كثيرة هي الأعمال الغنائية الفيروزية التي حفظها الناس ، سواء أكانت ضمن المسرحيات الرحبانية أم خارجها .. ولكن تلك المسرحيات تضمنت مشاهد غنائية لم تحظ بأي اهتمام فنسيها الناس والنقاد رغم أهميتها المطلقة !
أعتقد ، في هذا الإطار ، أن مشهد لقاء ريما ” فيروز ” براجح ” جوزيف عازار ” ، ثم إبلاغها خالها المختار ” نصري شمس الدين ” بقدوم راجح المفاجئ ، في مسرحية ” بياع الخواتم ” ، هو من أهم المشاهد الغنائية المسرحية التي كتبها و لحنها ” الأخوين رحباني ” خصيصاً للمسرح ، نظراً للمستوى الرفيع الذي ارتقى إليه فيه التعبير الدرامي عن تناقض المواقف وتضادها ، سواء من خلال الانتقال من الحداثة الموسيقية إلى الفولكلور ، و من الألحان المرسلة إلى الإيقاعية ، أو عبر توظيف تباينات الأصوات و المقامات و حتى الإيقاعات اللفظية و الموسيقية ، لإبراز تلك التناقض ، ولذا فقد وجدت من الضروري أن أكتب عنه ، كنموذج عن دراستي المتكاملة عن فيروز والأخوين رحباني.. فلنتابعه..
جاء المشهد الغنائي في سياق مسرحية بياع الخواتم ، التي قدمت عام 1964 ، ثم تحولت إلى فيلم عام 1965 ، و جسد لحظة لقاء راجح ، الذي يبيع الخواتم لأهالي القرى المحيطة ، والذي يأتي إلى الضيعة لذات الغرض ، مع ريما ” فيروز ” ، ابنة أخت المختار ” نصري شمس الدين ” ، التي كانت تعلم ، أن راجح ليس إلا شخصية وهمية شريرة بذات الاسم ، اخترعها خالها المختار ، على أنها تهدد أهالي الضيعة ، لتكون مجالاً ليروي أمامهم بطولاته الوهمية ، في دفاعه عنهم ، وحمايتهم منها ، ما يمكنه من تثبيت مهابته أمامهم ، وتبرير سلطته عليهم ..
الشخصية لها بعد سياسي بالطبع ، في إطار تشابكات المجتمع اللبناني ، والمراحل التي عاشها في النصف الأول من الستينات ، وهو ما سأتوقف عنده في دراستي للمسرحية ، ولكنني الآن بصدد تحليل هذا المشهد المسرحي الغنائي العابق بالتعبير الدرامي .. ابتداءً من ارتياع ريما ، إذ وجدت أمامها شخصاً حقيقياً يدعي بأنه راجح .. وصولاً إلى استيعابها للأمر ، إلى طريقة إبلاغ خالها ، الذي يفاجأ أيضاً بشخصية اخترعها ، ذات طابع إجرامي ، تأتي إلى بيته .. وصولاً إلى تأجيل معالجة الموضوع إلى وقت لاحق..
أتى المشهد في 3:28 دقيقة ، وفي سبعة مشاهد تفصيلية ، لكل منها أجواؤه التعبيرية المختلفة..فلنستعرضها بالتفصيل ثم نتابع المشهد كاملاً ..
المشهد الأول : 37 ثانية / فلنتابع التحليل مع الاستماع للمشهد
تنطلق الموسسيقى في لحن يوحي بأجواء الترقب.. ثم يبدأ حوار بين راجح وريما في مستويين صوتيين .. على مقام النهاوند . راجح يعلم ريما برغبته بلقاء المختار ، متحدثاً بصوت واثق في طبقة موسيقية أعلى من طبقة فيروز ، بما يوحي بأنها ستكون في موقف ضعيف أمامه …. فيما تمهد الموسيقى لكل سؤال أو جواب بضربات خاطفة تعبر عن توتر ريما ، مع تطور إدراكها لصعوبة الموقف….
ثم تأتي المفاجأة عندما يعلن راجح اسمه .. وتأتي عند ريما جملة من الاستفسارات والمحاكمات العقلية .. تتصاعد فيها الجمل اللحنية في جميع مواقع السؤال والاستنكار لمعلومات غير منطقية بالنسبة لها.. فيما تأتي تلك الجمل اللحنية متخافضة خلال محاكمتها العقلية وترددها في قبول المعلومات نحو استقرار المقام .. كأنها تبحث عن استقرارٍ يريحها .. خاصة عند قولها : راجح مش موجود ..
المشهد الثاني : 9 ثوان / فلنتابع التحليل مع الاستماع للمشهد
ثم تأتي المفاجأة إذ يثبت راجح شخصيته.. ولندقق في أسلوب التعبير .. تخافض اللحن بشكل انهياري عند ريما ينتهي بتصاعد استنكاري..
المشهد الثالث : 39 ثانية / فلنتابع التحليل مع الاستماع للمشهد
اللهجة القوية عند راجح تؤكد شخصية المجرم التي اخترعها المختار.. مع تمهيد موسيقي له ملائم وضاغط .. فيما يبرز الخوف عند ريما في رجفة عابرة في الصوت عند جملة : قبل موسم الخطبة؟ ودائماً لحن كلمة ناطر يأتي في إيقاعية واضحة للتأكيد على أهمية اللقاء!
المشهد الرابع : 19 ثانية / فلنتابع التحليل مع الاستماع للمشهد
هنا يأتي دور الموسيقى للتعبير عن الحيرة ، في قفزات على أصوات موسيقية من أصل المقام حيث تتحول الموسيقى إلى مقام الحجاز كار ولكن في تتالٍ غير منسجم يعبر عن الحيرة وحتى عندما تنادي ريما خالها فنداؤها مبني على صوتين موسيقيين متتاليين باتجاه الهبوط مع توقف عند الصوت الأخفض وهوحساس مقام الحجاز كار في موقع غير متداول لاستقرار الغناء وتوقفه.. مع اختلاف جوهري.. الموسيقى تتوقف دائماً باتجاه تصاعدي .. وريما ” فيروز ” تتوقف باتجاز تخافضي .. وهذا التضاد يزيد من أجواء الحيرة والخوف..أؤكد على الصدى التعبيري الذي يحيط بنداء ريما لخالها .. فيعبر عن إحساسها بالوحدة و الخوف .. وكأن الضيعة اختفت من حولها..
تتحول الألحان هنا إلى أجواء شرقية بسبب دخول شخصية المختار في المشهد .. ويلجأ ” الأخوين رحباني ” هنا إلى أسلوب جديد للتعبير الدرامي ، من خلال توظيف المقامات الموسيقية.. البداية مع المختار ومقام العجم في لحن حيوي .. إذ أنه لا يزال معجباً بنفسه في استمراره في الكذب .. تبلغه ريما بقدوم راجح أولاً ، على مقام العجم ذاته .. ثم يتحول اللحن إلى مقام الحجاز كار ، الذي كان سيطر عندما هرعت لإبلاغ خالها عن لقائها مع راجح ، في تذكير مبدع بذلك الموقف ، وفي استفادة من طبيعة أبعاد ذلك المقام الموسيقية ، التي تناسب الصدامية والاستنكار والحيرة .. يأتي ذلك عندما تؤكد له قدوم راجح .. ثم يتابع هو في ذات المقام عند دخوله في جو المفاجأة في دلالة على بدء استيعابه للأمر … ونلاحظ تغير اللحن إلى لمحات صدامية عند بدء استيعابه للأمر
المشهد السادس : 23 ثانية / فلنتابع التحليل مع الاستماع للمشهد
يتابع ” الأخوين رحباني ” توظيف المقامات الموسيقية في التعبير في هذا القسم ، إذ يتحول اللحن إلى مقام البيات ، عندما يظن المختار أنه يحلم وتنتابه الحيرة ، وهنا مجال لإكساب غنائه إيقاعية لفظية واضحة ، قد نتساءل عن أسبابها.. والجواب سيأتي لاحقاً .. إذ أن فيروز تتابع أيضاً على المقام ذاته.. عند : شفته متل الجايي من غنيي بحرية .. حيث يوحي النص بإعجابها براجح .. وهذا إبداع تلحيني رؤيوي ، لما ستؤول إليه الأمور ، حيث أن راجح سيخطب ريما لابنه لاحقاً في سياق المسرحية وستقبل..ناهيك عن أنها أصلاً ، أي ريما ، لم تكن توافق خالها على كذبه . ثم .. و للتعبير عن حيرة ريما بين إعجابها براجح وخوفها منه .. خاصة أن جو النص يتغير عند : من شي كذبة ربيت بالغربة ، حيث يتغير ضغط الإيقاع في اللحن الذي تؤديه عند : من شي كذبة ربيت بالغربة ، ليتحول الضغط الإيقاعي بشكل مخالف للسابق مجدداً عند : من شي خبرية .. وهنا نفهم لماذا كانت الضغوط الإيقاعية واضحة عند المختار .. إذ توقع الأخوين رحباني أن هناك من سيتهمهم بالخطأ في الضغوط الإيقاعية .. ولذا كان الإثبات المسبق لقدرتهم على إعطاء تلك الضغوط بشكل دقيق في لحن المختار ، أما عندما يتصل الأمر بالتعبير بالإيقاع عن الحيرة ، فلابد من تغيير الضغوط الإيقاعية للتعبير عن تلك الحيرة ، في أسلوب مشابه تماماً للتعبير الذي وجدناه قبل قليل ، في المشهدين الثاني والثالث ، ولكنه كان بالأصوات الموسيقية وتغيراتها تلك المرة..
المشهد السابع : 32 ثانية / فلنتابع التحليل مع الاستماع للمشهد
ويتحول اللحن أخيراً إلى مقام الهزام .. الذي تقع درجة استقراره على درجة صوتية تعتمد أرباع الأصوات ( مي نصف بيمول ) وهي ليست من الأصوات الأساسية ، بما يضعف وضوحها ، ويعكس عدم وضوح الحل ، حيث سيتوافقان على تأجيل معالجة الموضوع ، وهنا يصدر المختار تأوهات متصاعدة بدون كلمات بينما ريما تتحدث ، معبراً عن الندم على ما فعل .. ثم تختم فيروز اللحن عند درجة استقرار مقام الهزام ، لأنها صاحبة الرأي في التأجيل ، وينهي المختار لحنه على الدرجة الخامسة ، التي تتخذ في المقامات الأهمية الثانية بعد أهمية درجة الاستقرار .. وقد اختار ” الأخوين رحباني ” لختام المختار الأهمية الثانية لأن المختار استجاب لرأي فيروز ولم يكن الرأي بالتأجيل له أصلاً..
حان الوقت لمتابعة المشهد كاملاً .. فعلاً إنه أسلوب تعبيري نادر ، عن مواقف متضاربة ، سريعة التحول ، عبر عنه بإتقان ، كل من فيروز ونصري شمس الدين و جوزيف عازار ، مع ضرورة التنويه ، بأن جل الجهد التعبيري كان على عاتق السيدة فيروز ، إذ أنها جسدت ، بتعبيرية لافتة على مستوى الأداء الصوتي والتمثيلي أيضاً ، أغلب التحولات التي طرأت على طول مسار المشهد ، الذي وظف فيه ” الأخوين رحباني ” الأصوات الموسيقية والمقامات الموسيقية والضغوط الإيقاعية ، للتعبير عن تباين المواقف وتناقضها .. وقد كان هذا كله جديداً كل الجدة في الغناء العربي .. لم يتوقف عنده أحد !!
كلمة أخيرة
كثيراً ما وظف السياسيون في لبنان شخصية راجح عند اتهام خصومهم السياسيين بالتهويل .. فيما دُرست سيرة فيروز والأخوين رحباني فكرياً وفُصِّلت حتى أدق التفاصيل ، غير أن علاقة تلك المضامين الجدلية مع الموسيقى لم تدرس ، رغم أنها هي التي كانت أساس شهرتهم !! مشهد راجح من المشاهد التي جسدت تلك الجدلية تماماً ، وقد رأيت نفض الغبار عنه كيلا يغيِّبه النسيان ..