يعرف متابعو تاريخ الموسيقى العربية ، أن إدخال الآلات الموسيقية الغربية ، كالأكورديون والكلارينيت والأوبوا والجيتار هواين إلى الموسيقى العربية ، مع تنويع مجالات استخدامها ، كان مجالاً واسعاً للتنافس بين محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ، خلال عقود من الزمن ، في إطار سعي كل منهما لمزيد من التفاعل مع الغرب ، ومن الإبهار للجمهور ، و من التنويع في الأجواء الموسيقية المحيطة بألحانهما .. مع الحفاظ ما أمكن ، كل على طريقته ، على أصالة الموسيقى العربية .. وفيما تسابق النقاد للحديث في هذا الموضوع ، فقد غابت عن أدبياتهم آلة نادرة ، دخلت أيضاً مجال التنافس ، وهي آلة المنشار الموسيقية ، التي ندُر استعمالها حتى في الموسيقى الغربية .. فلنتعرف عليها أولاً ..
المنشار الموسيقي آلة موسيقية حديثة نسبياً ، ، نظراً لارتباط تصنيعها بتطور صناعة الفولاذ ، إذ يتم تصنيعها من فولاذ عالي الجودة يحقق مستلزمات تجانس سماكة شريحتها الفولاذية ، و دقة أبعادها ، ومرونة انحنائها . دخلت عالم الموسيقى في بدايات القرن الماضي ووجدت استخداماتها الأولى في إطار الاحتفالات الشعبية ، فلم تُعرف في إطار الموسيقى الكلاسيكية ، إلا في منتصف القرن الماضي ، حيث بدأت تنتشر.
يتم تشكيل آلة المنشار الموسيقية من شريحة من الفولاذ ، تولِّد أصواتاً موسيقية ، لدى احتكاك قوس يشبه قوس آلة الكمان على أحد حدَّيها ، في موقع محدد ، و يمكن التحكم في تلك الأصوات وذبذباتها ، من خلال الضغط على الشريحة الفولاذية باليد ، لتلتوي وتنحني، بواسطة مقبض خاص ، لتشكل في التوائها منحنيين متعارضين على شكل حرف S ، حيث تولد الأصوات عند مرور القوس على نقطة تغير انحناء الشريحة بين المنحنيين ، فيما يتشكل اهتزاز الأصوات نتيجة لاهتزاز الشريحة ، بسبب احتكاكها بالقوس ، وتحكم العازف بذلك عبر المقبض ، من جهة ، و لحركة فخذ العازف حيث تستند الشريحة الفولاذية ، من جهة أخرى ..
من المفيد أن نتابع هذا العزف على آلة المنشار الموسيقية لنتبين صوتها وأسلوب العزف عليها..
أنا أستغرب في الواقع كيف اهتدى فريد الأطرش ، ومنذ أوائل الأربعينات من القرن الماضي ، أي منذ ما يزيد عن سبعين عاماً ، إلى هذه الآلة ، التي لم تكن معروفة على نطاق واسع حتى في الغرب ، فاستخدمها ، و لثوان معدودات ، ودون تصوير ، في تانغو أهواك وروحي فداك عام 1942 ، وهو من أعمال فيلم أحلام الشباب ، ما جعلها بعيدة عن آذان النقاد وانتباههم ، علماً بأنني أتصور أن تواجد عازف في مصر على هذه الآلة كان صعباً أصلاً !!
ولما كانت طبيعة الأصوات التي تصدرها هذه الآلة تتصف بالامتداد ، ولا تتلاءم كثيراً مع الجمل اللحنية السريعة ، بسبب صعوبات العزف عليها ، ما يجعلها تلائم الألحان التعبيرية التي تتشكل جملها اللحنية من أصوات مديدة ، فقد جاء أسلوب توظيف آلة المنشار الموسيقية في تانغو أهواك ، متوافقاً مع جمله اللحنية المعتمدة على الأصوات المديدة ، وهذا يدل ، طبعاً ، إلى جانب التنافس المعروف ، حول الآلات الغربية وإدخالها إلى الموسيقى العربية في مجالات تلائم ذلك ، على مدى اهتمام فريد الأطرش ، كما محمد عبد الوهاب ، بفنه ، وتوظيف أي ظاهرة أو أداة تحقق له تصوير الجو الموسيقي الذي يريد..
سأعرض أولاً ملفاً صوتياً يوضح الجملة اللحنية التي عبرت عنها آلة المنشار في تانغو أهواك وروحي فداك ، مع تكرارها للإيضاح
في التحليل الموسيقي .. هناك احتمال أن يكون فريد الأطرش قد أعجب بملاءمة آلة المنشار للأصوات المديدة في التانغو .. وهناك احتمال آخر قد يكون صحيحاً ، إذ أن الأغنية ( كما سنرى في الفيديو المرفق ) تجسد انعطافاً في مساره العاطفي في الفيلم ، إذ يبدأ التانغو مع تحية كاريوكا ( في الفيلم ) ، ثم ينعطف نحو مديحة يسري ( في الفيلم ) ليكمل التانغو معها ، فهل كانت طبيعة هذه الآلة ، التي تصدر فيها الأصوات في نقطة انعطاف الشريحة بين منحنيين متعارضين .. سبباً في اختيارها؟؟
لنتابع الأغنية كما وردت في فيلم أحلام الشباب ، حيث سيكون مرور آلة المنشار في الثواني التالية : من 14 إلى24 .
المنشار في الموسيقى العربية
في حدود علمي لم يستخدم المنشار الموسيقي ، كما هو ، في أعمال ملحنين آخرين في الموسيقى العربية ، إلا في حالة الملحن المصري علي فراج ، الذي استخدمه في لحنه لشافية أحمد : يا عاشقين الورد ، وكذلك في لحنه ” أمانة يا عم ” لنعيمة عاكف ونوال في فيلم ” بابا عريس ” ، الذي عرض عام 1950 ، و هما حالتان استخدم فيها المنشار الموسيقي ، ولم يكن هناك تقليد له من خلال الأورغ الكهربائي ، إذ أننا عند التدقيق في تسجيلي الأغنيتين ، نلاحظ أن الأصوات الموسيقية غير دقيقة تماماً ، وهذه من صفات نتاج المنشار الموسيقي ، إذ يتطلب ضبط درجة الصوت فيه مهارة كبيرة في العزف ، أما عندما جرى التقليد عبر الأورغ ، فالدرجات الصوتية أصبحت مضبوطة أكثر.
أعتقد أن هناك أسباباً عديدة لندرة التعامل مع المنشار الموسيقي ، أولها : ندرة العازفين في العالم العربي ، كما أن العزف على المنشار متعب ، فبعد دقائق تنهك عضلات اليد ، إضافة إلى صعوبة أداء الأصوات فيه بدقة ، خاصة إن لم تكن مرسلة بل كانت ذات إيقاعية ما ، ومما يضعف حالات استخدامه أن صوته يشبه الصوت النسائي ” السوبرانو ” ، وهذا متوفر أكثر ، وثانياً : إمكانية تقليد صوته من خلال آلات الأورغ الكهربائي الأولى ، ما سمح للملحنين بتوليد الأجواء الموسيقية ذاتها ، التي يولدها المنشار الموسيقي ، عبر آلة الأورغ الكهربائي ، وبالتالي أصبح ذلك الاستخدام يعزى للأورغ وليس للمنشار ، بما يعني ، أن أي مرور لاحق ، لصوت مشابه لصوت المنشار الموسيقي ، في أعمال الملحنين العرب ، فإنه على الغالب صادر عن أورغ كهربائي .. أرفق صورة لآلة الكلافيولين الكهربائية التي اخترعت عام 1947 وانتشرت ابتداء من عام 1962 وكانت قادرة على تقليد صوت المنشار الكهربائي ، إلى جانب غيره من الآلات كالترومبون والساكسوفون والكلارينيت..