منذ فترة طويلة ، كانت تراودني فكرة إعادة تجسيد أولى أشكال المثاقفة الشاملة والآنية عبر التاريخ ، وهي التي كانت تحصل في حلب ، ملتقى قوافل طريق الحرير من الشرق والغرب ، عندما كانت تصلها القوافل التجارية الوافدة ، وهي مدن متحركة تضم مختلف أشكال النشاط الإنساني ، بما في ذلك المغنين ، فتتلاقى في خانات حلب حيث يحصل نوع خاص من المثاقفة ، بين المغنين القادمين مع تلك القوافل ، وبين مطربي وملحني المدينة، ما ينتج عنه حفظ الألحان الوافدة ، وتحويلها إلى لهجة المدينة الدارجة ، لتدخل المخزون اللحني الضخم ، الذ ي سمي لاحقاً القدود الحلبية ، فتسهم في إغناء سهرات حلب ، التي كان يقيمها كبار التجار يومياً ، للتخلص من عناء المتاجرة، في زمن لم يكن قد ظهر فيه التلفاز ، لينهي تلك اللقاءات المتكررة بين المتلقي والمبدع ، فيما بالمقابل كانت ألحان ملحني حلب و عناصر مخزونها اللحني ، تعود مع مطربي القوافل إلى بلدانهم ، لتستبدل نصوصها ، إلى اللهجة المحلية ، و تنضم إلى تراث تلك البلدان! ومع ذلك فإن مركز اللقاء كان يختزن الناتج الكامل لعملية التثاقف ، مع القوافل القادمة جميعها ، فيما كانت كل قافلة تختزن ما أتيح لها في رحلتها.
وفرت لي إدارتي لوزارة السياحة بين عامي 2001 و 2011 هذه الفرصة . أطلقتُ مهرجان طريق الحرير اعتباراً من عام 2002 ، وبدأتُ بتطوير فكرة لقاء الموسيقيين من بلدان محتلفة في سياق نشاطاته المختلفة ، إلى أن اكتملت الصورة في الدورة التاسعة أي في عام عام 2010 في حفل ختام المهرجان.
جسد الحفل حوارا فكريا موسيقيا بين ثقافات وحضارات طريق الحرير إذ شارك في الحفل 17 من أعلام الفن والموسيقا من 13 دولة عربية وأجنبية وهم : الفنان التونسي لطفي بوشناق إلى جانب مطرب المقام العراقي حسين الأعظمي والمغنية المغربية فدوى المالكي ومغنية الفلامنغو الاسبانية روسيو ماركيز مع عازف غيتار الفلامنغو الفرنسي كيليرمو كيلن وعازفة القانون الأرمينية هاسميك لي لويان وعازف الناي التركي أحمد إسلام توز وعازف القانون العراقي حسن فالح وعازف آلة السيتار التراثية الإيرانية كيوان ساكت وعازف الساروت الهندي ارناب جاكرابارتي مع عازف الإيقاع بروديبتو لاهيري والعازف والمغني اليمني الأصل عبود خواجة وعازفتي الايروا والبيبا الصينيتين مازياو هوي وسين لي وعازف الإيقاع الأردني ناصر سلامة إضافة إلى الفنان السوري شادي عبد الكريم وكان الحفل من إعداد وقيادة عازف العود السوري حسين سبسبي.
قدمت هذه النخبة من الفنانين عملاً فنياً مشتركاً جسد أهمية الموسيقا كلغة عالمية للإبداع والتفاهم والتفاعل الثقافي و نقل صورة من صور التبادل الفكري والفني الذي كان ينشأ عبر تلاقي قوافل طريق الحرير في سورية حاملة معها فنونها ومتفاعلة مع الآخرين في أنصع صورة للمثاقفة الموسيقية عبر التاريخ .