و كأنما كانت السينما الغنائية تنتظرها
في بداية الأربعينات كانت السينما الغنائية العربية تحتاج لأصوات نسائية جديدة ، إذ كانت أم كلثوم مقلةً في الأفلام ، فيما كانت أسمهان تعيش في سورية ، وتفاقم الوضع مع رحيل أسمهان المفاجئ عام 1944 ، ما جعل الساحة تستقر بشكل رئيسي على ليلى مراد ، التي وصل عدد أفلامها عام 1947 إلى 4 أفلام في عام واحد .
تسبب هذا الواقع في لجوء المنتجين إلى الأصوات القادرة المتوفرة ، على ألا تظهر في الأفلام ، كما في فيلم أحلام الشباب لفريد الأطرش عام 1942 ، حيث ظهرت فتحية أحمد بصوتها فقط ، لدور قامت به الفنانة مديحة يسري . وكان لابد من اللجوء إلى البحث عن أصوات نسائية جديدة في الشام ، فكانت نور الهدى ( ألكسندرا بدران ) أول القادمات ، لتظهر في فيلم جوهرة عام 1943 ، ثم كان دور صباح ( جانيت فغالي ) لتظهر أولاً في فيلم القلب له واحد عام 1945 ، ثم سعاد محمد عام 1948 ، ونجاح سلام عام 1953 .. وفايزة أحمد 1959.. قبل أن تستسلم السينما لرياح التغيير ، في نهاية الستينات ، مع تغير المزاج العام ، لتتجه إلى مسارات أخرى بعيدة عن الغناء..
في المقال التالي تسليط عابرٌ للضوء على مسيرة الفنانة صباح.. وقد رحلت عن هذه الدنيا..
كانت الفنانة صباح / جانيت فغالي /قد ولدت في العاشر من تشرين الأول / أكتوبر عام 1927 في بلدة قريبة من بيروت ، التي انتقلت إليها للدراسة في مدارسها ، و سرعان ما عرفت بجمال الصوت ، فأصبحت تدعى لتغني في الحفلات المدرسية ، في مدارس منطقة إقامتها ، وهي لم تبلغ بعد الثانية عشرة. تعرفت عليها المنتجة السينمائية اللبنانية الأصل آسيا داغر ، في إطار بحثها عن الأصوات الجميلة ، ودعتها إلى القاهرة للعمل في الأفلام السينمائية ، حيث أطلق عليها الشاعر صالح جودت اسم صباح ، كما أسهم استفتاء في مجلة الصباح المصرية ، في تثبيت ذلك الاسم.
بدايات تبحث عن هوية لتستقر على شخصية غنائية ذات خصوصية
ظهرت لأول مرة في السينما في فيلم القلب له واحد في عام 1945، من إخراج بركات ، وأمام أنور وجدي ، فيما لحن رياض السنباطي وزكريا أحمد ومحمد القصبجي أغانيها في الفيلم . تتالت أعمالها السينمائية حتى بلغ عددها 85 فيلماً مصرياً ولبنانياً ، تعاونت فيها مع رياض السنباطي وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي و مثلت فيها أمام كبار الممثلين أمثال يوسف وهبي ، عماد حمدي ، فريد شوقي ، شكري سرحان ، أحمد رمزي ، رشدي اباظة، أحمد مظهر، كما قدمت أفلاماً غنائية عديدة منها عدو المرأة 1946 و صباح الخير 1947 و الآنسة ماما 1950 والحب في خطر 1951 وفاعل خير 1953 وثورة المدينة 1955 مع محمد فوزي ، و بلبل أفندي 1948 ولحن حبي 1953 وإزاي أنساك 1956 مع فريد الاطرش، الذي أعطاها بعضاً من أجمل ما غنت ، مثل أغنيات حموي يا مشمش ، م الموسكي لسوق الحميدية ، التي غنتها أيام الوحدة بين مصر وسورية ، و يا دلع ، و أكلك منين يابطة ، و حبيبة أمها ، و زنوبة ، وحطة يا بطة ، وهي من الأغنيات التي أبرزت تميز الفنانة صباح في الشخصية الغنائية الملائمة لشخصيتها الحقيقية. سار محمد عبد الوهاب في ألحانه لصباح ، في مسالك الشخصية الغنائية التي رسمها فريد ، كما جاء في ألحانه لها ومنها : عالضيعة 1965 ، و من سحر عيونك ياه 1957 و كذلك فعل محمد الموجي في لحنه : الحلو ليه تقلان أوي ، و سهيل عرفة في لحنه لها :عالبساطة، علماً بأنها شاركت في أداء نشيد “الوطن الأكبر” للموسيقار محمد عبد الوهاب ، في تمثيل رمزي للبنان ، إلى جانب نجاة الصغيرة عن سورية ، وعبد الحليم حافظ وفايدة كامل وشادية عن مصر ، و وردة الجزائرية عن الجزائر.
شخصية غنائية خاصة لاءمت شخصيتها الحقيقية فنقلتها إلى عالم الغناء العام
في البداية تعاملت السينما مع صباح في الإطار السائد للأفلام الغنائية ، فواجهت صباح ، المتجهة أساساً إلى الغناء الجبلي اللبناني ، والمبنية شخصيتها على الفرح وحب الحياة ، صعوبات في أداء الأغاني ، وخاصة التي تحيط بها مشاعر رومنسية ، أو أجواء درامية ، ومع ذلك استطاعت التلاؤم مع الأجواء المطلوبة بالحد الأدنى ، إلى أن بدأت التعاون مع فريد الأطرش ابتداء من فيلم بلبل أفندي عام 1948 ، حيث رُسمت ملامح شخصيتها الغنائية التي سترافقها دائماً ، وهي الشخصية الفرحة المحبة للحياة والمتفتحة على مباهجها .. فعبرت عناوين أغانيها لاحقاً عن تلك الشخصية ، مثل : الغاوي ينقط بطاقيته ، يا إمي طل م الطاقة ، الحليوة فين ، ع العصفورية ، يا رب تشتي عرسان ، يانا يانا ، عدا علي وسلم ، أيام اللولو، أحبك ياني ، يا دلع ، أبو سمرة زعلان ، جيب المجوز يا عبود .. و يكفي أن نقارن بين أدائها لأغنية حطة يا بطة في فيلم بلبل أفندي 1948 ، و أغنية آه يانا ياقلبي ، من ألحان رياض السنباطي ، في أول أفلامها القلب له واحد عام 1945 لنكتشف الفرق.. والملامح التي ارتسمت وتم اعتمادها لاحقاً..
صوت له قدراته الخاصة
تميز صوت صباح بمساحة صوتية تمتد على أربعة عشر مقاماً سليماً ، يندر أن تتمتع بها مطربة في هذه الأيام ، وبقدرة غير مسبوقة على أداء الأغاني اللبنانية بمواويلها الجبلية ، ذات الإمتدادات الصوتية الغنية بالتضاريس ، كما في التسجيل المرفق ، حيث تصل في امتداد النفَس إلى حوالي 26 ثانية.
في لبنان
قدمت صباح العديد من الأفلام اللبنانية والسورية في الستينات ، كان ذلك مع دريد لحام في أفلام عقد اللولو 1964 والمليونيرة 1965 وفندق الأحلام 1967 ، و مع فهد بلان في فيلمي حبيبة الكل 1964 وليالي الشرق 1968 ،وعادت إلى لبنان لتستقر فيه منذ السبعينيات . شاركت في تقديم أكثر من 27 مسرحية غنائية لبنانية في مهرجانات بعلبك وفي المناطق اللبنانية ، منها اثنتان للأخوين رحباني وهي مسرحيتي موسم العز ثم دواليب الهوا إلى جانب اسكتش المخمل الأزرق واسكتش الضيعة، كما قدمت مع الفنان روميو لحود مسرحيتي الشلال و القلعة ، ومع الموسيقار ملحم بركات مسرحية شهر العسل عام 1977 ، التي غنت فيها أغنية موسم شتي و رمزت فيها للحرب الأهلية اللبنانية ، وقدمت فيها شخصية غنائية مختلفة تماماً ، سأتوقف عندها لاحقاً بالتحليل.
كانت مسرحية كنز الأسطورة آخر أعمالها ، من إخراج فادي لبنان عام 1997.
زيجات متعددة ..
تزوجت صباح عدة مرات ، وكان من أزواجها الفنان رشدي أباظة ، والمذيع أحمد فراج . رزقت ابنها صباح من زوجها الأول نجيب شماس ، وابنتها هويدا من زوجها عازف الكمان أنور منسي.
الرحيل
توفيت الفنانة صباح فجر يوم الأربعاء السادس والعشرون من شهر نوفمبر / تشرين الثاني 2014 ، في مقر اقامتها في الحازمية ببيروت ، عن عمر يناهز 87 عاماً ، بعد أن ملأت عالم الغناء بالفرح والحب ، على مدى أكثر من اثنين وخمسين عاماً من الغناء.