دراسة للدكتور سعد الله آغا القلعة نشرت ضمن مجلد وطن اسمه فيروز الذي نشرته مؤسسة الفكر العربي – بيروت
تقديم هذه النسخة من الدراسة
سبق أن نشرتُ في موسوعة كتاب الأغاني الثاني، دراستي حول تموج الألحان للتعبير عن المعاني في أعمال فيروز والأخوين رحباني، كما نُشرت في سياق الكتاب المطبوع الذي نشرته مؤسسة الفكر العربي تحت عنوان : وطنٌ اسمه فيروز.
ولما كان النشر على الورق يحرم الدراسات من ما يلزم من إيضاحات، توفرها الوسائط السمعية البصرية ، وخاصة الدراسات التحليلية الموسيقية، فقد رأيت إعادة نشر الدراسة لأهميتها، كأنموذج متكامل لنظريتي : تموج الألحان بقصد التعبير عن المعاني، بعد إضافة تلك الوسائط في مواقعها في النص، ما يسمح بإيصال الأفكار إلى المتلقي بشكل أكثر وضوحاً.
تقديم الدراسة
رغبت إليَّ إدارة مؤسسة الفكر العربي ، أن أكتب ، إلى جانب ثلة من كبار الكتّاب والنقاد ، نصاً يُنشر بين دفتي كتاب ، تخصصه المؤسسة لتكريم مسيرة السيدة فيروز الفنية الثرية ، رفقة المبدعَين عاصي ومنصور.
رحبتُ بالفكرة ، رغم أنني أعلم أنه ليس من السهل تقديم جديد في هذا المجال ، وقد سال حبر كثير ، حول أعمال هذا الثلاثي الفريد.
بعد تفكير ، رأيت أن أقدم قراءة تحليلية لمختارات من أغاني فيروز ، عبر نظريتي التي أعمل عليها منذ أكثر من 35 عاماً : تموج الألحان للتعبير عن المعاني في الأغاني، منطلقاً من علمي بأن لغة ومفردات الأخوين رحباني ، حققت نقلة نوعية على مستوى تشابك وتنوع المعاني ، وخاصة في مسرحهم الغنائي ، إذ أفسحت في المجال لعواطف معقدة ، ولمواقف متناقضة ومتشابكة ، لتجد مكانها في نسيج نصوصهما ، و أن هذا تطلب تطوراً مقابلاً في أساليب التلحين ، وفي الأداء أيضاً ، اعتماداً على قدرة فيروز الاستنائية ، في تمثل تلك المعاني والألحان ، وإيصالها للناس في أعمق صورة.
اخترت من أجل ذلك الأعمال الغنائية التالية:
- مشهد لقاء ريما مع راجح في مسرحية بياعة الخواتم / ويتضمن حواراً بين شخصيتين.
- أغنية دقيت طل الورد ع الشباك / وتتضمن حواراً بين الحبيب والورد يؤديه صوت واحد.
- مشهد وينن في ناطورة المفاتيح / ويتضمن بوحاً جماعياً وفردياً.
كما أشركتُ أمثلة من أغانٍ أخرى ( في قهوة ع المفرق – ليالي الشمال الحزينة – رجعت الشتوية – حبيتك بالصيف ) لمزيد من الإيضاح.
قمتُ ، بعد دراسة مستفيضة للمعاني الواردة في نصوص تلك الأعمال الغنائية المختارة، بتحديد 28 معنى مختلفاً فيها ، وبتصنيف الجمل اللحنية الواردة في تلك الأعمال ، وفق تموجاتها المقابلة لتلك المعاني ، بغية إبراز مدى ارتباط تموج الجملة اللحنية ، أو الانتقال المقامي فيها ، بالمعنى الذي تعبر عنه.
كما توقفتُ عند تموجات صوت فيروز المضمخ بالتعبير ، وأساليب إطلاقها للصوت ، متدرجاً من الحسم إلى الانهيار، مروراً بطيف واسع بينهما ، وبتلاحق متعاكس أحياناً ، حسب ما تقتضيه تغيرات المعاني ، ما كان يتطلب منها تحكماً فائقاً قل نظيره ، غلَّف تلك الجمل اللحنية المعبرة ، وأسهم في أن تجد المعاني الدرامية المعقدة المرتبطة بها ، طريقها الآني إلى الوجدان.
لقد أمِلتُ أن تتمكن هذه الدراسة ، من الإسهام في تفسير فرادة نتاج هذا الثلاثي ، فيروز و الأخوين رحباني ، وأسباب استقراره في عقول وأفئدة الناس!
مقدمة:
شهدت المسرحيات الغنائية الأولى في العالم العربي محاولات خجولة للتعبير عن المعاني الواردة في نصوص أغانيها ، من خلال محاولة اختيار المقام الموسيقي والإيقاع الملائمين ، أو الاهتمام بلهجة الأداء ، ولكن تطور تلك النصوص ، وخاصة مع بيرم التونسي ، في أعماله مع سيد درويش ، بدأت تتطلب صياغة لحنية خاصة.
أدرك سيد درويش ضرورة أن تعبر ألحانه عن نصوص الأغاني في مسرحياته ، فراح يطلب من أحد الممثلين القديرين ، أن يقرأ له نص الأغنية ، مع التموجات الصوتية اللازمة في الأداء للتعبير عن المعنى ، من تصاعد أو تخافض أو امتداد أو تخافت أو حزم أو ليونة، ثم يضع اللحن.
حملت السينما ، التي أنهت المسرح الغنائي ، نصوصاً ذات أبعاد درامية أوضح ، نظراً لإدماجها في نسيج أحداث الفيلم ، حيث برزت ضرورة أن يعبر اللحن والأداء الغنائي والموسيقي عن المعاني ، وهو ما تجسده عشرات الأفلام السينمائية الغنائية ، التي لحن الكبار أغانيها ، بين ثلاثينيات القرن الماضي إلى ستينياته ، ومع ذلك فقد بقيت النصوص تدور في فلك معان محددة ، دون أن يحمل نص الأغنية الواحدة مواقف متناقضة متزامنة، تولِّد أبعاداً درامية، إلا فيما ندر.
الأخوان رحباني
حققت لغة ومفردات الأخوين رحباني نقلة نوعية على مستوى تشابك المعاني في الأغاني وتنوعها ، وخاصة في مسرحهم الغنائي ، إذ أفسحت في المجال لعواطف معقدة ، ولمواقف متناقضة ومتشابكة ، لتجد مكانها في نسيج نصوصهما ، ما تطلب تطوراً مقابلاً في أسلوب التعبير عن تلك الصورة الجديدة للمعاني ، موسيقياً و تلحينياً.
لم يكن الأخوان رحباني بحاجة إلى ممثل ، لكي يدلهما على مواطن التعبير في الأداء عن المعاني ، إذ عُرفا ، كشاعرين ، وهي حالة استثنائية في جمع النظم والتلحين ، بحسن إلقائهما للشعر ، وبالتالي قدرتهما على تمثل التموجات اللحنية اللازمة للتعبير.
أقدم هنا ، وفي هذا السياق ، قراءتي ، وفق ما يسمح به المجال ، لأساليب التعبير اللحني عن المعاني ، التي اتبعها الأخوان رحباني ، عبر تموجات اللحن ، وهي نموذج عن قراءة شاملة لأساليب التعبير اللحني عن المعاني عند الأخوين رحباني ، وعند كبار الموسيقى العربية الآخرين ، أعمل عليها منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، على طريق تطوير نظرية متكاملة تؤطر ذلك ، لتكون بمتناول الملحنين الباحثين عن صقل معارفهم في ميدان التلحين.
اخترت من أجل هذه القراءة التحليلية ثلاثة أعمال غنائية وهي:
- مشهد راجح في بياعة الخواتم / ويتضمن حواراً بين شخصيتين.
- أغنية دقيت طل الورد ع الشباك / وتتضمن حواراً بين الحبيب والورد يؤديه صوت واحد.
- مشهد وينن في ناطورة المفاتيح / ويتضمن بوحاً جماعياً وفردياً
كما أعطيت أمثلة من أغانٍ أخرى ( في قهوة ع المفرق – ليالي الشمال الحزينة – رجعت الشتوية – حبيتك بالصيف ) لمزيد من الإيضاح.
أبدأ أولا بقائمة ، تعطي لكل معنى من المعاني الواردة في تلك الأغاني ، شكل الموجة اللحنية المقابلة ، و تبين كيف تكرر هذا الشكل في مجموعة الأغاني المختارة ، وهذا مهم ، ولكنه ليس كل شيء ، لأن المعنى الواحد لا يولِّد أي بعد درامي واضح ، فيما تتولد الأبعاد الدرامية ، وهو ما توضحه جداول تحليل الأغاني المختارة ، التي ترد تالياً ، من خلال تضاد المعاني المتلاحق ، المتزامن مع تلاحق الموجات اللحنية المقابلة ، و مع تموج صوت فيروز المضمخ بالتعبير ، الذي يبرز تلك الأبعاد الدرامية ، ما يكشف أخيراً ، فرادة نتاج هذا الثلاثي ، فيروز و الأخوين رحباني ، وأسباب استقراره في عقول وأفئدة الناس!
تبين القائمة التالية 28 معنى مختلفاً ورد في الأغاني المختارة، و 27 شكلاً لتموج الجمل اللحنية المقابلة لتلك المعاني:
- الإحساس بالوحدة : يعبر عنه بصدى الصوت المتلاشي ، ونجده في صدى صوت ريما في مشهد راجح ، وهي تهرع لإعلام خالها بقدوم راجح ، وفي صدى صوت زاد الخير وهي تصيح وينن في تعبير عن افتقادها للناس وإحساسها بالوحدة ، و كذلك تعيد نقرات البيانو في وينن زاد الخير إلى أرض الواقع، وتذكرها ، من خلال صداها المنتشر باختفاء الناس وإحساسها بالوحدة، كما نجده في تخفيض الطبقة الموسيقية قبل بدء زاد الخير بطرح صيحتها: وينن ، في إيحاء بأنها أصبحت وحيدة.
- الاستنكار : يعبر عنه بتصاعد لحني ، نجده في راجح ، في الأسئلة التي تطرحها ريما على راجح وقد فاجأها أن اسمه راجح و نجده في تصاعد اللحن في أغنية في قهوة ع المفرق عند كلمة جيت لقيت ، ويتصاعد أكثر عند كلمة عشاق اتنين زغار ( هناك إلماح إلى شيء من الغيرة في تصاعد اللحن رغم أن أداء فيروز فيه تعاطف مع العشاق الصغار ) وصولاً إلى ذروة لحنية استنكارية عند : قعدوا على ، وفي حبيتك بالصيف : تصاعد استنكاري عند وتنطر ع الطريق ، لأنه لن يعود!
- الاستنكار الشديد: صيحة نجدها عندما تطلق زاد الخير صيحتها الاستنكارية : وينن ، وفي قهوة ع المفرق في صيحة مع قفزة لحنية تعبيراً عن الاستنكار عند يا ورق الأصفر عم نكبر مع التكرار للتأكيد على المعنى ، و كذلك في صيحة رجعت الشتوية عند البداية أيضاً.
- الإعجاب بالنفس: نجده في حيوية اللحن مع بداية ظهور المختار المعجب بنفسه الذي يعد نفسه لكذبة جديدة عن راجح
- الانتقال من جو درامي إلى جو مختلف:
- التعبير بتغير الإيقاع أو بالانتقال من الغناء المرسل إلى الموقَّع، ونجده في راجح عندما يبدأ الإيقاع عند تغير الأجواء من الأجواء الدرامية إلى الأجواء الفولكلورية التي فيها المختار ، و تغيره عند إعجاب ريما الخفي براجح ، وفي دقيت طل الورد ع الشباك في بدئه عند تغير الأجواء من المشهد الدرامي الأول إلى الذكريات الجميلة.
- التعبير بتغير المقام الموسيقي : ونجده في الانتقال من مقام النهاوند إلى مقام الحجاز كار عندما تنطلق ريما لإعلام خالها المختار بقدوم راجح ، ثم في سيطرة أجواء الضيعة اللحنية مع ظهور المختار بعد أجواء اضطراب ريما الدرامية ، مع الدخول في مقام العجم الذي يعكس ثقة المختار بنفسه ، ثم العودة إلى الحجاز كار عند تأكيدها قدوم راجح في تعبير آني عن تذكر حيرتها في ذلك الوقت ، وفي متابعة خالها على المقام ذاته في تأكيد على بدء استيعابه للأمر ، ثم في انتقال الخال إلى مقام البيات إذ يظن لوهلة أنه يحلم ، ثم في متابعة ريما على المقام ذاته ( الحلم ) وهي تتحدث عن راجح إذ يشي النص بإعجابها الخفي براجح ، ثم في الانتقال إلى مقام الهزام الذي تقع درجة استقراره على درجة صوتية تعتمد أرباع الأصوات ( مي نصف بيمول ) و هي ليست من الأصوات الأساسية ، بما يضعف وضوحها ، وهذا يعبر عن عدم وضوح الحل وتأجيل معالجة الموضوع . كما نجده في دقيت طل الورد في التحول من مقام النهاوند إلى البيات العاطفي عند تذكر الذكريات الجميلة ، وفي وينن عند الانتقال من لحن النساء الذي جاء في انتقالات صوتية دون وضوح المقام إلى لحن الرجال على مقام الكرد الواضح الذي يعكس التماسك ، فالدخول في مقام الحجاز كار للمشهد الدرامي لزاد الخير الحافل بالاستنكار والألم المكبوت .
- التعبير موسيقياً: تخفيض الطبقة الموسيقية نجده في وينن للانتقال من مشهد الأهالي إلى مشهد زاد الخير و لإبراز هبوط معنوياتها وقد أضحت وحيدة .
- التأكيد على معنى محدد: من خلال تأكيد إيقاع اللفظ في الأداء الصوتي ونجده في راجح عند : راجح ناطر وما تلا ذلك للتأكيد على ضرورة عقد اللقاء ، وعند المختار في تأكيد إيقاع اللفظ عند : مْنِزْرَع كِذبِة بْتِكْبَر هالْكِذبة وْبِتْصير الكِلْمِة زَلْمِة ، لتأكيد معنى الحيرة والارتباك ، وفي وينن لتأكيد معنى السؤال ، كما نجده في تكرار وين صواتن وين وجوهن وَينن ، وفي تكرار عم نكبر عم نكبر في ليالي الشمال الحزينة.
- التحسر: يعبر عنه بتخافض لحني عند وحدنا رح نبكي ، في دقيت طل الورد ع الشباك ، و كذلك في وينن ، عندما تطلق زاد الخير صوتها المكتوم المتخافض في حسرة على غياب الأهالي ، ثم تخافض اللحن في أغنية في قهوة ع المفرق عند سرقوا منا المشوار في تحسر واضح ، و في تخافضه عند : صاروا دهب النسيان في تحسر واضح ، و كذلك في ليالي الشتاء الحزينة ، عندما تكررها في ختام المقطع ليتخافض اللحن في تحسر ، و كذلك عندما تكرر عبارة رجعت الشتوية في تحسر واضح ، وفي تخافض اللحن كسقوط أوراق الشجر اليابسة عند وتدبل بالشتي في حبيتك بالصيف.
- التردد : تخافض لحني نجده في راجح عند تردد ريما في قبول المعلومات التي يعطيها راجح ، و كذلك في تخافض اللحن للتعبير عن التردد عند تلبك ما عاد يحكي في دقيت طل الورد.
- الضياع: ونجد التعبير عنه في توظيف الموسيقى لحساس مقام الحجاز كار ليزيد من عنصر الضياع عند زاد الخير وهي تكتشف أن الأهالي غادروا المدينة ، وفي توقف ريما الصوتي غير المتداول على مستوى الكلمة الواحدة عند ندائها خالها في مشهد راجح ( يا – خا – لي ) فنداؤها مبني على صوتين موسيقيين متتاليين باتجاه الهبوط مع توقف عند الصوت الأخفض وهو حساس مقام الحجاز كار ، عند ( لي ) للتعبير عن الضياع.
- النداء : قفزة لحنية متصاعدة نجدها في بداية ليالي الشمال الحزينة.
- الندم : ونجده في إطلاق المختار لتأوهات متصاعدة بعد أن يدرك أن راجح لم يعد شخصاً افتراضياً اختلقه هو.
- اختلاف مستوى الأهمية: نجده عندما ينهي المختار لحنه على الدرجة الخامسة لمقام الهزام ، التي تتخذ في المقامات الأهمية الثانية بعد أهمية درجة الاستقرار ، فيما تنهي ريما لحنها على استقراره ، وقد اختار ” الأخوين رحباني ” لختام المختار الأهمية الثانية ، لأن المختار استجاب لرأي فيروز ولم يكن الرأي بالتأجيل له أصلاً.
- اقتناع : نجده في تحول النساء ، في مشهد وينن من أداء لحنهن الذي أتى بانتقالات صوتية معبرة عن الاضطراب ، إلى الانضمام إلى الرجال ، في تكرار لحنهم المعبر عن التماسك سوية ، للدلالة على اقتناعهم بمقولة الرجال القاضية بالمغادرة.
- تضارب العواطف المتزامن: نجده في عاملين متزامنين : كتم صوت زاد الخير في وينن ، عندما تكتم صوتها المتخافض للتعبير عن التضاد بين حسرتها على غياب الأهالي و قرارها البقاء في المدينة ، في تزامن مع ضربات البيانو القوية! كما نجده في راجح في توقف الموسيقى دائماً باتجاه تصاعدي ، فيما ريما تتوقف باتجاه تخافضي بشكل متزامن أثناء ندائها لخالها ، وهذا التضاد يزيد من أجواء الحيرة والخوف.
- تلاشي : تخافت الموسيقى باتجاه التخافض اللحني ، لإكمال تلاشي صوت زاد الخير المكتوم المتخافض في وينن ، المعبر عن حسرتها العميقة.
- توتر: ضربات موسيقية خاطفة تعبر عن توتر ريما في مواجهة راجح.
- حركة انحناء: تخافض لحني للتعبير عن انحناء الورد وهو يطل من الشباك في دقيت طل الورد ع الشباك، و تخافض مماثل في أغنية في قهوة ع المفرق عند : على مقاعدنا للتعبير عن حركة الجلوس إلى الأسفل
- الحيرة والاضطراب والتوجس والارتباك: يعبر عنه بتتالٍ صوتي غير منسجم ونجده موسيقياً في راجح تعبيراً عن حيرة ريما وهي تتجه لإعلام خالها بقدوم راجح ، و كذلك في وينن ، موسيقياً ، للتعبير عن اضطراب الأهالي وتوجسهم وهم مجبرون على مغادرة مدينتهم ، و كذلك في غناء النساء ، في انتقالات ، على درجات موسيقية مختارة ، لا تندرج في سياق مقام موسيقي محدد واضح ، تعبر فيها النسوة عن الحيرة و الاضطراب بسبب مغادرة مدينتهن، وفي تغير ضغط الإيقاع اللفظي في أداء ريما ، الذي نجده في راجح عند التعبير عن حيرة ريما إيقاعياً ، بين إعجابها براجح وخوفها منه.
- الخشية : ارتعاد الصوت ، ونجده في أغنية وينن عند كلمة المفاتيح للتعبير عن خشية زاد الخير من حمل مسؤولية المفاتيح
- الخوف : نجد التعبير عن الخوف في رجفة صوت ريما ، عندما يعلمها راجح بأن الموعد قبل موسم الخطبة ، وفي اهتزاز اللحن عند هربت بهالليل في وينن.
- الريح : اهتزاز الصوت ونجده في أغنية وينن ، عند كلمة الريح تعبيراً عنها.
- السؤال : تصاعد لحني نجده في راجح في الأسئلة التي تطرحها ريما على راجح وقد فاجأها أن اسمه راجح ، و كذلك في : وينها؟ ، و ماتت؟ ، في دقيت طل الورد ع الشباك.
- السيطرة : نجدها في تغير المستوى الصوتي في الأداء في راجح بين المستوى الصوتي لأداء راجح في طبقة موسيقية أعلى ، وأداء ريما في طبقة موسيقية أخفض ، للدلالة على سيطرته على المشهد.
- طول المدة : نجده في امتداد الصوت في دقيت طل الورد ع الشباك ، للتعبير عن طول الانتظار حتى يفتح الباب ، وفي الآه الممتدة في رجعت الشتوية لتعبر عن طول فصل الشتاء الممل ، وفي تكرار كلمة سنين للدلالة على عدد السنين الذي مر، وبالمقابل لا يمتد اللحن عند فايق وشو طالت في دقيت طل الورد ع الشباك كما هو متوقع إذ أن النص يوحي بأن الحكاية لم تأخذ وقتاً: قالت حلوة أنا وخلصت الحكاية!
- قوة الشخصية : نجدها في اللهجة القوية عند راجح عندما يقول : قولي للمختار وما تلا ذلك ، ما يؤكد لريما قوة شخصية المجرم التي اخترعها المختار.
- كثافة العواطف: تموج آني في اللحن ، ونجده موسيقياً في تموج لحن المقدمة الآني في دقيت طل الورد ع الباب ، للتعبير عن كثافة العواطف في ذهن الحبيب ، وهو يقترب من بيت الحبيبة الجميلة ، وفي تموج لحن كلمة الحلواية الآني للتعبير عن كثافة العواطف أمام جمال الحبيبة ، وفي تكرار عبارة حلوة الحلوين للتعبير عن مدى ارتباط الورد بالحبيبة.
- اللهفة: ضربات البيانو في مقدمة دقيت طل الورد ع الشباك تعبر عن نبضات قلب الحبيب وهو يتلهف للقاء الحبيبة.
- المفاجأة: تصاعد وتخافض اللحن في مشهد راجح أثناء محاولة ريما استيعاب بأن هذا الشخص الغريب اسمه راجح ، ثم انهيار اللحن للتعبير عن المفاجأة ، عندما تكتشف أن هناك دلائل على صدقه ، ثم قفزة لحنية صاعدة للتعبير عن سؤال في جو استنكاري، وكذلك في دقيت طل الورد ع الشباك في قفزة لحنية صاعدة عند السؤال : ماتت؟!
لنعرض الآن للتحليل التفصيلي للأغاني المختارة ، الذي يبين تشابك المعاني والموجات اللحنية المقابلة لتوليد الأبعاد الدرامية.
يرد في التحليل حالتان معاكستان ، إذ أن النص الرحباني للحن متكرر في أغنية في قهوة ع المفرق ، استطاع أن يؤمن توافق المعاني فيه ، مع موجات اللحن التي سبق أن وضع لمدخل الأغنية ، وكذلك في وينن ، عندما يتكرر اللحن على نص جديد!
يفضل أن تتم القراءة مع الاستماع المتزامن للألحان.
أولاً : مشهد راجح في بياعة الخواتم
راجح شخصية وهمية شريرة اخترعها المختار ” نصري شمس الدين ” خال ريما ” فيروز ” ليبرر سلطته على الأهالي نظراً لأنه يحميهم منه. يبين مشهد لقاء ريما ” فيروز ” بشخص يدعي أنه راجح ” جوزيف عازار ” و ارتياعها ، ثم إبلاغها لخالها المختار ” نصري شمس الدين بذلك ، المستوى الرفيع الذي ارتقى إليه التعبير الدرامي في المسرح الرحباني ، في تعبيره عن تناقض المواقف وتضادها ، سواء من خلال الانتقال من الحداثة الموسيقية إلى الفولكلور ، و من الألحان المرسلة إلى الإيقاعية ، أو عبر توظيف تباينات الأصوات و المقامات و حتى الإيقاعات اللفظية والموسيقية ، لإبراز تلك التناقض.
أتى المشهد في سبعة مشاهد تفصيلية ، لكل منها أجواؤه التعبيرية المختلفة
المشهد الأول :
|
|
الغريب: مَسا الخَــيْـر يا صَبِــيِّـة | تنطلق الموسيقى في لحن يوحي بأجواء الترقب ، ثم يبدأ حوار بين راجح وريما في مستويين صوتيين على مقام النهاوند . راجح يعلم ريما برغبته بلقاء المختار ، متحدثاً بصوت واثق في طبقة موسيقية أعلى من طبقة ريما ، بما يوحي بأنها ستكون في موقف ضعيف أمامه ، فيما تمهد الموسيقى لكل سؤال أو جواب بضربات خاطفة تعبر عن توتر ريما ، مع تطور إدراكها لصعوبة الموقف.
|
ريما: مَسا الْخَـيْـر.. شــو بتْـريْـد؟ | |
الغريب: قاصِد المِخْتار | |
ريما: وْشو بَــدَّك مِنُّـو؟ | |
الغريب: سامِعْ عَنُّو خْبار | |
ريما: وشو إسْمَكْ ت قِلُّو؟ | |
الغريب: إسْمي راجِحْ | ثم تأتي المفاجأة عندما يعلن راجح اسمه ، وتأتي عند ريما جملة من الاستفسارات والمحاكمات العقلية ، تتصاعد فيها الجمل اللحنية في جميع مواقع السؤال والاستنكار ، بسبب معلومات غير منطقية بالنسبة لها ، فيما تأتي تلك الجمل اللحنية متخافضة خلال محاكمتها العقلية وترددها في قبول المعلومات نحو استقرار المقام، كأنها تبحث عن استقرارٍ يريحها ،خاصة عند قولها : راجح مش موجود! |
ريما: شو؟؟ | |
الغريب: إسْمي راجِحْ | |
ريما: مُشْ مَعْقُولْ!! | |
الغريب: مُشْ مَعْقُولْ يْكُون الْواحِدْ إسْمو راجِحْ؟ | |
ريما: إسمك راجِحْ؟؟ | |
لَكِنْ راجِحْ مِشْ مَوْجودْ | |
راجح: والله هالضَّيْعَة عَجِيْبِة | |
هاي تَذكِرتي .. إسْمي راجِحْ | |
المشهد الثاني: | |
ريما: راجِحْ؟ إنِتَ راجِحْ؟! | ثم تأتي المفاجأة إذ يثبت راجح شخصيته ليتخافض اللحن بشكل انهياري عند ريما ، وينتهي بتصاعد استنكاري. |
المشهد الثالث: | |
راجح: قُولي للْمخْتار |
اللهجة القوية عند راجح تؤكد شخصية المجرم التي اخترعها المختار ، مع تمهيد موسيقي له ملائم وضاغط ، فيما يبرز الخوف عند ريما في رجفة عابرة في الصوت عند جملة : قبل موسم الخطبة؟ ودائماً لحن كلمة ناطر فيه إيقاعية اللفظ واضحة للتأكيد على اللقاء. |
لازِمْ شُوفو وْإنْهي الشَّغلِة قَبِل مَوْسِم الخِطْبِة | |
ريما: قَبِل مَوْسِم الخِطْبِة؟ | |
راجح: إيه .. لازِمْ شُوفو | |
ريما: أيَّا ساعَة وْوَين؟ | |
راجح: ساعِة الْ بِيريْد.. وَين ما بِيْريد.. | |
بِالِحْراشْ ناطِرْ بالسَّاحاتْ ناطِرْ.. | |
بالْلَّيْل.. بالنّهار.. قُولي للمختار | |
راجِحْ ناطِرْ راجِحْ ناطِرْ | |
المشهد الرابع: | |
ريما: خالِي… يا خالِي… | هنا يأتي دور الموسيقى للتعبير عن الحيرة ، في قفزات على أصوات موسيقية من أصل المقام حيث تتحول الموسيقى إلى مقام الحجاز كار ولكن في تتالٍ غير منسجم يعبر عن الحيرة، وحتى عندما تنادي ريما خالها فنداؤها مبني على صوتين موسيقيين متتاليين باتجاه الهبوط مع توقف عند الصوت الأخفض وهو حساس مقام الحجاز كار في موقع غير متداول لاستقرار الغناء وتوقفه ، مع اختلاف جوهري.. الموسيقى تتوقف دائماً باتجاه تصاعدي ، فيما ريما تتوقف باتجاه تخافضي، وهذا التضاد يزيد من أجواء الحيرة والخوف.أؤكد على الصدى التعبيري الذي يحيط بنداء ريما لخالها ، فيعبر عن إحساسها بالوحدة و الخوف، وكأن الضيعة اختفت من حولها. |
المشهد الخامس: | |
المختار: ياريما عِنْدي فِكْرَه إنُّو الْلَيْلة بْهالسَّهْرَة | تتحول الألحان هنا إلى أجواء شرقية إيقاعية بسبب دخول شخصية المختار في المشهد . يلجأ الأخوان رحباني هنا إلى أسلوب جديد للتعبير الدرامي ، من خلال توظيف المقامات الموسيقية.. البداية مع المختار ومقام العجم في لحن حيوي ، إذ أنه لا يزال معجباً بنفسه في استمراره في الكذب . تبلغه ريما بقدوم راجح أولاً ، على مقام العجم ذاته ، ثم يتحول اللحن إلى مقام الحجاز كار ، الذي كان سيطر عندما هرعت لإبلاغ خالها ، في تذكير مبدع بذلك الموقف ، يأتي ذلك عندما تؤكد له قدوم راجح ، ثم يتابع هو في ذات المقام عند دخوله في جو المفاجأة في دلالة على بدء استيعابه للأمر ، ونلاحظ تغير اللحن إلى لمحات صدامية عند بدء استيعابه للأمر . |
خَبِّرْهُنْ شِي عَنْ راجِحْ | |
ريما: يا خالِي إجا راجح | |
المختار : (أهْلا وْسَهْلا) | |
(شو عم تحكي؟؟) | |
ريما: إجا راجِح! | |
المختار: ما أنا مْألِّفْ راجح!! | |
ريما: صَدِّقْني ياخالي إجا وْسَألْ عَنَّكْ | |
وْفَرْجَاني تِذكِرْتُو | |
المختار: وقْريْتيْلُو إسْمو؟؟ | |
ريما: إسْمو راجِح! | |
المختار: والصُّورَة عَ تِذكِرْتُو؟ | |
ريما: صُورِة راجِح! | |
المختار: دَخِيْلِيْك ياخالي قُوليلي مُشْ مَوْجُود | |
في واحِدْ مِنَّا حْكاية | |
وواحِد مانُّوشْ حْكاية قَوْلِك أنا الِحْكايِة | |
وْهُوِّي مانُّوشْ الحْكاية؟! | |
ريما: ما بَعْرف ياخالي | |
المشهد السادس: | |
المختار: قَوْلِك عَمْ إحْلَمْ بِنَوْمِي |
في متابعة لتوظيف المقامات الموسيقية في التعبير ، يتحول اللحن إلى مقام البيات ، إذ يستعيد نفسه عندما يظن أنه يحلم ، مع إكساب أدائه إيقاعية لفظية واضحة ، قد نتساءل عن أسبابها. الجواب سيأتي لاحقاً ، تتابع ريما على المقام ذاته ، عند : شفته متل الجايي من غنيي بحرية ، حيث يوحي النص ب إعجابها بشخصية راجح ، وهذا إبداع رؤيوي في النص و اللحن ، لما ستؤول إليه الأمور ، إذ أن راجح سيخطب ريما لابنه لاحقاً في سياق المسرحية وستقبل ، ثم ، و للتعبير عن حيرة ريما بين إعجابها براجح وخوفها منه ، خاصة أن جو النص يتغير عند: من شي كذبة ربيت بالغربة ، يتغير ضغط إيقاع اللفظ في اللحن الذي تؤديه ، ليتحول مجدداً بشكل مخالف للسابق عند : من شي خبرية ، وهنا نفهم لماذا كانت الضغوط الإيقاعية واضحة عند المختار ، لقد كان ذلك للإثبات المسبق لقدرة الأخوين على إعطاء الضغوط بشكل دقيق ، أما عندما يتصل الأمر بالتعبير بالإيقاع عن الحيرة ، فلابد من تغيير الضغوط الإيقاعية للتعبير عنها ، في أسلوب مشابه تماماً للتعبير الذي وجدناه قبل قليل ، في المشهدين الثاني والثالث ، ولكنه كان بالأصوات الموسيقية وتغيراتها تلك المرة..
|
وَلاَّ كيف مْنِشْلَحْ كِلْمِة | |
مْنِزْرَع كِذبِة بْتِكْبَر هالْكِذبة | |
وْبِتْصير الكِلْمِة زَلْمِة! | |
ريما: ما بَعْرف يا خالي | |
ريما: شِفْتُو مِتْل الجايي مِنْ غِنِّيِّة بَحْريِّة | |
مِنْ شِي كِذبِة | |
رِبْيِت بالْغِرْبِة مِنْ شِي خَبْريِّة | |
المشهد السابع: | |
المختار: قَوْلِك فَزّ مْنِ الخَبْريِّة؟ | يتحول اللحن أخيراً إلى مقام الهزام ، الذي تقع درجة استقراره على درجة صوتية تعتمد أرباع الأصوات ( مي نصف بيمول ) ، وهي ليست من الأصوات الأساسية ، بما يضعف وضوحها ، و يعكس عدم وضوح الحل ، حيث سيتوافقان على تأجيل معالجة الموضوع ، وهنا يصدر المختار تأوهات متصاعدة بدون كلمات ، بينما ريما تتحدث ، معبراً عن الندم على ما فعل . تختم ريما اللحن عند درجة استقرار مقام الهزام ، لأنها صاحبة الرأي في التأجيل ، وينهي المختار لحنه على الدرجة الخامسة ، التي تتخذ في المقامات الأهمية الثانية بعد أهمية درجة الاستقرار . وقد اختار الأخوان رحباني لختام المختار الأهمية الثانية لأن المختار استجاب لرأي ريما ولم يكن الرأي بالتأجيل له أصلاً.. |
ريما: ما بَعْرف يا خالي | |
المختار: كِيْف | |
ريما: صارِت الْكِذبة تِحْكِي | |
المختار: كِيْف | |
ريما: صارِت الكِلْمِة زَلْمِة | |
المختار: كِيْف | |
ريما: بَدْنا نْخَلِّصْ هالرَّوايِة | |
المختار: فِكْري نام وْبَلا سَهْرَة وْبَلا ما نْكَفي الرَّوايِة | |
ريما: لا.. | |
لا ياخالي… مْنِسْهَر مامْنِحْكي لَحدَا | |
بَلْكي بُكْرا بْتِدَّبَّرْ لَحالا عَ الْهَدا | |
المختار: عَ الْهَدا.. | |
ريما: عَ الْهَدا.. |
يجدر التنويه أن جل الجهد التعبيري كان على عاتق السيدة فيروز ، إذ أنها جسدت ، بتعبيرية لافتة على مستوى التموج الصوتي والتمثيلي أيضاً ، أغلب التحولات التي طرأت على طول مسار المشهد ، وقد كان هذا كله جديداً كل الجدة في الغناء العربي!
ثانياً: دقيت طل الورد ع الشباك
في عام 1972 ، قدمت السيدة فيروز ، وضمن مسرحية ” ناس من ورق ” ، أغنية ” دقيت طل الورد ع الشباك” ، من ألحان الأخوين رحباني وكلمات سعيد عقل ، عن رواية “ماريا ” للروائي الكولومبي جورج إيساك ، حيث أبرزت فيروز في أدائها للحوار بين الحبيب والورد ، وفي الانتقال اللحظي بين الأجواء اللحنية المختلفة ، قدرات تعبيرية فريدة!
دقيت طل الورد ع الشباك | |
مقدمة موسيقية |
|
المشهد الأول | |
دقيت .. | امتداد اللحن عند دقيت للتعبير عن طول انتظار من يفتح الباب |
طل الورد عالشباك | تخافض عند طل الورد ع الشباك وكأنما ينحني إليه إذ أنه يخاطبه كشخص |
وينها ؟ .. تلبك ما عاد يحكي | تصاعد عند وينها للسؤال واستنكار أنها لم تفتح الباب ، و تخافض اللحن عند تلبك ماعاد يحكي معبراً عن تردد الورد |
ماتت ؟ لشو تخبّر؟ | تصاعد أعلى عند ماتت المفاجأة واستنكار الخبر |
انا واياك .. أنا واياك وحدنا يا ورد رح نبكي | تخافض للتحسر عند وحدنا رح نبكي |
المشهد الثاني | الذكريات الجميلة |
انت و انا يا ورد وحدنا بهونيك ليلة برد | يبدأ الإيقاع بعد المشهد الأول القاتم الذي كان مرسلاً بدون إيقاع ، وذلك للتعبير عن الذكريات الجميلة في المشهد الثاني |
حكيت لنا حكاية الحلوايه
فايق و شو طالت .. حكاية الحلواية قالت : حلوة انا خلصت الحكايه |
تموج اللحن عند الحلواية للتعبير عن جمال الحبيبة
و الدخول في مقام البيات العاطفي عند فايق وشو طالت لم يمتد اللحن عند طالت كما هو متوقع ، إذ أن النص يوحي بأن الحكاية لم تأخذ وقتاً: قالت حلوة أنا وخلصت الحكاية! |
المشهد الأخير | |
و دقيت عالشباك بعد سنين .. سنين | تكرار كلمة سنين مع تصاعد اللحن في كل مرة ، جاء للتعبير عن توالي السنين وزيادة المسافة الزمنية ، أما كلمة سنين الأخيرة فسيمتد لحنها للتعبير عن طول المدة ، والعدد الكبير للسنين |
شفته انفتح كيف شكل ؟ بعدك هون ؟ | تصاعد اللحن للسؤال والاستغراب : بعدك هون |
قال علمتني حلوة الحلوين | تكرار أداء حلوة الحلوين لمرات للتأكيد على مدى ارتباط الورد بها وعلى أهمية وصيتها |
إن فليت اترك عطر بهالكون | تصاعد اللحن عند الكون للتعبير عن بعد واتساع الكون |
ثالثاً : وينن
في مسرحية ناطورة المفاتيح (عام 1972 ) ، يفرض الملك ضريبة جديدة ، يشارك من خلالها الرعيةَ في أملاكهم ، ما يدفع الجميع للمغادرة. ندخل أولاً على مشهد وداعي حزين ومهيب ، يسلم فيه أهالي المدينة مفاتيحهم لزاد الخير ( فيروز )ثم ننتقل إلى صرختها: وينن؟
وينن | |
تغني النساء مع الرجال
زاد الخير * انطري البيوت * وانطري المفاتيح * للزمان التاني زاد الخير * انتي صرتي * وحدك صرتي * ناطورة البيوت * ناطورة المفاتيح |
|
لما بيرسي مركب الليل * على سطوح المدينة *
وبياخدني سفر الليل * انطريني انطريني * ع باب المسافة انطريني .. أنا رايح انطريني |
فيما نجد أن اللحن المخصص للرجال مختلف ، إذ يأتي على مقام موسيقي واضح ، هو مقام الكرد على درجة السي ، حاملاً ملامح التماسك الممزوجة بالألم والحنين |
لما بيرسي مركب الليل * على سطوح المدينة *
وبياخدني سفر الليل * انطريني انطريني * ع باب المسافة انطريني .. أنا رايح انطريني |
ليجتمع الرجال مع النساء أخيراً ، مكررين المقطع الثاني ، واضح الملامح ، في دلالة على اقتناع الجميع بضرورة الرحيل ونلاحظ أن النساء هي التي تبدأ بالغناء إظهاراً لاقتناعهن بمقولة الرجال .. أسلوب لحني مبدع فعلاً ، في التعبير عن التباين في المشاعر ، بين النساء والرجال في لحظة الفراق و مغادرة المدينة ، ثم الاتفاق على الرحيل |
بعد انتهاء هذا المشهد الرتيب الحزين ، تأتي ضربات صادمة ذات صدى من البيانو ، على مقام الحجاز كار على درجة اللا ، تعلن الانتقال إلى مشهد جديد ، مع تخفيض الطبقة الموسيقية بدرجة موسيقة كاملة ، عن المشهد السابق ، دون أي تمهيد. ولما لم يضع الأخوين لحن الأهالي على درجة اللا من البداية ، فلابد إذاً من أنه تخفيض مدروس للتعبير عن هبوط معنويات زاد الخير ، وقد أصبحت وحيدة حبيسة في المدينة الخالية! تعيد ضربات البيانو زاد الخير إلى أرض الواقع، وتذكرها ، من خلال صداها المنتشر ، بأنها أصبحت وحيدة ، فتبدأ بالغناء في كلمة واحدة : ويننْ ، في صدامية لافتة ، على مقام الحجاز كار.
|
|
اللحن الأول : المذهب | |
فيروز: وينن؟
وين صواتن وين وجوهن وَينن صار في وادي بيني وبينن وَينن |
بنيت هذه الكلمة إيقاعياً في نبضتين قويتين ، ( إيقاع اللفظ )كمن يطرق باب الفضاء الساكن ، مستنكراً هذا الواقع الجديد ، إذ اضطر الأهالي لمغادرة المدينة ، ليتردد صدى صوتها معبراً عن شعورها بأنها أصبحت وحيدة ، لتتكرر النبضات القوية التي أصبحت متلاحقة ، في تطوير لافت لصدامية الدخول عند : وين صواتن وين وجوهن وَينن * لتستنتج أن الوديان أصبحت تفصلهم عنها : صار في وادي بيني وبينن ، ليجتاحها ألم غامر ، تكتمه في حناياها ، فتقيده ، مثلما قيدت نفسها بقرارها البقاء في المدينة ، فتطلق صوتها المكتوم في تخافض تعبر من خلاله عن التضاد بين ألمها من جهة ، وقرارها بالبقاء في المدينة حبيسة ، تنطر مفاتيح البيوت ، ملخصة بذلك الجملة اللحنية ، ومنهية لها ، مع رد فعل من الفرقة الموسيقية ، بإطلاق صوتٍ هو حساس مقام الحجاز كار ، وليس درجة استقراره ، ليزيد هذا من عنصر الضياع ، في مشاعر زاد الخير ، حبيسة المدينة الخالية، ياله من تعبير! يستفيد الأخوان رحباني من هذا الأسلوب المبدع ، أيضاً ، في توفير تخافتٍ للّحن ، يمهد لعودة ضربات البيانو الصادمة ، التي تسمح لزاد الخير ، بإطلاق آهات الألم ، بشكل متزامن مع تخافض اللحن ، في تعبير واضح عن تضارب العواطف ! |
اللحن الثاني الذي سيتكرر للاحقاً | |
ركبوا عربيات الوقت * وهربوا بالنسيان |
تتابع خلايا اللحن استنادها إلى مقامي الحجاز و الحجاز كار ، ونلحظ ببساطة اهتزاز اللحن عند كلمتي المفاتيح ، التي أصبحت في عهدتها ، وتعبر عن خشيتها من هذه العهدة ، والريح ، تعبيراً عن مدلولاتها . تختتم زاد الخير ( فيروز ) بإطلاق نبضتي الألم والاستنكار : ويننْ! |
تركوا ضحكات ولادن * منسية ع الحيطان | |
تركولي المفاتيح * تركوا صوت الريح * وراحوا ما تركوا عنوان! | |
تكرار المذهب | |
وَينن وَينن | |
وين صواتن وين وجوهن وَينن | |
صار في وادي بيني وبينن.. | |
آه وَينن | |
تكرار اللحن الثاني | |
عشاق الطرقات افترقوا * لا حكي لا مواعيد |
نلاحظ أن النص الجديد يتلاءم مع اللحن المتكرر في اهتزازه كما في النص الأول ( عند المفاتيح ، الريح ) وذلك عند الليل والخيل في هربت بها الليل من مربط هالخيل تعبيراً عن الخوف ، كما تلفتني هنا أيضاً عبارة : طير القرميد ، الذي يختصر في تصوير بديع معاني الوحدة ، إذ أنه الطير الذي لا يستطع أن يبني عشه على غصون الأشجار ، فيبنيها على ألواح القرميد المقفرة! كما يلفتني بناء النص وفق أسلوب الموشحات! |
أنا وحدي صوت الشوارع * أنا طير القرميد | |
هربت بهالليل * من مربط هالخيل *
وأنا قنديل الحزن الوحيد |
رابعاً أمثلة من أغانٍ أخرى
في قهوة ع المفرق | |
في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار
نبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار جيت لقيت فيها عشاق اتنين زغار |
يبدأ اللحن التصاعد عند كلمة جيت للتعبير عن الصدمة ، ويتصاعد أكثر عند كلمة عشاق اتنين زغار ( هناك إلماح إلى شيء من الغيرة في تصاعد اللحن من العشاق الصغار رغم أن أداء فيروز يبدي تعاطفاً معهم ) ، وصولاً إلى ذروة لحنية استنكارية عند : قعدوا على ، ثم تخافض لحني مباشرة عند :مقاعدنا ، للتعبير عن حركة الجلوس ، ثم تخافض اللحن عند سرقوا منا المشوار في تحسر واضح |
قعدوا على مقاعدنا سرقوا منا المشوار | |
يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر |
صيحة اللحن تأتي مع قفزة لحنية صاعدة تعبيراً عن الاستنكار عند يا ورق الأصفر عم نكبر ، مع التكرار للتأكيد على المعنى، |
الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر | |
كل صحابي كبروا واتغير اللي كان |
يتصاعد اللحن عند كل صحابي كبروا وتغير اللي كان ، في ذروة اللحنية تحمل الاستنكار ، ليتخافض اللحن في تحسر عند صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان ، ونلاحظ أن النص الرحباني الجديد لهذا اللحن المتكرر ، استطاع مجدداً أن يؤمن توافق المعاني الجديدة فيه ، مع موجات اللحن ، التي سبق أن وردت في لحن مدخل الأغنية! |
صاروا العمر الماضي صاروا دهب النسيان |
ليالي الشمال الحزينة: | |
ليالي الشمال الحزينة ضللي اذكريني اذكريني | ليالي الشمال الحزينة الأولى : صيحة مع قفزة لحنية صاعدة للنداء ، ثم تخافض اللحن وهي تدعو تلك الليال لتتذكرها متحسرة فيم بتخافض اللحن عند ليالي الشمال الحزينة الثانية للتحسر ، أي أن العبارة ذاتها فيها تصاعد استنكاري ثم تخافض تحسري! |
ويسأل علي حبيبي ليالي الشمال الحزينة |
رجعت الشتوية: | |
رجعت الشتوية ضل افتكر في
رجعت الشتوية |
البدء في الأصوات الحادة في صيحة و قفزة لحنية صاعدة للاستنكار ، لأن الشتاء طويل وممل ، والحبيب بعيد ، وهكذا أتت هذه الآه طويلة في اللحن / امتداد / ليُعبّر عبرها الرحابنة عن طول فصل الشتاء الممل. نلاحظ تخافض اللحن لنفس العبارة للتحسر عند تكرارها ، مثلما ورد في ليالي الشمال الحزينة. |
حبيتك بالصيف: | |
ويقلها انطريني وتنطر عالطريق | تصاعد استنكاري لأنه لن يعود ثم |
ويروح وينساها وتدبل بالشتي | تخافض اللحن للتحسر على ذبول أوراق الشجر اليابسة |
نعم ، لقد استطاع الأخوان رحباني أن يطورا أسلوباً متفرداً في تشكيل موجات الألحان المتلاحقة ، المولِّدة للأبعاد الدرامية ، بحيث تعبر بدقة وأمانة عن معانٍ متشابكة ومتناقضة ، كثيراً ما تشابكت ، على مستوى البيت الواحد أو الكلمات المتلاحقة ، فيما كانت تموجات صوت فيروز ، المضمخ بالتعبير ، الناشر الأساسي لتموجات تلك الألحان.
لقد أبرزت فيروز عبر تحكمها بصوتها الساحر الجملَ اللحنية المعبرة ، إذ تدرج صوتها بين الحسم و الانهيار، و بين التصريح و الخفوت ، مروراً بطيف واسع بينهما ، وبتلاحق متعاكس أحياناً ، تطلب تحكماً فائقاً قل نظيره ، على مستوى دقة العُرب الصوتية ، و وضوح مخارج الحروف ، و تزامن إطلاق دفقات الهواء السريعة أو المديدة عبر الأوتار الصوتية مع دفقات الألحان ، فأسهمت بذلك في أن تجد المعاني الدرامية المعقدة المرتبطة بها ، طريقها الآني إلى الوجدان.
د. سعد الله آغا القلعة