الآن النقطة التالية التي أريد أن أتحدث عنها ، هي القواسم المشتركة في فكره ، بمعنى أن من يعمل في المسرح يصبح التعبير في ألحانه ضرورياً ، لأنه أحس بدور الموسيقى في التعبير. من يطلب من سلامة حجازي أن يعبر بصوته عن الرعد ، فمعنى ذلك أنه يدرك أن اللحن يجب أن يعبر عن الكلمة ، وهنا أيضاً مقارنة مع سيد درويش ، فالمراجع التي تجعله شكل بداية التعبير في الموسيقى العربية جافتها الحقيقة ، فالتاريخ يثبت أن أبا خليل القباني كان سباقاً ..
أريد الآن أن أعطي أيضاً أمثلة حقيقية ، هناك موشح ( أتاني زماني بما أرتضي) ، هذا الموشح يغنيه الفنان الأستاذ صباح فخري ، ومعروف أنه من ألحان محمد عثمان ، وأنا أقارن الآن أبا خليل القباني بمحمد عثمان.
طبعاً لو كنت عرفت أني سأتحدث في هذه المواضيع لكنت أتيت ببعض الشواهد الموسيقية، أتاني زماني بما أرتضيه لحنه محمد عثمان على الأسلوب البطيء في البداية الذي فيه الطرب ثم شيئاً فشيئاً يتم إضفاء السرعة والتصاعد ، وفي هذا الموشح يمكن للأستاذ صباح فخري أن يقضي ربع ساعة في التردداد والارتجال ضمن هذا الأسلوب التطريبي.
أبو خليل القباني له لحن آخر لهذا الموشح ، ولا أعرف إذا كان منشوراً في الكتاب . أتاني زماني بما أرتضي ، إذا سألتم عليه في دمشق جماعة مغني التصوف ، فإنهم يعرفون لحن أبو خليل لهذا الموشح .. وهو لحن جميل، ما يهمني أنه لحن سريع يختتمون به الوصلة في التصوف. فلماذا لحنه سريع الإيقاع ؟ لأنه أتاني زماني بما أرتضي ، لا حاجة للتمهيد كما عند محمد عثمان الذي يبدأ: أتاني زماني يما أرتضي ببطء.
التعبير عن معنى أتاني زماني بما أرتضي يستوجب أن يرقص اللحن فرحاً ، وبالتالي نجد أن التعبير عند أبي خليل جعل اللحن لا يمتد إلا لدقيقة واحدة .. لماذا ؟ لأن زماني أتاني بما أرتضي وانتهى!
هذا الأسلوب في التعبير ، لايعتمد التعبير اللحني بالجملة اللحنية عن كلمة محددة ، وهو هنا يقترب من الرحابنة ، الذين عبروا عن كلمة معينة في اللحن أحياناً ، ولكنهم أكدوا على التعبير عن مجمل رؤيتهم لمضمون النص في غالب الأحيان. أبو خليل في البدايات عمل في هذا الإتجاه ، واعتمد التعبير عن رؤية النص ، وليس عن كلمة محددة ، وهنا المقارنة كانت مع الرحابنة ، وتأتي في سياق المقارنات التي اعتمدتها من البداية.
لنأخذ أيضاً أغنية (يا مسعدك صبحية) .. في لقاء تلفزيوني مشترك على الهواء بين دمشق وابو ظبي والقاهرة ، وكان الراحل سيد مكاوي في أبو ظبي مستضافاً ، والأستاذ عمار شريعي في القاهرة ، وكنت من دمشق ، وكان اللقاء على الهواء عن الفن وأمور الفن .. قال عمار الشريعي أنه يجب أن نذكر لمحمد عبد الوهاب ، أنه جمَّل مقام الصبا ، وأستعير كلماته هنا : وضع له روج ( حمرة الشفاه ) .. تعرفون طريقة الإخوة المصرين حيث يتم الشرح من خلال الأمثلة ، وهو شرح جميل ، أنه جمَّل مقام الصبا ، وأن هذا ما يجب أن يذكره التاريخ له ، وكان ذلك في أغنية ( أمل حياتي) .. فعندها تحدثت قلت له يا أستاذ عمار ، إذا كنا سنتحدث في التوثيق ، فأولاً فريد الأطرش ، في الأربعينات ، قدم أغنية الدولاب ، وهي أغنية كوميدية على مقام الصبا ، وذات طبيعة كوميدية ، وقبل أمل حياتي ، لأنه كان قال بأن عبد الوهاب ، جمَّل مقام الصبا الحزين بأن جعله فرحاً ، فقلت له على الأقل ، فريد قبل عشرين عاماً في أغنية الدولاب (ياما جوا الدولاب مظاليم) قدم مقام الصبا ليس في صيغة فرحة وإنما ذهب أكثر فقدمه في صيغة كوميدية .. لأن الموقف كان كوميدياً .. هو جالس في الخزانة ، وأتى عبد السلام نابلسي ، وأشهر عليه المسدس ، وقال له غنِّ لكي يكشفه أمام أهل البيت…إلى آخره.. فإذاً الموقف كوميدي ، وهو مهدد بالسلاح فاختار مقام الصبا الحزين في جملة فنية حيوية ، وهذا أقصى التعبير ، أن توظف المقام الموسيقي لتعبر عن فكرة وليس الجملة اللحنية ..
ولكنني تابعت فقلت وعلى الهواء : إذا أردنا أن نوثق فلنعد إلى القرن التاسع عشر، أبو خليل القباني في (يا مسعدك صبحية)أستخدم مقام الصبا في أسلوب فرح ، لماذا فرح ؟ لأنه يا مسعدك صبحية، الصبحية .. الصباح ، بزوغ الشمس ، التي تعطي شعوراً بالفرح ، والنص يتحدث عن السعادة ، فلماذا إذا مقام الصبا ؟ ، لأن أبا خليل كان في حنين دائم ،هذا الحنين كان عموماً إلى الشام وهذا ظاهر في أغانيه : (يا مال الشام) ، (يا طير طيري يا حمامة وديني الدمر والهامة) .. لا شك أنه في ذلك الصباح تذكر الشام وصباحات الشام ، وتذكر أهله ، وتمنى أن تكتمل سعادته بلقاء أهله ، والنص إذا تابعناه فيه شيءٌ عن الحنين ، فدمج السعادة بالحنين ، وعبر عن ذلك بتوظيف مقام حزين الطابع مع جملة لحنية موقعة وفرحة ، وهذا أقصى التعبير ..
طبعاً أنا في هذا لم أبحث عن التعبير في الجملة اللحنية و هذا أبسط، هنا التعبير في العناصر المركبة التي تتغلل في المستمع دون أن يدرك لماذا اللحن فرح أو حزين .. وأعتقد أن هذا الشكل من التعبير عنده أتى من المسرح ، يعني فكرة الحنين وكتابة النص العابق بالحنين فكرة مسرحية، طبعاً هناك موشحات فيها حنين مثل موشح أحن شوقاً ، فيما هنا الحنين أتى في أغنية شعبية ..
نعم ، أرى أن هذا تأتّى من تأثير المسرح في فكر أبي خليل ، أي أنه في نصه تعبير عن العواطف ، وفي لحنه تعبير عن عواطف مركبة : فرح و حنين ..
أيضاً الموسيقى ، عندما وظفها في الموسيقى التصويرية ولو بالصوت البشري للتعبير عن الرعد مثلاً كما أسلفت ، فيها تعبير عن المعاني أيضاً .. إذاً هو فعلاً قدم هذه التبادلية بين المسرح وعالم الغناء .
كنت في هذا السياق ألقيت محاضرة في القاهرة حول القواسم المشتركة في فكر سيد درويش بين المسرح والموسيقى. حينها ، كنت أظن أن سيد درويش أول من عمل في هذا الإتجاه ، ثم لاحقاً اكتشفت أن أبا خليل القباني كان سباقاً في هذا الموضوع ، وكان في فكره هذه الثنائية في الإتجاه بين المسرح والموسيقى ، وإن كانت تعوزنا الشواهد المسجلة، لأن ألحانه المسرحية لم تسجل للأسف ، وأنا في هذا الإطار أدعو مهرجان الأغنية السورية ، إلى الاتصال بالأستاذ رفيق السبيعي، لأن الأستاذ رفيق سبيعي عمل في المسرح الغنائي في مصر ، وأعتقد أنه بقي في ذاكرته لعله بعض الألحان لأبي خليل ، ولكنه أعتقد يذكر مقاطع كاملة على الأقل لكميل شمير ، وأنا أدعو المهرجان إلى المسارعة بتسجيل كل ما يتذكره ، إن كان لأبي خليل وإن كان لكميل شمير ، لأن هذه وثائق قد لا تعوض في المستقبل . كما أقول أنني رصدت في بعض المواقع في نصوص مسرحيات أبي خليل مشاهد ، يمكن أن تكون مبنية على ألحان من موشحات له نعرفها ، بمعنى أننا من المحتمل أن نستطيع إعادة تجسيد مشاهد من مسرح أبي خليل .. طبعاً مسرحية سهرة مع أبي خليل القباني للراحل الكبير سعد الله ونوس ، أعتقد أن الألحان كانت فيها للأستاذ عدنان أبو الشامات ولم تكن لأبي خليل ، بينما أنا رصدت بعض المشاهد التي يمكن أن يعاد تجسيدها ، لأنها في أغلب في بعض مقاطعها مبنية على ألحان معروفة لدينا .
يتبع في الصفحة التالية