو التمجيد.. وأنا لا أقر أياً من الأسلوبين ، ولذا قلت بأن اليوم ” أي يوم الرحيل ” ليس ملائماً للوقوف عند آرائه وتناقضاته وخطيئاته ، مسجلاً وجودها ، و ومذكراً في الوقت نفسه بقصائده في الشام ، كما قصيدة سائليني يا شآم ، التي نشرتها على موقعي في هذه المناسبة ، مع تحليل موجز لها .
أسلوبين للقراءة .. عابرة ومتأنية
لقد كتبتُ ، كما في كل ما أكتب ، مايُقرأ في أسلوبين متوقعين.. قراءة عابرة، في يوم رحيل سعيد عقل ، لما كتبه عن الشام ، من خلال أغنية رائعة غنتها فيروز ، وينتهي الأمر .. وقراءة متأنية ، تبحث في قصيدة ” سائليني يا شآم ” ، الحمّالة لأوجه كثيرة.. و التي اعتبرها مفتاح أي باحث لدراسة شخصية سعيد عقل .. إذ أنه كتبها في عام 1953، أي في عهد أديب الشيشكلي ، الذي كان قائد الانقلاب العسكري الثالث في تاريخ سورية عام 1949 ، ثم أصبح رئيساً للجمهورية بين عامي 1953 و1954 . كان سعيد عقل متوهجاً في إشادته في تلك القصيدة بالشام ، وبأهلها الأمويين ، الذين ألحقوا الدنيا ببستانهم ، إذ يقول:
ظمِئَ الشرقُ فيا شامُ اسكبي واملأي الكأسَ له حتى الجمام
أهلكِ التاريخُ من فُضلَتِهم ذِكرُهُم في عُروةِ الدهرِ وسام
أُمَويُّونَ فإن ضقتِ بهم ألحقوا الدنيا ببستانِ هشام
ملمحاً فيما كتبت ، لكل ذي قراءة متأنية ، إلى مفارقة حملتها القصيدة ، في توقيت تقديمها غناءً من السيدة فيروز ، وهي أن الأخوين رحباني قدما هذه القصيدة عام 1960 ، أي بعد سبع سنوات على كتابتها ، وفي فترة كانت فيها سورية جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة ، التي كانت عاصمتها القاهرة ، متسائلاً: لماذا تم اختيار هذه القصيدة بالذات ، التي تتغنى بالأمويين ، لتغنى في دمشق ، عاصمتهم التاريخية ، وفي ذلك التوقيت بالذات ، لتعيد إثارة مشاعر اعتداد وطنية .. كانت ذابت في مشاعر قومية عروبية عارمة ؟ وقلت ، بأننا لو دققنا في التسجيل ، المنشور أعلاه ، للاحظنا أن هذه الأبيات تم تكرارها مرتين غناءً من السيدة فيروز ، فيما كان نصيب الأبيات الأخرى غناءها مرة واحدة ، وأن الجمهور لم يصفق في المرة الأولى ، ولعله فوجئ بالمعاني ، ثم غلبته عواطفه الآنية في المرة الثانية .. فصفق..!
حتى هنا .. كان هذا كافياً لأي قارئ متأنٍ ، في يوم رحيل الشاعر ، عندما كنت لا أرغب في الحديث عن تناقضاته وتطرفه فيها ، فيما أستطيع الآن أن أتابع في الموضوع ذاته ، فأقول:
لاشك في أن سعيد عقل كان هو من اقترح هذه القصيدة على الرحابنة ، أو على الأقل استشير في تلحينها وتقديمها في دمشق ، و في مدى ملاءمتها للتوقيت التي غنيت فيه ، مع ما توحيه من موقف معاد للوحدة القائمة بين سورية ومصر ، المجسدة للقومية العربية ، رغم تمجيدها للأمويين ..! وهذا كله مقبول .. أمام المشكلة الأكبر .. فهذه القصيدة ، وفيما عبرت عنه ، من مشاعرَ عروبيةٍ وإسلامية ٍ( الأمويين ) ، و سوريةٍ ( الشام ) ، كانت تتناقض مباشرة مع مواقف أخرى للشاعر سعيد عقل، تزامنت مع تقديمها في دمشق ، تمجد الكيانية اللبنانية الضيقة ، المتصادمة مع تلك المشاعر ، وتنفي أصول الشاعر العربية ، رغم أصوله الحورانية ، وهو ما تبينه الصورة المرفقة ، التي تعود لعام 1961 ، والتي تصور سعيد عقل ” يروج” للغته اللبنانية المحكية ، على حساب اللغة العربية ، التي حملت أجمل قصائده!! فهل أكثر من هذا من تناقض.. بين مضامين شعر سعيد عقل ومواقفه السياسية ؟ علماً بأن الشعر هو الذي أعطاه قيمته وليست مواقفه !!
وما يثير العجب أكثر .. أنه استمر في كتابة قصائد متوهجة أخرى في الشام مثل : “أحب دمشق “, و “قرأتُ مجدكِ”, و” مُرّ بي”, و”خذني بعينيك” و باللغة العربية الفصحى ذاتها ، التي سعى للترويج لبديل لها .. قارعاً أجراس العودة إلى فلسطين في عام 1956 ، في قصيدته الذائعة الصيت (سيف فليشهر) ، معلناً بذلك إيمانه بفلسطين، ومؤكداً ذلك في مواقف معلنة ، كما سنرى ، موسعاً دائرة قصائده ، لتشمل الأردن في قصيدته : أردن أرض العزم في عام 1963 ، ثم مكة في منتصف الستينات ، في قصيدته ” غنيت مكة ” ، مؤيداً العرب في حربهم على إسرائيل عام 1973 ، عندما كتب قصيدته ” بالغار كللت أم بالنار يا شام ” ، وغنتها فيروز عام 1974 ، واضعاً الشام فوق لبنان عنده.. !! و مذكراً بخالد بن الوليد وطارق بن زياد .. :
بالــغار كللت أم بالنار يا شـــام أنت الأميرة تعلو باسمك الهامُ
أواهِ بضعُ غماماتٍ مشردةٍ في الأفق بعضٌ رؤاً و البعضُ أحلامُ
ســألتهن أظللتُنَّها صبحاً شــــامي التي وحــــدها للعــــود أنغــــامُ
ما ألهمتني من صوت خلدت به كذا يخلد شـــــكَّ الســــيف مقدامُ
و طالعتني ليال من بطولتها حمرٌ تــغاوت لها في الريــــح أعـــلامُ
كأنما نضجت خضرُ المواســـمِ من هوى أغانيَّ و الأشــعار أيـامُ
ختام تشــــــرين هل ناسٍ أوائلَه إذ هبّ يعتصــــر العــنقودَ كرّامُ
يا شـــــام ســكبك مجدٌ ما يكون إذا بملئ كفك دفــقــاً أُفرغ الجـامُ
أقول خالدُ شــــجَّ الشعر مندفعاً وخطَّ طـــارقَ فوق البحر رسامُ
يا شــــام لبنانُ حـــبي غير أنيَ لو توجعُ الشـــام تغدو حبيَ الشامُ
ومستمراً ، في الوقت نفسه ، في حملته لتسويق ” لغته ” الانكفائية..!! مطلقاً دعوته لاعتماد الحرف اللاتيني ، وإحلال العامية مكان اللغة العربية الفصحى ، معتبراً بأن اللغة العربية لغة ميتة .. ناشراً جريدته : لبنان، باللغة اللبنانية المحكية ، و بالأحرف اللاتينية ، ( أنظر الصورة ) مقلداً مصطفى أتاتورك ، عندما أنهى كتابة اللغة التركية بالأحرف العربية ، منتقلاً بها أيضاً إلى الأحرف اللاتينية..فاصلاً تركيا عن تاريخها المكتوب !! الفرق كان في أن أتاتورك نجح فيما أراد ، فيما أخفق سعيد عقل.. رغم أنه رشح نفسه لرئاسة الجمهورية في لبنان ! والدليل واضح على أن آراءه السياسية كانت مرفوضة حتى في منطقته ، زحلة ، إذ ترشح للانتخابات البلدية والبرلمانية في منتصف الستينات ، وخاضها فعلاً .. وفي الحالين .. سقط .. ومع ذلك .. ومع كل آرائه المتطرفة أمام اللغة العربية ، استمر في نشر قصائده بالفصحى ، وكان من آخر ما نشر ” خماسيات الصبا ” بالفصحى عام 1991!!
ولكل من يريد أكثر..
لا أريد التفصيل أكثر في تناقضات سعيد عقل ، الذي مدح في وقت واحد اتجاهات سياسية متصادمة ، متخذاً بشكل متزامن مواقف ضدها ، ولكنني أريد أن أقول بأنه كان هكذا منذ شبابه .. أليس هو من كتب في نهاية الثاثينيات نشيداً خاصاً بالحزب القومي السوري ، فجعل فيه سورية فوق الجميع ، قائلاً فيه:
صخبُ البحر أم الموجُ السخيّ أم بلاد تملأ الدنيا دويّ
سوريا يقظةٌ ملء المدى
بسمةٌ ملء الربيع .. سوريا فوق الجميع
وعندما تم تذكيره بذلك عام 1992 ، بعد أربعين عاماً ، في معرض الحديث عن تناقضاته ، نفى أن يكون كتب النشيد ..
ثم أليس هو من كتب ، في الفترة ذاتها ، نشيداً عروبياً لصالح جمعية “العروة الوثقى ” ، في الجامعة الأمريكية ، التي كان يرأسها الدكتور قسطينين زريق ، ولحنه الأخوان فليفل ، أهم ملحني أناشيد العروبة ، يقول :
للنسورْ… ولنا الملعبُ والجناحان الخضيبان بنورْ… العُلا والعَرَبُ
ولنا القولُ الأبي والسماحُ اليعرُبي.. والسِّلاحْ
ولنا هزُّ الرماحْ.. في الغضوب المشمسِ
ولنا هزُّ الدُّنى.. قُبباً زُرقَ السّنا
ولنا صَهْلَةُ الخيلِ.. من الهندِ الى الأندَلُسِ
كل هذا تزامن مع صلاته الوثيقة بالحزب الشيوعي ، إذ كان صديقاً للراحلين خالد بكداش ، وفرج الله الحلو .. ، و مع صداقاته على المقالب الأخرى ، إذ ربطته صداقة متينة بفؤاد أفرام البستاني ، وشارل قرم ، مشكلين أرضية فكرية مناهضة لفكرة العرب والعروبة في لبنان ، مؤيداً ، في الخمسينات ، محاربة إسرائيل وطردها من العالم العربي .. قائلاً : يزول لبنان والعرب جميعاً أو تزول إسرائيل..! منقلباً على موقفه هذا في الثمانينات ، في موقفه المشين الشهير!!..
هل هناك من تبرير لهذا التناقض؟
لو كانت أراؤه ثبتت عند أي من مواقفه ، أو كانت انتقلت بينها بفعل عوامل موضوعية ، بعد استبعاد خطيئاته المعروفة للجميع بالطبع حول فلسطين وتأييده لإسرائيل في الثمانينات ، لكانت مواقفه استحقت الاحترام ، على الأقل في إطار احترام الرأي والرأي الآخر ، ولكنه لم يفعل ، كما رأينا ، إذ أنه جمع المتناقضات في وقت واحد ، ومما زاد في الحيرة أمام أفعاله ، قدرته على أن يتماهى ، في كل لحظة مع الآخر ، سواء أكان الشام أم فلسطين أم الأردن أم مكة .. فيعلي من شأنه في عاطفة متوهجة ، يصعب التشكيك في صدقها ، ويكون ، في اللحظة التي تلي ، رافضاً لهذا الآخر ، و بكل بساطة .. وحتى لبنان لم ينج من ذلك ، كما يظهر في بيت الشعر الأخير من قصيدته : بالغار كللت أم بالنار ياشام ، التي أوردتها أعلاه ، حين وضعه ، في لحظة توهج شامية ، بعد الشام ! و مع ذلك ، فقد أقول بأن هذا كله قابل للفهم .. طالما أن الآخر كان جهة أخرى ، وهنا أمامنا احتمالان :
1- أنه كان يكتب ما كتب بناء على طلب ، كما في حال قصائده عن الشام ، حين كانت فيروز والأخوين رحباني يفتتحون حفلاتهم في دمشق بقصيدة عن الشام ، فيطلبون منه قصيدة لها ، فيفاجئك بصدق عاطفته التي لعلها زارته للحظات ، وقد يكون كتب قصائده الأخرى عن فلسطين والأردن ومكة بنفس الطريقة ، وإن كنا لا نستطيع اتهامه بذلك دائماً ، على الأقل لقصيدة ” سائليني يا شآم ” إذ كان كتبها عام 1953 ، ونشرتها الإذاعة السورية حينذاك ، أي قبل تقديمها غناءً بسبع سنوات ..ما يستبعد هذا الاحتمال..
2- أنه ، في توازي المشاعر المتناقضة في شعره ، لم ينتم إلا إلى نفسه .. مبرزاً قدرة لا متناهية على التماهي مع أي جهة يختار أن يكتب عنها ولو لفترة ، ثم في الانفكاك عنها إلى أي جهة أخرى ، وهذا افتراض قد يبدو منطقياً ، و لكنك سرعان ما ترفضه ، لأنه في تطرفه وتناقضاته رفض حتى نفسه .. حين تبرأ من تاريخه و رفض اللغة العربية.. التي كانت حامل إبداعاته ثم رفض شعره بها .. ناحياً ، دون مبرر واضح ، باتجاه لغة لبنانية محكية، و مستمراً في الوقت ذاته ، بالكتابة بالعربية .. عن الشام وعن مكة .. مصمماً على الحديث باللبنانية المحكية في لقاءاته التلفزيونية ، وصولاً إلى اختراع كتابتها بالأحرف اللاتينية!.. و إلى رفض شعره هو ، الذي بنى قيمته أمام الناس ، واصفاً إياه بلغة أهل الشارع بما لا يمكنني أن أنقله .. وهذا كله ينفي انتماءه حتى إلى نفسه ..
مفتاح الشخصية..
لم يصل بنا التحليل إذاً إلى أي تبرير مقبول لتناقضات سعيد عقل .. والسبب أننا ننطلق من مفتاح خاطئ .. بالنسبة لي .. كان سعيد عقل شاعراً في الأساس ، قبل أي صفة أخرى ، بل إنه لم يكن شخصية سياسية ، وهذا ما أكده ناخبو زحلة حين أسقطوه في الانتخابات ، رغم شهرته العريضة ، فالسياسة هي فن الممكن .. وهو ما لم يكن الأسلوب الذي انتهجه في مواقفه ” السياسية ” .. نعم .. هو شاعر أولاً وأخيراً .. رغم مساعيه المتأخرة لإطلاق لقب الفيلسوف على نفسه .. ! وعلينا أن نحلل شخصيته من هذا المنطلق .. آخذين بعين الاعتبار أنه بدأ بنظم الشعر منذ صغره حتى لقب ” الشاعر الصغير “.. وأنا أرى أن كل شاعر له مفتاحٌ لقراءة شخصيته ، وبالنسبة لسعيد عقل ، كانت الرومنسية التي أصفها بال” المتوحشة ” ، و التي تتميز بالتطرف في النرجسية ، و بعنف المزاج وتقلبه ، و بتأليه الذات ، و تأليه الجمال ، أينما كان ، دون الالتزام بمظهر محدد من مظاهره ، و بالاستسلام للحظة التي يعيشها الشاعر ، دون التفكير في أية عواقب ، ودون التوقف عند أي تناقض قد يظهر في أفكاره ، مفتاح قراءة شخصية سعيد عقل .. وقد أضيف عليها ، اعتماد الحب العذري كمبدأً ، إن كان في حياة الشاعر أو طفولته، ما يوجهه إلى هذا !.. أو كان وصل في تأليهه لذاته ، كما في حالة سعيد عقل ، إلى إنكار أي لذة حسية إنسانية ، و تقديس اللذة الأكبر : ” الخلق والإبداع “!!
لنستمع إليه في قصيدته : شال ، يعبر عن عاطفة صادقة تتوهج ، ولكن عن بعد ، فعظمته لا تسمح له بالاقتراب ، وهي ، الحبيبة ، في عظمتها ليست للمساس ..
هِم يا حبيب بلونيَ الليلكي
هِم لا تُقرِّب يدا
هِم بالنظر أبقِ الأثر
ما لم يزل موصدا
والغريب أن سيرة حياته الشخصية ، توحي بأنه طبق هذا المبدأ على نفسه!
وإذا كان كل هذا مقبولاً في الشعر ، بل ومطلوباً كما سنرى ، فهو غير مقبول في السياسة ، والمشكلة تكمن في أنه تعامل مع السياسة ، خبز العيش في لبنان ، وكما أرى ، بنفس الأسلوب ، فطبق رومنسيته ” المتوحشة ” عليها ، وعلى الأيديولوجيات المتصادمة ، حينها ، كالقومية العربية ، والقومية السورية ، و كذلك على القومية اللبنانية ، معتبراً إياها ، جميعها ، من مظاهر “الجمال السياسي” ، متنقلاً بينها ، متجاوزاً تصادمها ، فالأمر لا يعنيه ، لأنه لا يفكر في عواقب ما يقول .. متغزلاً بكل منها ، في دفقات عاطفية هي بنت لحظتها ، سرعان ما تغيب ، وقد يعود إليها مرة أخرى بعد حين ، دون أن يجد غضاضة في ذلك ، إن جاء ما يحرض فيه ذلك الدفق العاطفي الخاص بها ، طالما أن هوسه الحقيقي كان في تأليه نفسه هو .. ولكنه عندما وجد أن القومية العربية ، والقومية السورية ، لهما من يختص بهما ، ركز جهوده على الكيانية اللبنانية ، متطرفاً لدرجة أنه رفض الآخرين جميعهم ، و انطلق إلى “خلق صنيعته ” الخاصة به : اللغة المحكية اللبنانية ، وراح يبني لها أدواتها ، دون نجاح يذكر ، رغم تضحيته بتراثه الشعري باللغة العربية في سبيلها ، وعندما أخفق ، وخسر رهانه ، ولم يستجب لدعوته أحد ، كما رأينا ، عاد إلى نفسه ، وتأليهها ، في ختامات حياته ، متطرفاً في ذلك ، إذ تحدى الموت ، قائلاً: ” الحياة العزم ، حتى اذا أنا انتهيت ، تولى القبر عزمي من بعدي ” ، موصياً ، وقد أصبح قبره تجسيد خلوده ، بأن يكون مثواه مبنياً من صخرة عمرها عمر الأرض ، ومن خشب أرز عمره آلاف السنين ، معتقداً أنه بهذا يتحدى الموت و يضمن لنفسه الخلود.. !
وأخيراً .. سعيد عقل شاعر مبدع .. تطرَّف حتى رفض شعره .. فلنحم ذلك الشعر من شاعره ..
لقد رحل سعيد عقل ، رافضاً تراثه الشعري ، الذي أجمع القاصي والداني على أهميته وألقه ، ظاناً أن الشاعر ، في تأليهه لنفسه ، قادر على مصادرة ما استقر في وجدان الناس .. ولكنه غاب عنه أن هذا الشعر لم يعد ملكاً له أصلاً ، إذ أصبح ، منذ أن أطلقه ، ملكية عامة ، فالقصيدة أو الأغنية ، تخرج من ملكية صاحبها عندما تنشر ، لتصبح ملك من يسمعها ، فتدخل وجدانه ، وتعبر عن ذكرياته ، ما يجعلنا معنيين بحماية ذلك التراث من شاعره الذي رفضه .. لغرضين : حماية وجداننا وذكرياتنا ، ولكي يكون شاهد الاتهام الأول في محاكمة الشاعر أمام محكمة التاريخ ، على تناقض آرائه ، وعلى خطيئاته ، وعلى قيمتها الحقيقية .. من جهة ، و على تطرفه غير المسبوق حين رفض تراثه الشعري ، وهو أعز ما يملك .. أما نحن ، فدعونا لا ننساق وراء تطرف الشاعر .. فنتطرف ، نحن أيضاً ، في رفضه .. رغم استحقاقه لذلك ، فقد يشفع له ، ونحن نبحث عن حماية شعره منه ، واستدامته في الوجدان ، أن يكون تطرفه في رومنسيته ونرجسيته ، أحد أسباب إبداعه لذلك الشعر … ففي الإبداع ثورة ، على كل سابق ومحيط ، تطرف صاحبنا فيها ، ففاض شعره وأبدع ، بانياً مملكة شعرية ذات ألق ، ثم ثار هو عليها .. فخرَّب مملكته فوق رأسه .. ورحل..