قالب المونولوج الرومنسي : ولد مع كبار عصر النهضة الموسيقية العربية ..ورحل معهم!

المونولوج الرومنسي قالب غنائي ، برز في عالمنا العربي في منتصف العشرينات ، وأثبت مكانته في غناء الثلاثينات والأربعينات ، ثم تراجع مع الوقت بفعل عوامل محلية وعالمية ، ناشراً عناصره في خلايا المدرسة الغنائية الكلاسيكية الجديدة ، قبل أن يغيب نهائياً ، بعد أن رحل الكبار ، و سيطر على غنائنا المعاصر  ما سيطر ، من إيقاع وتكرار .. وفوضى

الرومنسية

الرومانسية  حركة فنية، أدبية وفكرية ، نشأت في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد ، كرد فعل ضد الثورة الصناعية ، وتجسدت بشكل واسع في الأعمال الأدبية والتشكيلية والغنائية والموسيقية. رفضت الرومنسية جميع القيود الفنية المتوارثة، بحسبانها تحد من تطور الفن ومن حيويته ، وأشادت بدور الفن الذاتي والتلقائي والعفوي في التعبير عن العاطفة والإحساس والخيال ، وأكدت أن قوة المشاعر والعواطف هي المصدر الحقيقي والأصيل للإبداع الفني ، كما اهتمت بالطبيعة والعناصر والألوان  الشعبية والقومية و المحلية التي تطبع الفنان بطابعها ، ما جعل لها تأثيراً واضحًا على نمو القومية لدى الشعوب.

المونولوج الرومنسي

وُلِد المونولوج الرومنسي في أوربا، للتعبير غنائياً عن عناصر المدرسة الرومنسية في الفن، التي تميزت بعنف المزاج، وتقلبه، والحس المرهف، والإحساس بالظلم وقسوة القدر، والإعجاب بالذات، وتأليهها، وتقديس الجمال، ومناجاة الطبيعة، والتغني بجمالها. وكثيراً ما ارتبط المونولوج بالأوبرا وبالمسرح الغنائي ، عندما ينطلق بطل الأوبرا أو المسرحية الغنائية، في غناء وجداني سردي، يعبر عن مشاعره وأحلامه أو آماله.

عربياً

بدأ ظهور المونولوج عربياً، فيما سمعناه من تسجيلات في مونولوج « والله تستاهل يا قلبي »، لسيد درويش ، في مسرحيته « راحت عليك »، التي قدمها عام 1920 ، عندما ينطلق بطل المسرحية في غناء سردي يعبر به عن حاله ، يتقاطع أحياناً مع الموسيقى ، و تبرز في خلاياه بعض التغيرات الإيقاعية ، وصولاً إلى ختام مرسل.


محمد القصبجي وأحمد رامي رائدا المونولوج الرومنسي العربي

سرعان ما تطور قالب المونولوج الرومنسي خارج هذا الإطار، عبر تعاون ثنائي عظيم، تشكل من محمد القصبجي الملحن المجدد، وأحمد رامي الشاعر العائد من فرنسا، والمتأثر بالمدرسة الرومنسية في الشعر الفرنسي. بدأ هذا الثنائي، في منتصف العشرينات ،  ، سعيه لإرساء معالم المدرسة الرومنسية في الغناء العربي ،  مواكباً في ذلك موجة رومنسية في الأدب، نشأت عندما ترجم أحمد الزيات رواية روفائيل للفرنسي لا مارتين، وآلام فرتر، للألماني جوته، وترجم أحمد زكي غادة الكاميليا، للفرنسي ألكسندر دوما الإبن ، فوجد له في صوت أم كلثوم الساحر،  مجالاً رحباً لاختبار العناصر الجمالية الرومنسية كلها، مركزاً في البداية على نصوصٍ باللغة العامية المصرية ، متأثراً في ذلك بتركيز الرومنسية على العناصر المحلية والشعبية ، و لما توفره العامية من إمكانات ، لتنويع الإيقاعات و القوافي ، ولإغناء النص بالأحرف الصوتية التي تسمح بمد الصوت لإبراز جماله ، منفتحاً لاحقاً على نصوص شعرية ملائمة باللغة العربية الفصحى.

العناصر اللحنية في المونولوج الرومنسي

عبر القصبجي في مونولوجاته عن تقلب المزاج بالتغير الإيقاعي الدائم ، وعاونه رامي  في صياغة متغيرة الأوزان والقوافي ، وتم الإعتماد على صوت أم كلثوم الرائع أولاً، ثم أسمهان لاحقاً، لإعطاء المدود الصوتية التي تحقق تعميق تقديس بالجمال، مع إيضاح الفرق في أسلوب أداء المدود الصوتية بين المدرسة القديمة والمدرسة الجديدة الرومنسية ، كما في لحنه لأسمهان : « كنت الأماني  » عام 1932 ، حيث جعلها تؤدي الأسلوبين في جمل لحنية متتالية! اعتمد القصبجي أيضاُ ، على البدء بمقدمات موسيقية معبرة، و إعطاء دور هام للفرقة الموسيقية في أداء اللوازم الموسيقية ، والتقاطع مع الغناء، لإغناء فكرة تضاد العواطف، مما ساهم بشكل أساسي في تطوير الفرقة الموسيقية العربية.


القالب

بدأ المونولوج عند القصبجي في شكل يعتمد على تكرار لحن معين بين مشاهد المونولوج، فيما سمي المونولوج المقيد، كما ورد في  مونولوج « إن كنت أسامح وأنسى الأسية » عام 1928 ، إن كنت أسامح لأم كلثوم ،  الذي بيع من أسطوانته ربع مليون نسخة، وتطور وصولاً إلى شكل آخر لاتكرار فيه لأي لحن، فيما سمي المونولوج المطلق ، كما ورد في مونولوج « يامجد » لأم كلثوم عام 1937 ، و « رق الحبيب » عام 1944 ، ومونولوج « ياطيور » عام 1940 لأسمهان.


أم كلثوم

لحّن محمد القصبجي لأم كلثوم ، منذ منتصف العشرينات ، مستنداً إلى نصوص أحمد رامي ، عدداً من المونولوجات الرائعة منها « سكت والدمع اتكلم »، و « أخذت صوتك من روحي » عام 1926  ، و « الشك يحيي الغرام » عام 1928 ، و « يا غائباً عن عيوني » عام 1931 ، و« فين العيون » عام 1934 ، والمونولوجات التي حفل بها فيلما وداد : « ليه يا زمان » عام 1935 ، و «نشيد الأمل » : «منيت شبابي » و « يا مجد »  عام 1937  ، وصولاً إلى مونولوج « يا نجم » عام 1938 .

عبد الوهاب و رياض السنباطي و زكريا أحمد و فريد الأطرش

اهتم محمد عبد الوهاب بقالب المونولوج ابتداءً من عام 1927 ، فقدم مونولوجات عديدة منها « اللي يحب الجمال »، و « كتير يا قلبي »، و « الليل يطول عليَّ » عام 1927 ، و مونولوج أهون عليك عام 1928 ، مونولوج أهون عليك لمحمد عبد الوهاب ، وصولاً إلى مونولوجات « في الليل لما خلي » عام 1931 و « الظلم ده كان ليه » عام 1937 و « الحبيب المجهول » عام 1944 ، ولكنه اعتمد على القالب الذي أرسى القصبجي ورامي قواعده، وكذلك نسج السنباطي على منوال القصبجي ، فلحن لأم كلثوم ابتداءً من عام 1936 ، مونولوجات رومنسية رائعة، كان من أهمها مونولوج «النوم يداعب عيون حبيبي »، وانضم زكريا أحمد إلى هذا التوجه، فلحن لأم كلثوم  مونولوجات متميزة كان من أهمها مونولوج « حلم » عام 1946 . قدم فريد الأطرش أيضاً عدداً من المونولوجات الهامة لأسمهان منها مونولوج « نويت أداري آلامي»  عام 1938 على إيقاع  التانغو ، الذي كان سبق أن غناه بنفسه ، ومونولوجات « رجعت لك يا حبيبي » عام 1941 ، و « يا ليالي البشر » عام 1941 ، و « كان لي أمل » عام 1941 ، كما غنى بصوته بعض المونولوجات الرومنسية التي لحنها لنفسه، ومن أهمها مونولوج « بحب من غير أمل » عام 1936 ،  كما اهتم بالمونولوج الراقص المعتمد في بعض مقاطعه على إيقاعات راقصة كالرومبا والتانغو ، كما جاء في مونولوجي « سهرت طول الليل – عتاب الحبيب»  1937 ، و « أنساك وافتكرك تاني » عام 1937.


رحل مع رحيل الكبار

انتشر المونولوج الرومنسي أيضاً ، في أعمال الملحنين في الدول العربية خلال الثلاثينات و الأربعينات ، على أسلوب القصبجي ، مدمجاً مع تأثيرات محلية ، و موجهاً أساساً إلى الأصوات الجميلة القادرة على أدائه ،  كما في سورية ، كما ظهر في لحن الملحن والمطرب نجيب السراج لماري جبران  « يا زمان » ، حيث برزت فيه بعض ملامح المونولوج الرومنسي دون أن يعبر اللحن عن جميع عناصره ،   كما بدأ الملحنون بتطبيق قالب المونولوج مع البناء على نصوص شعرية أحياناً ، قبل أن يشهد تراجعاً كبيراً  ، متأثراً في ذلك ، وعلى مراحل ، بعوامل عديدة ، تداخلت فيها المؤثرات العالمية والمحلية ، كان من أولها ، محلياً ، وبسبب اعتماده على جمال الصوت أساساً ، توجه السيدة أم كلثوم ، التي رعت بدايات المونولوج الرومنسي ، إلى التركيز على أغنية الطرب المؤداة على المسرح ، ورحيل أسمهان ، أهم صوت غنى المونولوج الرومنسي ، في حداثته الكاملة ، في العالم العربي ،  وتراجع صوت عبد الوهاب  ، وعالمياً ،  إلى انحسار الرومانسية في العالم ، بعد نمو اتجاه عام لدى النقاد ، بأنها تسلب الإنسان عقله ومنطقه وإرادته وحكمته ، ونشوء ما سمي الكلاسيكية الجديدة ، كرد فعل على الرومنسية ، ما تسبب في نشأة الرومنسية الجديدة ، التي ربطت بين مكوني العاطفة والإرادة ، محتفظة بالكثير من ملامح الرومنسية القديمة.

انعكست هذه التوجهات الجديدة على عالم الغناء العربي ، فشهدنا في أعمال محمد عبد الوهاب ، وفريد الأطرش ، وألحان محمد الموجي وكمال الطويل وغيرهم لعبد الحليم حافظ ، تداخل عناصر المونولوج كما طورها القصبجي،  مع عناصر قوالب أخرى كلاسيكية ، لتولد الأعمال الكبيرة ، و القصيدة الغنائية الجديدة ، قبل أن ينحسر الإبداع الموسيقي والغنائي في العالم العربي ، مع رحيل كبار الملحنين ، وغياب الأصوات الجميلة ، و تغير المزاج العام للجمهور ، بعد نكسة حزيران ، حيث شهدت أغلب هذه القوالب الغنائية العربية ، سواء الكلاسيكية منها أو الرومنسية ، القديمة والجديدة ، تراجعاً كبيراً ، مع شيوع الموجة الجديدة من الغناء ، المعتمد على مكونات ثلاثة : الإيقاع ، تكرار الألحان .. والفوضى ..

د. سعد الله آغا القلعة

مواد منشورة في الموسوعة تتعلق بالمونولوج الرومنسي

Tagged , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading