في ذكرى رحيل منصور رحباني التي تحل هذه الأيام ، أتوقف عند عمل هام جداً ، من كلمات و ألحان منصور رحباني ، وأداء فيروز وميشيل بريدي والكورال : راجعون ، في تسجيل يعود لعام 1957 لأطرح أسئلة تحتاج إلى إجابات!
في عام 1955 ، قامت إذاعة صوت العرب ، بدعوة الأخوين رحباني والسيدة فيروز لزيارة القاهرة ، وتسجيل عدة أعمال غنائية ، كان من أهمها مغناة “راجعون” ، التي شارك في أدائها الأستاذ كارم محمود ، وهي من النوادر التي تم توثيقها في نظام معلومات الموسيقى العربية على أنها من ألحان الأستاذ منصور رحباني دون أخيه عاصي ( سأعرض لتفسير ذلك لاحقاً ) ، ولو أنها عموماً مطروحة تحت اسم الأخوين.
بعد العودة إلى لبنان ، وفي عام 1957 ، أعيد تسجيل مغناة راجعون ، دون مشاركة من كارم محمود هذه المرة ، إذ حل مكانه ميشيل بريدي مع اختلافات في النص والأدوار . لاحقاً اعتمدت إذاعة فلسطين من القاهرة مغناة راجعون لتكون الشارة المميزة للمحطة.
تطرح هذه المغناة أسئلة كثيرة ، أجيب عنها في نظرة تحليلية أنشرها اليوم ، سواء أكان ذلك حول النص الذي خاطب القضية الفلسطينية بلغة جديدة ، ركزت على استنهاض الهمم ، أو حول بناء المقدمة الموسيقية ، وأسلوب ارتباط عناصرها اللحنية بألحان القسم المغنّى ، أو حول الرموز التي عبرت عنها الآلات الموسيقية في تلك المقدمة ، أو فيروز أو الكورال في القسم المغنّى ، ناهيك عن التغيرات المقامية ومعانيها ، أو مواقع التعبير في اللحن والأداء عن المعنى ، وكذلك تحديد مواقع التأثر والتأثير المتبادلة بينها وأعمال أخرى ، سبقتها أو تزامنت معها أو لحقتها ، في مصر تحديداً!
ولكن .. قبل الدخول في تحليل هذه المغناة ، لابد من طرح سؤالين:
السؤال الأول : هذه مغناة بناها منصور رحباني نصاً وشعراً ، وأدتها السيدة فيروز ، إلى جانب أغانٍ أخرى لمنصور لحناً و لفيروز أداءً ، مثل : شال ، دقيت طل الورد ع الشباك .. وبالنظر إلى جمال أعمالهما المشتركة ، و إلى مسيرة كل منهما بعد رحيل عاصي ، ألا يبدو السؤال التالي مشروعاً :
ماذا لو كانا شكلاً ثنائياً بعد رحيل عاصي ، يتجاوز الخلافات والاعتبارات ؟ أما كان منصور تجاوز افتقاده لصوت كصوت فيروز ، وأما كانت فيروز تجاوزت افتقادها لملحن كمنصور؟ أما كان منصور قادراً على صياغات إبداعية لو كان تعاون لاحقاً مع فيروز ، وأما كانت فيروز قادرة على إمداده بطاقة إبداعية عالية كما فعلت في راجعون؟
السؤال الثاني : كيف حكمتُ بأن هذه المغناة من أعمال منصور رحباني؟
جاء ذلك استناداً إلى غلاف الأسطوانة التي حملت المعلومات اللازمة وفق قاعدة بيانات الأسطوانات الدولية:
لنأت الآن إلى نظرة تحليلية لهذه المغناة في سياقاتها التاريخية و الفنية و الموضوعية ، أجيب فيها عن الأسئلة المطروحة أعلاه:
أولاً : السياق التاريخي:
جاءت المغناة في سياق مجموعة من الأغاني سجلها الرحابنة وفيروز في القاهرة ، التي قدموها لأول مرة ، بدعوة من إذاعة صوت العرب في عام 1955 ، في مواجهة لتحدٍ واضح : التأسيس لمكانتهم في القاهرة!
إذاعة صوت العرب ، خلال الزيارة التي دامت حوالي ستة أشهر ، دعتهم لتقديم أعمال وطنية لفلسطين ، وهكذا جاءت مغناة راجعون ، التي اعتمد الرحابنة فيها على ثلاثة عناصر: الأوركسترالية ، تعدد الأبطال ، مع دور أساسي للكورال.
* الأوركسترالية:
كانت بعض الأناشيد الوطنية والقومية المصرية التي سبقت العمل ، تعتمد الأوركسترالية ، كنشيد ياشباب النيل عام 1936 لأم كلثوم ، و نشيد أسرة محمد علي عام 1944 لأسمهان ، و نشيد كنت في صمتك مرغم لعبد الوهاب عام 1952 ، مع توظيف متواضع للكورال ، إذ كان الكتّاب يركزون على ما يؤديه المطرب ، وليس على توظيفات درامية للكورال.
كما اعتمدت الأوركسترالية في أغانٍ عاطفية عند فريد الأطرش ومنها حبيب العمر 1946 ، و لحن الخلود 1952.
* تعدد الأبطال
كان تعدد الأبطال موجوداً مثلاً في ياطيور ، بين الفرقة الموسيقية وأسمهان وحركة الطيور ، ولكن بدون كورال ، أما حوارية قيس وليلى ، ذات الطابع الأوركسترالي فقد جاءت بتعدد للأبطال أيضاً وهم قيس وليلى ووالدها.
* دور الكورال
تضمن المسرح الغنائي عند سيد درويش حواريات أخذ فيهاالكورال دوراً أساسياً، وخاصة في نشيد دقت طبول الحرب ، إلى جانب زعبلة و معارضيه.. ولكنها كانت مقاطع عابرة.
بالنتيجة : كانت القاهرة تفتقد أن يكون الكورال بطلاً من أبطال العمل على طوله ، بحيث يتجاوز دوره وظيفة ترداد بعض الجمل التي تضيف معان عابرة .. وهنا أتت إضافة الرحابنة ومنصور أساساً في مغناة راجعون.
إذاً:
- تمت الاستفادة في من الأوركسترالية ، مع تطوير هام في بناء المقدمة الموسيقية ، لتكون مبنية وفق الأسلوب الأوركسترالي الحقيقي ، عبر بناء خاص استخدم ألحاناً وردت لاحقاً في جسم المقاطع المغناة .
- لم تكن الموسيقى ضمن الغناء ذات دور واضح ، فالتركيز كان على الحوار ، حيث أعطيت البطولة للكورال الممثل للشعب ، إذ أنه يبدأ الغناء وينهيه ( كما ورد في تسجيل بيروت الذي نعرض له ، والذي تم في عام 1957 ، على عكس تسجيل القاهرة ، الذي أخطأ فيه الرحابنة ، إذ تم إنهاء الأغنية مع فيروز ، مع أن دورها في الواقع ، هو دور الضمير ، وليس دور متخذ القرار) . المغناة حواراً كانت بين الشعب وضميره الحي ، الذي يوجهه ليتخذ هو القرار النهائي ).
- أتت إمكانية ابتداع هذا الشكل الإذاعي الجديد ، كنتيجة طبيعية ، لكون الرحابنة شعراء وملحنين ومؤلفين موسيقيين في الوقت ذاته.
- اتبع الرحابنة تغيرات مقامية بين الكرد والعجم والحجاز كار والنهوند ، كما استخدموا انتقالات السلم الخماسي . طبعاً تتم الانتقالات غالباً بالأسلوب العربي ، إلا أنها أحياناً تكون عبر هجوم بجملة موسيقية جاذبة ، على مقام جديد ، لا علاقة له بالمقام السابق ، وهذا أسلوب أوركسترالي بحت .
- كلمة وقوفاً اتت في الجملة اللحنية الأكثر حدة ، بينما كلمة راجعون أتت في لحن أخفض ، لأنها تعكس التصميم ، أما وقوفاً فهي أمر بالوقوف ، أو دعوة صارمة له ، لا تترك للاستسلام لما حصل مكاناً.
- أدت فيروز دورها في الأغنية في 12 صوتاً سليماً ، مع احتمال وصولها إلى 14 صوتاً ، إن كانت أدت كلمة وقوفاً في الموقع الأحد مع الكورال ، وهذا غير واضح تماماً في التسجيل.
- بناء المغناة جاء في تناوب بين الحماس والحنين والتساؤل ، وصولاً إلى القرار النهائي.
- ظروف الإنتاج : إذاعة صوت العرب وتوجهاتها للانفتاح على العالم العربي و التركيز على نكبة فلسطين.
- التاريخ : جاء التسجيل الأصلي بعد 7 سنوات من النكبة.
- الأبطال : الأوركسترا – اللاجئون : الكورال –مع عناصره من نساء ورجال الممثلين للشعب– فيروز : الضمير الحي التي تختفي في القرار الأخير الذي يتخذه الشعب في العودة ، على عكس نسخة القاهرة ، حيث هي تنهي الأغنية ، والأقوى أن ينهيها الشعب كما أتت في التسجيل الثاني الذي نعرض له..
- التأثر الموسيقي : تأثر الرحابنة بنشيد يا شباب النيل ، إذ بني على أوركسترالية واضحة ، والكورال يجيب ، وبنشيد الأسرة العلوية 1944 الذي بني أيضاً على أوركسترالية ، وفيه استخدام للكورال يستجيب لأسمهان عندما تناديهم ليحيوا محمد علي ، وبنشيد الجهاد إذ يكرر الكورال فيه مقولات عبد الوهاب .
- عموماً هناك مقامات شرقية موظفة في اللحن ، والقالب مطلق ، أي لا تكرار واضحاً للجمل اللحنية على طول مسار اللحن.
- أغان أخرى سابقة في الموضوع : أغنية فلسطين لعبد الوهاب.
التأثير : تأثر عبد الوهاب في أغنية عربية بمغناة راجعون ، في أسلوب الاستخدام الأوركسترالي ، و دور الكورال والحيوية..
مضمون المغناة:
ركزتالمغناة على الحنين إلى الأرض وصعوبة العيش خارجها أولاً لتصل إلى تحريض الإرادة و التصميم على العودة مهما طال الزمن ، في تضاد مع مضامين الأغاني التي كانت شائعة عن فلسطين ، و التي شاع فيها التحسر على الأرض التي ضاعت.
الامتدادات الفلسطينية عند الرحابنة :
-
- محور الحنين – رومنسي: في هذا المحور تندرج أغنيات: ‘يا ربوع بلادي’و’يافا’ و’بيسان’ التي صدرت ضمن ألبوم القدس في البال.
- محور واقع اللجوء والمقارنة – تراجيدي: ‘غاب نهار آخر’ و’احترف الحزن والانتظار’.
- محور القدس: زهرة المدائن – القدس العتيقة.
- محور رفض الواقع والتصميم على العودة – إرادة وتصميم : ‘سنرجع يوما’ و’أجراس العودة’ (سيف فليشهر) و’جسر العودة’.
الألفاظ الجديدة في المغناة: الدروب السمر
دور الرجل في المغناة: محدود وهذا بحاجة إلى تفسير فهل كان بسبب عدم توفر الصوت المقابل لفيروز أم إدانة لما حصل في فلسطين؟
المقدمة الموسيقية :
تعبر المقدمة بداية عن خواطر يحرضها النسيم القادم من الجنوب ، تجد لها صدى في ضمير النازحين في مسيرهم ، وهم يخرجون من ديارهم. استغرقت المقدمة 20% من المغناة ، وهي نسبة عالية في مقاييس تلك الفترة .
جاءت المقدمة في ثلاثة مشاهد :
- الأول : مرسل يذكر بالرابسودي ( قصيدة ملحمية ) الهنغارية مع توتر داخلي في خلاياه ، كأنما النسيم يطرق أفكار النازحين من ديارهم ، لتدخل آلة الترومبيت في تصاعد لحني ، كأنما النسيم يستوقفهم ، وفيه نداء .. هل تسمعون ؟.. يتكرر التصاعد على طبقة أعلى ، ثم دخول في لحن : يا بلادي مباشرة ، المعبر عن مشاعر الحنين .
- الثاني : موقَّع حيوي ، يعبر عن تذكر الحياة السابقة بحيويتها ، كما يعبر عن استثارة النهوض ..
- والثالث : مرسل ، فيه تمهيد لبداية الغناء ، الذي يسيطر عليه الحنين ، مع جملة موسيقية للترومبيت، تشبه جملة الغناء الأولى وتمهد لها .
من جهة أخرى : هناك في المقدمة الموسيقية دائماً جمل لحنية نجدها لاحقاً في مقاطع الغناء ، متفاعلة ، متداخلة في النسيج الغنائي ، مع تكرارها على طبقة موسيقية مختلفة..
اللحن:
جاء اللحن في 18 مشهداً وفيها:
- ينفذ الهجوم اللحني دائماً من المجموعة ، إلا في وقوفاً فتؤديه فيروز.
- يتصاعد اللحن في النداءات دائماً ، مثلاً عند : يا غريب الدار ، يا منشدين ، يا ساهرين ، بلادي ..
- هناك تعبير لحني واضح عند وقوفاً .
- التعبير اللحني عن التساؤلات والرفض واضح في تصاعده وتخافضه : هل ننام ؟ لن ننام.. وعن فعل الأمر : هبوا..
النص:
شباب : أنت من ديارنا من شذاها يا نسيم الليل تخطر
بنات : حاملاً عبير أرض رواها في حنين القلب يزهر
شباب : أنت من حقولنا يا رسول من ربوع الخير عندنا
بنات : كيف حال بيتنا هل تبور أم هجرت أنت مثلنا
صوت رجل : ميشيل بريدي : يا غريب الديار نسيم الجنوب
ضل فيك المزار غداة الهبوب
كأنما يقول: “لماذا أتيت إلى هنا فأنت نسيم لتلك البلاد؟؟”
شباب : أنت من بلادنا يا نسيم يا عبيراً يقطع المدى
مجموعة : حاملاً هموم أرض يهيم أهلها في الأرض شردا
فيروز : يا منشدين للغروب يا هائمين في الدروب
غنائكم هاج دموعي أدمى حنيني و ولوعي
يا منشدين للغروب
” كأنما هنا صوت النسيم “
مجموعة : نحن من الأرض الخضيبة
نحن من الدار السليبة
بنات : يا هل ترى بعد ليالي نجيئها تلك الحبيبة
فيروز : في البال تحيا دروبها السمر سطوحها الحمر في البال زهر التلال
في البال دنيا ترابها الشمس الحب و القدس في البال رغم المحال
و ليلة لا جمال فارقها الجمال العدل زال و أسود لون الظلال
بنات : و لم تزل في البال شوق البال دار التلال
مجموعة : نحن من الأرض الخضيبة
نحن من الدار السليبة
بنات : يا هل ترى بعد ليالي نجيئها تلك الحبيبة
فيروز : من هناك أنتم سمعت رياح بلادي و بوح الشوادي في غنائكم
من هناك أنتم لمحت ظلال سمائي و لون هنائي في جباهكم
بلادي يمر عليها مع الفجر لحني الوجيع
بلادي أعدني إليها و لو زهرة يا ربيع
و هناك يلثم شراعي جباه الروابي و فوق التراب أنام و أحلم
مجموعة : طاف الصمت على الطرقات و صار ظلام
حل الليل على الفلوات فأين ننام
شباب : لا مأوى لا مثوى هل نركض في الساحات
بنات : لا بيت لا صوت وسدى تمضي الساعات
ذقنا الهول و ذقنا الليل بدون طعام
إن البرد كسانا اشتد فأين ننام
إن البرد كسانا اشتد فأين ننام
فيروز : هل ننام و شراع الخير حطام
هل ننام و دروب الحق ظلام
و بيتنا الحبيب يسكنه غريب
و نحن لاجئون في الخيام
هل ننام؟
مجموعة : لن ننام
فيروز : و الكون أساً و ظلام
مجموعة : لن ننام
فيروز : سيعم الأرض سلام
بنات : سلام سلام
فيروز : هيا إلى الصفوف مع الدجى نطوف
على الخيام نوقظ النيام
مجموعة : في الليلات من الهدئات يثور نشيد
في الإعصار و في الأمطار صداه يعيد
لن ننام
فيروز : و شراع الخير حطام
مجموعة : لن ننام
فيروز : و دروب الحق ظلام
فيروز :
وقوفاً
وقوفاً أيها المشردون
وقوفاً يا ترى هل تسمعون
يا نائمين تحت كل شرفة
يا ساهرين عند كل عطفة
هبوا من الخيام هبوا من الظلام
لنبني حصون السلام
وقوفاً أيها المشردون
وقوفاً يا ترى هل تسمعون
مجموعة : يا نائمين تحت كل شرفة
يا ساهرين عند كل عطفة
مجموعة : يا نائمين تحت كل شرفة
يا ساهرين عند كل عطفة
وقوفاً
فيروز : ديارنا من يفتديها من غيرنا يموت فيها
فداً لحماها و ورد رباها فدى كل حبة من ثراها
مجموعة : بلادي زماناً طويلا أذلك الغاصبون
بلادي أطلي قليلا فإننا راجعون
فيروز : يا بلادي زماناً طويلا أذلك الغاصبون
يا بلادي أطلي قليلا فإننا راجعون
مجموعة شباب: في هدأة السكون في رغبة الحصون
أصحابنا على الطريق الرحب يهتفون
بنات: في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون
في الشموس في الرياح في الحقول في البطاح راجعون
تناوب بنات وشباب : بالإيمان راجعون للأوطان راجعون
في الرمال و الظلال في الشعاب و التلال راجعون
راجعون
د. سعد الله آغا القلعة