من المعروف أن مكتشف فيروز ، الأستاذ محمد فليفل ، سعى لها ، و بطلب منها ، لكي تعمل في الإذاعة اللبنانية ، وأنه مساء يوم سبت من شهر آذار 1950 ، تعرف حليم الرومي رئيس القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية على فيروز ، بسعي من الشيخ حافظ تقي الدين سكرتير برامج الإذاعة ، الذي طلب منه الاستماع إلى صوت فيروز .عندما اقتنع الرومي بصوت فيروز ، قدم لها ألحاناً ، ثم عرفها على عاصي رحباني ، لينطلقا في مسارهما الذي أنتج مدرسة موسيقية وغنائية جديدة. والسؤال : لماذا تخلى حليم الرومي عن صوت فيروز .. المقال التالي يسعى للإجابة عن هذا السؤال..
في مكتب حليم الرومي ، وأمام لجنة الاستماع ، التي كانت تتألف إلى جانبه من ميشال خياط ونقولا المني وخالد أبو النصر، غنت فيروز ( وكان اسمها نهاد حداد ) موال أسمهان ” يا ديرتي مالك علينا لوم ” ، و تانغو فريد الأطرش ” يا زهرة في خيالي “. أعجب حليم الرومي بصوتها ، وعرض عليها أن تشتغل في الاذاعة كمرددة ضمن الكورس كبداية ، فحقق لها رغبتها . أطلق عليها اسمها فيروز ، وقدم لها أغنية ” تركت قلبي ” التي غنتها في أوائل شهر نيسان 1950 على الهواء ، فكانت أول أغنية تغنيها خارج مشاركاتها مع الأستاذ فليفل ، و أتبعها بأغنية ” في جو سحر وجمال ” ، ثم بمحاورة “عاشق الورد” التي غناها معها ، ثم تلتها أغنيتان: الأولى “يا حمام”، والثانية “أحبك مهما أشوف منك” اللتان سجلتا على أسطوانات تجارية لشركة أسطوانات بيضا الأصلية في سنة 1952 . عرّفها على عاصي رحباني في بداية عام 1951 ، ودعاه للتلحين لها ، كما كلف عدداً آخر من ملحني الإذاعة اللبنانية بذلك ، متوقفاً هو عن التلحين لها ! والسؤال الذي يطرح نفسه .. لماذا تخلى حليم الرومي عن صوت فيروز ؟
لابد أولاً من استعراض مسيرة حليم الرومي ، لكي نستكشف آفاق الإجابة على هذا السؤال..
حليم الرومي
حليم الرومي موسيقي فلسطيني ولد في حيفا عام 1915. درس الموسيقى في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية في القاهرة ، فتشبع بفن محمد عبد الوهاب والكلاسيكيين العرب الآخرين في مصر. عاد بعد تخرجه إلى يافا، حيث عمل مسؤولاً موسيقياً في إذاعة الشرق الأدنى، التي أسسها البريطانيون هناك أولاً لأغراض عسكرية في الحرب العالمية الثانية، ثم حولوها إذاعة عامة . توقفت الإذاعة مع نكبة فلسطين عام 1948، فانتقل حليم الرومي إلى لبنان، حيث تسلم مسؤولية القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية ، و قسم التسجيلات فيها ، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة التلحين والغناء . برع في تلحين الألحان الراقصة ، و القصيدة ، والموشح ، في مزاج لحني تأثر بوضوح بمدرسة عبد الوهاب ، كما فاز بجائزة المجمع العربي للموسيقا عام 1972 في تلحين الموشحات ، على لحنه لموشح “غلب الوجد عليه فبكى” . برع في الغناء أيضاً ، إذ فاز مع نور الهدى ، بجائزة الإذاعة اللبنانية لأفضل صوتين لعام 1950. توفي حليم الرومي في 2 / 11 / 1983 .
العناصر التي تؤثر على قراراته
لنتوقف الآن عند العناصر في مهامه التي يمكن أن تساعدنا في الإجابة عن السؤال.. فحليم الرومي رئيس للقسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية ، ولكنه أيضاً ملحن ، ومطرب.. و لاشك في تأثير جميع هذه العناصر على قراراته.. ولنبحث أولاً في جميع الاحتمالات محاولين اختبارها حتى منتهاها..
العنصر الأول : رئيس القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية:
كانت مهام الأستاذ حليم الرومي كرئيس للقسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية تتضمن اكتشاف الأصوات الجديدة ، و تكليف الملحنين المناسبين للصوت الجديد ، مع تنويع اختياراته من الملحنين ، بقصد اكتشاف الشخصية اللحنية الأفضل لذلك الصوت .. وقد قام بهذه المهمة خير قيام بالنسبة لفيروز ، فطلب من ملحنين آخرين التلحين لها ، مثل خالد أبو النصر وسليم الحلو .. مبتدئاً بعاصي رحباني .. ولكن من المفيد هنا أن نتوقف عند واقع قلما جرى الحديث عنه .. إذ أن الأصوات التي كانت تغني في الإذاعة اللبنانية ، كانت تمتنع عن تسجيل ألحان عاصي .. بسبب مساراتها المخالفة للسائد .. ما كان يضطره ومنصور للتوجه للتلحين للكورس ، أو للاستعانة بشقيقتهما سلوى التي كانت تغني تحت اسم نجوى .. ولاحقاً بصوت حنان.. فلماذا وجه فيروز إليه.. بشكل رئيسي؟ هل كان لمساعدته في تأمين صوت لتأدية ألحانه فقط ، أم لإيمانه المبكر بموهبته؟
يلاحظ هنا أن حليم الرومي نصح عاصي رحباني بأن يوجه فيروز إلى الأغاني الراقصة ، التي كان يلحنها عاصي ومنصور لصالح إذاعة الشرق الأدنى .. وفيما اعترض منصور على عدم ملاءمة صوتها لذلك المسار ، قبل عاصي النصيحة ، ربما مسايرة لحليم الرومي نظراً لحاجته إليه ، وربما لحاجته لصوت يقبل أداء ألحانه ، كما ورد أعلاه .. فيما يقول منصور رحباني في هذا الإطار .. إن مسؤولي الإذاعة ترددوا في قبول صوت فيروز لمدة ثلاث سنوات قبل أن يقتنعوا به… فهل كان حليم الرومي منهم ؟ فوجد أن الأفضل جمع ملحن لا يقبل أحد أن يغني ألحانه .. مع صوت تردد الجميع في قبوله؟؟ يا لها من صيغة عندما ننظر في نتائجها اللاحقة!!
العنصر الثاني: الملحن:
1- بحكم موقعه كرئيس للقسم الموسيقي ، كانت الأصوات المعروفة تحت تصرفه كملحن ، وبالتالي فتخليه عن فيروز مبرر بسبب وجود فرص كبيرة أمامه للتلحين لأصوات أخرى مميزة ومعروفة . ولكن هذا الاحتمال ، في حال صحته ، فإنه يعني أن الرومي كملحن لم يستطع أن يكتشف القدرات الحقيقية لفيروز وأنه لم ينتبه كثيراً لاحتمالات تميزها المستقبلية .. رغم أنه لحن لها وغنى معها ديالوج عاشق الورد ، الذي يبين إمكانات صوتها بوضوح .. مع أن وظيفته الأساسية كملحن ، اكتشاف ثم تطوير الشخصية التلحينية لأي صوت جديد.. يعارض هذا الاحتمال ما قاله منصور رحباني عام 1993 : كانت صبية تجيء الى الاذاعة مع فرقة فليفل تغني الاناشيد. وصدف ان استمع حليم الرومي الى غنائها المنفرد فأعجبه صوتها كثيراً ورأى فيها مستقبلاً عظيماً. استدعى عاصي الى مكتبه وقال له: “عندنا صبية جديدة ذات صوت خارق ، و أرى ان تتعاون معها في أركانك”.. بينما يؤيده رواية أخرى على لسان منصور رحباني وردت في كتاب الأستاذ جان ألكسان : الرحبانيون وفيروز المطبوع عام 1987 إذ قال: ” جاء ذات يوم الفنان حليم الرومي إلى عاصي وقال له: هناك فتاة مع فرقة فليفل- وهي فرقة كانت تهتم بشكل خاص بالأناشيد الوطنية- وتدرس في الكونسرفاتوار الوطني، تدعى نهاد حداد، تعال استمع الى صوتها”…!
2- كان انشغال حليم الرومي بالتلحين لأصوات أخرى المبرر السائد لعرضه على عاصي رحباني التلحين لفيروز .. ويقال أنه سعى لإقناع عاصي بصوتها بعد أن كان متردداً في قبول التلحين لها ، معتبراً أن صوتها لا يصلح للغناء الغربي بل للغناء الشعبي ، إذ قال له : ” إن فيروز صوت غير محدد بمقدرته الفائقة على الأداء لكل الألوان الغنائية، وأنه سيتميز في المستقبل القريب بأنه أقدر صوت على غناء الألحان الحديثة في العالم”، فكان ذلك ، كما يقولون ، نبوءة تحققت! وهذا تبرير لا يستقيم من حيث المبدأ مع حليم الرومي كملحن .. فلو أنه كان انتبه إلى أهمية صوتها .. لما تخلى عنه بهذه السهولة .. ولكن شهادة منصور رحباني الأولى أعلاه تؤكد ذلك ، فيما تنفيه شهادة منصور الثانية .. فهل كان حليم الرومي يتمتع بهذه الدرجة من الإيثار ؟ .. علماً بأننا لا نعلم هل أسبغت هذه الصفات على صوت فيروز من البداية .. أم صيغت لاحقاً بعد أن ثبت أن هذا الوصف ينطبق عليها..
العنصر الثالث : المطرب:
يقول وديع الصافي إن حليم الرومي نصحه ، عندما استمع إلى صوته ، في أغان باللون المصري الذي كان وديع يميل إليه ويجيده ، إلى جانب أدائه للاغاني الشعبية اللبنانية ، التي لم تكن قد تكونت بعد في مسار له شخصية واضحة ، نصحه بأن لا يتابع في الخط المصري ، وأن يتجه للخط الشعبي اللبناني .. هناك احتمالان لهذه النصيحة :
الأول: إما أنه أراده أن يعمل في اتجاه كان قد اهتم هو بتطويره إبان عمله في إذاعة الشرق الأدنى في يافا ، وهو توثيق الفولكلور الشعبي الفلسطيني ، موسعاً الهدف باتجاه الفولكلور اللبناني والشامي عموماً . كان عليه بالمقابل ، وبالنسبة لفيروز ، أن يحث عاصي على الاستفادة من صوتها في الخط الشعبي ، وهو ما لم يحصل ، رغم أن عاصي نفسه اعتقد في البداية أن صوتها ملائم للخط الشعبي أكثر من الخط الراقص حسبما ورد أعلاه.
الثاني: وإما أنه انتبه إلى صوت وديع الرائع ، وغير القابل للمقارنة مع أي صوت في لبنان ، فأراد أن يبعده عن المسار الذي اختص هو فيه ، وهو الغناء في الأسلوب المصري .. ونذكر هنا بأن حليم الرومي ونور الهدى فازا بجائزة الإذاعة اللبنانية عام 1950 كأفضل صوتين لبنانيين. فهل كان هذا هو السبب الذي من أجله تخلى حليم الرومي عن التلحين لفيروز؟؟ كيلا يسهم في تحقيق نجوميتها التي قد تنال من نجوميته؟؟ خاصة أنه يتذكر تنافس أم كلثوم وعبد الوهاب على قمة الغناء في مصر..
بالنتيجة..
الاحتمالات إذاً كثيرة .. وأحياناً متناقضة .. وتستوجب تحليلاً أعمق .. له علاقة بتحليل شخصية كل من حليم الرومي ، وعاصي رحباني ، وفيروز . قد أقول أن الاحتمالات جميعها تداخلت ، فأدت إلى تخلي حليم الرومي عن صوت فيروز لصالح عاصي رحباني .. ولكنني أرى أن حليم الرومي عرض على عاصي التعاون مع فيروز ، دون أن يقصد أن يستأثر عاصي بها ، وذلك كشكل من أشكال التنويع لفرص فيروز ، على أن يستمر هو معها ، وغيرهما أيضاً ، ثم ارتأت فيروز المتابعة مع عاصي فقط بعد أن لمست اهتمامه بها وتكريسه جهوده لها ، واستجابت في ذلك لشخصيته الاستحواذية المسيطرة ، و كذلك لعلاقة بينهما بدأت تنمو .. مقابل إدراكها أن حليم الرومي لن يقدم لها شخصية غنائية خاصة بها ، مستندة في ذلك إلى ما لحنه لها .. من المفيد هنا التوقف عند الصفات التي وُصف بها الرومي والتي تؤيد إمكانية استجابته لرغبتها .. إذ قيل فيه : فنّان في كل شىء ، حتى في كلامه الهامس ولهجته الحلوة ولياقته وتربيته المتناهية . كان يتحدث بلطف وكأنه يمس وردة ربيعية ، ويضحك في هدوء وكأنه يتنسم صبا صباحية ساحرة . كانت الموسيقى كل شىء في حياته ، عاش لها … وبها ومنها وإليها ، وكان صوته أخاذاً بما يقطر منه من الصفاء والشّجن “.. إن هذه الصفات تجعلني أرجح أن يكون حليم الرومي آمن بصوت السيدة فيروز من البداية ، و رأى أنها بحاجة لتنويع الملحنين لسبر أغوار الشخصية الغنائية الملائمة لها .. فعرض على عاصي التعاون معها مثلما فعل هو ، ومثلما عرض على غيره أيضاً .. ولكن عاصي باهتمامه بالتلحين المكثف لها ، وبتفرغه لها ، إضافة إلى شخصيته الاستحواذية ، كان المرشح الأفضل لذلك .. فقام بالمهمة وأجاد.. ووجدت السيدة فيروز في ذلك استمراريتها فرغبت في الاستمرار مع عاصي ، لأسباب شخصية أيضاً .. دون أن يكون حليم الرومي قد قصد التخلي عنها .. وهنا لم يجد حليم أمامه سوى القبول بما جرى..
على كل حال .. أكدت الوقائع أن قراره كان لصالحها ، كما أن نصيحته لوديع بأن يتجه للخط الشعبي اللبناني كانت في محلها … وذلك بغض النظر عن الدوافع التي أملت عليه ذلك ..
ولكن هذا بمجمله يطرح أسئلة جديدة .. ماذا قدم الملحنون من شخصيات غنائية للسيدة فيروز ابتداءً من الأخوين فليفل إلى حليم الرومي فسليم الحلو وخالد أبو النصر ..وهل كانت محقة في تخليها عنها لصالح عاصي ومنصور رحباني ؟؟ .. ولهذا أحاديث أخرى !
د. سعد الله آغا القلعة