النقطة الأخيرة فيما تبقى هي موضوع مصر ، هذا موضوع كبير جداً ، في الحقيقة مصر كانت قبل عبده الحمولي وبالتالي قبل أبو خليل القباني كانت تغني باللهجة الحلبية ، و وذلك واضح في إجماع الكتب المنشورة في مصر عن تلك الفترة ، أن فناناً اسمه شاكر أفندي الحلبي ، سافر من سوريا في حوالي 1830 ، أي في فترة حكم ابراهيم باشا ابن محمد علي لسورية ، وإقامته في حلب ، ونقل الموشحات والقدود إلى أهالي مصر فغنوها ، و هذه أول إشارة إلى بداية الغناء في مصر ، طبعاً أنا لا أتحدث هنا عن الغناء الشعبي ،الغناء الشعبي موجود عند كل الشعوب ، أنا أتحدث عن الصنعة ، عن الغناء العالم ، كما نسميه ، أو الغناء المتقن : أي الموشحات ، الإيقاعات ..المقامات.
يقال إذاً بأن عبده الحمولي ، وهذا مكتوب في كتب ومراجع مصرية ، فأنا لا أتحدث عن شىء من الخيال .. يقال بأن عبده الحمولي أزال الجفوة الحلبية من غناء مصر ، هذا يعني أنه كانت هناك لهجة حلبية في الغناء ، فأزالها ومصّر لغة الغناء ..
إذاً البذرة الأولى لم تكن لأبي خليل،ولكن أبا خليل تأثيره أعمق . شاكر أفندي الحلبي نقل الغناء كما هو فغُني، لأن شاكر أفندي الحلبي لم يكن ملحناً ، وإنما كان من حفظة الغناء ، أما أبو خليل فهو أستاذ في الصنعة الموسيقية ، أستاذ في الإيقاعات والمقامات ، وأستاذ في التلحين ، بالإضافة إلى أنه أستاذ في المسرح والتأليف ، ولذلك طلابه أصبحوا ملحنين كسلامة حجازي وكامل الخلعي ، وبالتالي هو نقل الصنعة ولم ينقل أغاني فقط ، كامل الخلعي تلميذه وثق له الكثير من الألحان مما أخذوه على أستاذهم ، لكن هو نقل الصنعة أيضاً .. و من ذلك يقول كامل الخلعي : لم يلحن أحد على مقام العجم في مصر قبل أبي خليل .. ماذا يعني هذا ؟ إنه يعني بأن أبا خليل أدخل مقامات لم تكن معروفة ، فعلّمهم مقامات مثل مقام العجم .. و لا شك في أن عبده الحمولي وسلامة حجازي اللذين عملا في مسرح أبي خليل وسلامة حجازي وغيرهم استفادوا كثيرا من هذه الصنعة ..
طبعاً كانت هناك منافذ أخرى ، مثلاً عبده الحمولي يقال بأنه سافرإلى تركيا أيضا ، واطلع على ما يجري هناك ، أنا لا أريد أن أحصر ما حصل في مصر من نهضة على أنه كان على يد أبي خليل .. ليس هذا المقصود أبداً ، لكنني أقول بأن دور أبي خليل في تحريض النهضة الغنائية في مصر ، التي كان لها أسباب أخرى منها البيئة، إفتتاح قناة السويس ، التعطش إلى الجديد ، وانتقال المركز التجاري إليها من حلب ، التي كانت مركزاً تجارياً هاماً على طريق الحرير ، قبل قناة السويس ، هي المركز، و هنا سأعود لأقول إذاً بالنتيجة كان أبو خليل القباني أحد الروافد الأساسية لتلك النهضة ، وهنا أتذكر مقارنة بين مصر والشام في هذه النقطة .. أنه لماذا أحرق مسرح أبي خليل القباني في دمشق، طبعاً هناك مقولات كثيرة ، منها التنوبر ، و أنه منبر جديد مختلف عن المنابر التي كانت سائدة ، ولكن أريد أن أقول أن من وقفوا ضد أبي خليل لإيقاف مسرحه استخدموا المسرح ، وهذا أعظم إنجاز لأبي خليل عند خصومه. بمعنى أن الشيخ سعيد الغبرة الذي أوقف مسرح أبي خليل كما يقال، وأنه كان من أعدائه ، أوقفه في مشهد مسرحي ، إذ أنه و في صلاة الجمعة أمام السلطان العثماني في الآستانة ، وقف في نهاية الصلاة ، وانطلق في مقولة نقدية لاذعة ضد مسرح أبي خليل ، وضد ما يقدمه من شبان يمثلون دور الفتيات ، طبعاً بين قوسين هذا يذكرنا بتوظيف أبي خليل للماكياج .. إذ اضطر أبو خليل لاستخدامه لوجوه الشباب ليحولها إلى وجوه إناث ولكن هذه نقطة أخرى،.. أعود إلى عملية الشيخ الغبرة للقول بأنه كانت عملية مسرحية .. هو أوقف مجريات حدث صلاة الجمعة .. تحدث بلهجة خطابية .. وطالب السلطان بعمل ما، السلطان تجاوب أو لم يتجاوب هذا غير واضح فعلاً ، لكن العملية مسرحية ، ولولا أن الشيخ سعيد الغبرة تصور المسرح أو حضر المسرح لكي يعترض عليه ، لما بذرت هذه البذرة فيه ، ولعل هذا من أعظم إنجازات أبي خليل القباني ، أنه بغض النظر عن المضامين والغناء ، بذر بذرة الحركة المحضرة سلفاً ، بنصٍ محضرٍ سلفاً ، في إطار ومحيط محدد ، لإنجاز فكرة معينة ، وهذا هو المسرح!
أكتفي بهذا القدر .. وكان من الممكن أن أتابع في أفكار كثيرة حول أبي خليل ولكن الساعة المخصصة للمحاضرة قاربت على الإنتهاء ..
آمل أن أكون قد قدمت جديداً على ما ورد في الكتابين وشكراً.
مدير الجلسة : أظن أن الموضوع غني جداً .. على الرغم عن كل ما قيل في المهرجان عن أبي خليل القباني ، جاء الدكتور سعد الله بهذه اللغة النقدية التحليلية الدقيقة لتجربة أبي خليل القباني ليغني الأفكار بمحاور جديدة ذات أهمية كبيرة.. نترك المجال للسادة الكرام المختصين في المسرح ونتمنى تسجيل الأسماء لمن يرغب بالحديث : الدكتور رياض عصمت ، الزميل عبد الكريم عبد الرحيم ، الدكتور صباح قباني ، الأخت جيداء الجراح ..
إذاً الدكتور رياض عصمت تفضل .
يتبع في الصفحة التالية