في رحلته بين حفلات عبد الوهاب في حلب و موقع يوتيوب: هل لا يزال الجمهور يستمع للموسيقى؟

حلب .. وحماية الذوق العام

في عام 1927 ،  زار الأستاذ محمد عبد الوهاب سورية ، وغنى في عدة مدن فيها ، ومنها حلب ، عاصمة التجارة في الشرق العربي ، و مركز الإشعاع الموسيقي العربي حتى أوائل القرن العشرين . كان تعاقد على عدة حفلات .. وكانت تسوَّق أيضاً في تلك الحفلات ، أسطوانات أغانيه الجديدة التي صدرت عام 1927 .. مثل موال ” اللي انكتب ع الجبين ، و قصائد : ” يا حبيبي كحل السهد جفوني”  ، و ” خدعوها بقولهم حسناء ”  ..


في حلب .. كانت المفاجأة في حفلته الأولى ، فالحضور لا يزيد عن العشرات ، في مسرح يتسع للآلاف .. لنستمع إليه يصف ما حصل معه..

نعم .. كانت قواعد الاستماع في حلب ، لا تسمح للجمهور بالاستماع إلى أي مطرب جديد ، قبل أن يحظى بموافقة لجنة من النقاد والمبدعين ، مهمتها حماية الذوق الموسيقي العام .. وهكذا بنت حلب سمعتها الموسيقية ، ليس فقط على قدودها وموشحاتها ، بل على نقادها و على جمهورها ، الذي كان يخشاه كل مطرب أو مطربة..


سلوك متابعي موقع يوتيوب ..؟؟

تذكرت هذه الحادثة وأنا أقرأ بحثاً عن سلوك جمهور موقع يوتيوب على الإنترنت .. وهو الخزان الأضخم اليوم ، لتسجيلات الموسيقى العربية الأصيلة ..  كانت الأرقام أمامي تتحدث عن واقع غريب غير متوقع .. أثار عندي الشكوك حول مستقبل موسيقانا . كنت دائماً أطمئن على واقعها ، عندما ألاحظ أن أغان للسيدة أم كلثوم تحصد مئات الآلاف من  المشاهدات ، مثلها مثل أغاني الأستاذ عبد الوهاب ، وأسمهان ، وفريد الأطرش ، وعبد الحليم ، وفيروز ، وصباح فخري .. ما يعني أن محبي الفن الأصيل مثابرون على الاستماع إليه وعلى تقديره ، وأن  حال الموسيقى العربية الأصيلة عند متابعيها مستقر كما كان يبدو .. ولكن الشكوك  بدأ تساورني ، وأنا أدخل في تفاصيل دراسات سلوك المشاهدين .. وأكتشف مدى المغالطات التي تعبر عنها أعداد المشاهدات التي يبينها موقع يوتيوب ، لكل فيديو منشور على موقعه .. فقد تبين لي أن 20% من مشاهدي أي فيديو على الإنترنت يتركونه خلال 10 ثواني .. ومع ذلك يحتسب موقع يوتيوب تلك المشاهدة.. وأن المشاهدة الوسطية لا تزيد عن دقيقتين  لأي  فيديو مدته من 4 إلى 5 دقائق ، أما الأغاني التي تبلغ مدتها من 5 إلى 10 دقائق ، وهي مدة وسطية لأي أغنية عربية .. فلا تحظى إلا ب 3 دقائق وسطياً من المشاهدة ، فيما تختصر المدة الوسطية لمشاهدة فيديو تزيد مدته عن الساعة ( حفلة لأم كلثوم مثلاً ) ، إلى 12 دقيقة فقط  ! ..مع أن المشاهدات المبينة ،  وبشكل يجافي الحقيقة ، تحتسب كلها على موقع يوتيوب ، على أنها مشاهدات كاملة  ، وذلك لغايات تجارية ، لأنها تزيد من قيمة الإعلانات عليه !!


مزيد من التدقيق 

عدت إلى الإحصائيات الكاملة لقناة top100arabicsongs على موقع يوتيوب ، وهي قناة مرتبطة بموقعي هذا ، ومخصصة لنشر الأغاني المرشحة لتكون ضمن أهم مائة أغنية عربية .. وتبين لي أن وسطي مدة المشاهدة لا يتعدى دقيقتين فقط ، لمشاهدات تقترب من نصف مليون مشاهدة ،  مقابل المدة الوسطية للأغاني المنشورة والتي تزيد على 4:20 دقيقة .. بما يعني إحصائياً أن عشرات فقط من متابعي أي أغنية من هذه الأغاني أنهوا الاستماع إليها ..!!


تحليل أولي

ورحت أحاول تحليل الظاهرة .. خاصة أن هذه المدد الوسطية تقل سنة بعد أخرى .. هل هو جمهور ذواق لا يكمل ما لايعجبه ، ويذهب لشيء آخر .. أم أنه جمهور نزق ، ليس لديه الصبر لإكمال الاستماع ؟ أم أنه موقع يوتيوب الذي ينشر إلى جانب الفيديو المشاهَد خيارات كثيرة ، وكأنها دعوة لمغادرة الفيديو المشاهد إلى غيره ، لكي يحقق موقع يوتيوب مزيداً من المشاهدات التي تصب في مصلحته وأسعار إعلاناته ..

لعل هذا كان السبب في اختراع Shorts  و  Reels على منصتي يوتيوب وفيس بوك!


تراثٌ يغيب

نعم .. يبدو أن قواعد الاستماع تغيرت كثيراً منذ أن زار عبد الوهاب حلب في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي .. .. حيث أصغى جمهور حلب بهدوء لأغانيه  .. بعد اعتماد لجنة الاستماع له ، و تأكيدها صلاحيته للاستماع .. صحيح أن تلك القواعد كانت تتغير مع ظهور كل تقنية جديدة .. كالأسطوانة فالسينما فالإذاعة فالتلفزيون .. تلك التقنيات التي أفسحت في المجال أمام الجمهور للاستماع للمطربين دون وسيط .. كما لجنة حلب..  ولكنها ، أي تلك القواعد ، بقيت محافظة على حد أدنى من المتابعة  والاهتمام .. إلى أن أتت القنوات الفضائية ، ثم الإنترنت.. ومع ازدياد الخيارات وتنوعها .. تجلت حيرة الجمهور .. وانعكست في تنقل تلقائي بين الأغاني .. كما هو التنقل بين القنوات الفضائية اليوم .. فلم يعد أحد يكمل استماعاً إلى أغنية ، أو مشاهدةً لفيلم ، أو قراءةً لكتاب .. وفيما استمع جمهور حلب إلى أغاني عبد الوهاب بإصغاء كامل .. .. قد لا تحظى أغانيه في سنوات قليلة قادمة إلا لثوان معدودات من الاستماع .. وإن لم نقم بجهد حقيقي لتغيير هذا الواقع .. قد لا  يقاوم تراثنا الذي طالما عاش في أذهان متابعيه عبر عشرات السنين .. غدرات الزمن القادم ..

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading