ورقة مرجعية نشرت في إطار تقرير التكامل العربي
الصادر عن منظمة الإسكوا في 25 شباط / فبراير 2014
بقلم : الدكتور سعد الله آغا القلعة
التكامل الموسيقي العربي في عصر المعلومات
بقلم : الدكتور سعد الله آغا القلعة
ذات يوم من عام 2013 ، اتصلت بي الأمانة العامة لمنظمة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة ، ورغبت أن أشارك في تقرير يجري إعداده عن التكامل العربي ، من خلال ورقة مرجعية ، للفصل المخصص للتكامل الموسيقي العربي ، فكانت هذه الورقة المرجعية التي أنشرها هنا.
أولاً : الإطار التاريخي للتكامل الموسيقي العربي
أ – منذ القدم وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1918
تشكل الغناء العربي المتقن[1] ، من تزاوجٍ بين الشعر العربي ، الذي وُلِد في شبه الجزيرة العربية ، واللحن الوريث لألحان المدن – الممالك العربية القديمة ، كما تطور في الشام والعراق ، فعبرت ولادة الغناء بهذا الشكل ، عن أول ملمح من ملامح التكامل العربي في الموسيقى والغناء ، فيما ارتبط تطور الغناء العربي لاحقاً ، بتحولات مراكز القوة السياسية والاقتصادية العربية ، وتنقلها بين الحواضر العربية والإسلامية ، والظروف التي حكمت إنتاج الغناء ونشره بينها.
احتضنت دمشق ، عاصمة الأمويين ، أولَ مركزٍ إبداعي موسيقي حقيقي تشكل لإنتاج الغناء المتقن ، بعد ولادته في الحجاز ، وذلك بغية تقديمه في حضرة الخليفة ، من قبل مغنين متنافسين ، وعندما انهارت الخلافة الأموية ، انتقل هذا المركز إلى بغداد ، حاضرة العباسيين ، حيث بدأت تتعمق ، إلى جانب الإبداع اللحني، تنويعات جديدة في العلاقة بين الإيقاعين الموسيقي والشعري ، وتترسخ ملامح البحث الموسيقي والتعليم . تبين ذلك ، أولاً ، مع مساعي تحديد أهم مائة أغنية عربية في زمان هارون الرشيد ، التي وثق لها كتاب الأغاني للأصفهاني لاحقاً ، و مع بدء ظهور كتابات الدراسات الموسيقية للكندي ، ثم الفارابي ، وابن سينا ، والأرموي والطوسي ، والتي كانت متكاملة في محتواها بغض النظر عن الموقع الجغرافي الذي كُتبت فيه.
ترافق الوهن ، الذي حل بالدولة العباسية ، مع تشكل مركزٍ إبداعي موسيقي كبير في بلاد الأندلس ، استند إلى اللغة الموسيقية كما تم تطويرها في بغداد ، وتمركز في قرطبة ، فأنتج علاقة جديدة بين النص واللحن ، تجسدت في الموشحات الأندلسية ، واستمر حتى خروج العرب من الأندلس في عام 1492 ، حيث انتقل ، عندما ضعفت القوة السياسية في العالم العربي وداخلها التمزق ، إلى استانبول عاصمة العثمانيين ، التي سعت لاجتذاب المبدعين العرب ، بغية تشكيل صورة حضارية لائقة بعاصمة الإمبراطورية ، في سعيٍ لتكوينٍ مركز للتطور الموسيقي الشرقي / وليس الغنائي / فيها .
استمر هذا المركز ، حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية ، مع نهاية الحرب العالمية الأولى . توازى هذا الواقع مع نمو القوة الاقتصادية لمدينة حلب ، عاصمة طريق الحرير ، فتحولت إلى مركز الإبداع الموسيقي العربي ، بتحريض من التجار الأثرياء ، فيما أصبحت القوافل التجارية ، واسطة التفاعل والتكامل الموسيقي العربي .
استمر تأثير مركز حلب ، حتى افتتاح قناة السويس ، ومن ثم انفصال سورية عن الامبراطورية العثمانية ، وفقدان حلب للتواصل مع العراق ، بسبب وقوع سورية تحت الإنتداب الفرنسي ، والعراق تحت النفوذ البريطاني ، و ما تلا ذلك من حرمانها من مينائها الأساسي ” الإسكندرون ” مع أوربا.
ب – العصر الحديث : 1918-1973
استطاعت القاهرة أن تحتضن المركز الإبداعي الجديد ، الذي كان أول مركز إبداعي موسيقي معاصر ، يتشكل في ظل القوة السياسية أو التجارية ، بعد دمشق ، وبغداد ، وقرطبة وحلب، مستفيدةً من افتتاح قناة السويس ، واستقطاب القاهرة لمبدعين وفدوا من الشام أساساً ، نقلوا عناصر اللغة الموسيقية السائدة فيها ، ثم شيوع الفكر القومي العربي ، وإعادة الاعتبار للقصيدة العربية أساساً للغناء ، و كذلك من تعاصر مبدعين مصريين كبار ، استطاعوا توظيف التقانات الجديدة ، التي شاعت في مصر ، كالأسطوانة والإذاعة والسينما ، في توليد أشكال غنائية غير مسبوقة ، كالدور والمونولوج الرومنسي والأغنية الإذاعية والسينمائية ، وفي تحقيق التواصل المباشر عبر الحدود السياسية بين المبدع والجمهور العربي الناهض ،والتي سمحت بأن يكون التواصل مباشراً بين المبدع والمتلقي عبر الحدود ، دون أن نشهد ممانعة لذلك من القوى السياسية في الحواضر العربية الأخرى ، في ظل قوة اللغة الموسيقية الجديدة ، واعتمادها التعبير اللحني عن المعاني ، وتطوير دور الموسيقى في اللحن، وجعلها جزءاً مهماً في البناء الموسيقي ، تعبر فيما تعبر عن الرومنسية الجديدة ، وتواصلها القوي مع جمهورها العربي الواسع ، وهو ما كرس القاهرة لتكون العاصمة الموسيقية للعالم العربي . خاصة ، بعد إقامة أول مؤتمر دولي للموسيقى العربية فيها برعاية الملك فؤاد الأول في عام 1932 ، شارك فيه باحثون من مختلف الدول العربية وكذلك فرق موسيقية عربية عديدة ، وشكلت وثائقه أول مسح علمي معاصر للموسيقى العربية ، لم يتكرر لاحقاً.
وسرعان ما تسببت التقانات الجديدة في شيوع تقليد الحواضر العربية الأخرى لنتاج القاهرة ، فيما تسبب تأخر وصول هذه التقانات إلى الأطراف ، في أن تأتي إبداعات الأطراف محلية مع فارق زمني لا يسمح لها بتطوير ملامح خاصة بها ، كما أسهم التدوين الموسيقي في مزيد من الانتشار بين الموسيقيين في تلك الحواضر البعيدة ، بما كفل إعادة إنتاج ما ينشره المركز الرئيسي محلياً.
ت – استمرار المراكز التقليدية في العيش على تاريخها ونشوء مراكز موازية
على التوازي ، استمرت الحواضر القديمة في اختزان ماضيها ونشره قدر استطاعتها ، فاستمرت دمشق في تقديم تاريخها ، مع تحويله باتجاه الغناء الصوفي ، بعد أن أصبحت عاصمة الحج العثماني ، واستمرت حلب و قدودها وموشحاتها الحلبية ، مع شيوخ الطرب فيها ، واستمرت بغداد مع مقامها العراقي ، أما الأندلس فقد انتقل تراثه بعد خروج العرب منه إلى المغرب العربي وحلب مرة أخرى ، ليتحول المغرب العربي إلى مركز اختزان للغناء الأندلسي القديم ، دون أن يشكل لنفسه مركز إبداع خاص ، لافتقاده إلى القوة السياسية أو الاقتصادية اللازمة ، و لكي تضيف حلب إلى سمعتها ، أنها أصبحت مركزاً لتطوير أصول الغناء الأندلسي في المشرق العربي ، مستفيدة من قوتها التجارية.
تميز السودان بلونه الخاص لاعتماده السلم الموسيقي الخماسي ، ما أضفى عليه طابعاً محلياً صرفاً.
استفادت بيروت من قوتها الاقتصادية ، وأجواء الانفتاح السياسي فيها بين الخمسينات والسبعينات ، ومن انتقال رؤوس الأموال السورية إليها ، لتشكيل مركزٍ إبداعي مواز لمركز القاهرة ، مستنداً في تشكله إلى تواصل بعض مبدعيه مع مركز القاهرة الإبداعي ، ونتاجاته المتقاطرة يومياً ، وإلى فولكلور بلاد الشام ، وانفتاح بيروت على الغرب ، مع توظيف متجدد للمسرح الغنائي العربي ، فيما وفرت إذاعات دمشق ، و الشرق الأدنى ، والقدس ، ومهرجانات بعلبك ، إمكانات النشر واستهداف السوق .
انتهى دور هذا المركز مع الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات ، مثلما أنهت نكسة حزيران 1967 ، وما تلاها من قطيعة مع العالم العربي لأسباب سياسية ، مركز القاهرة الرائد.
ث – من منتصف السبعينات و حتى انتشار الإنترنت والقنوات الفضائية غير الحكومية في عام 2000
من جديد ، عادت القوة الاقتصادية لتكون حافزاً لتشكل مركز جديد ، بعد أن وهنت القوى السياسية العربية ، ليتحول الخليج ذو القوة الاقتصادية الناشئة ، إلى مركزٍ للإبداع الغنائي العربي ، مستنداً إلى تراث اليمن ، الذي كان قد ولّد نواة مركز إبداعي موسيقي قديم ، ولما لم تكن لديه القوة السياسية أو الاقتصادية لنشره ، فقد وجد فرصته عندما شكل بذرة انطلاق لمركز الخليج ، الذي قام بتلقيح التراث اليمني بعناصر اللغة الموسيقية العربية التي تم تطويرها في مركز القاهرة ، بفعل الدارسين من أبنائه فيها ، مضمَّخاً بجماليات الإيقاعات الخليجية ، ومعتمداً في انتشاره على إبداعات محمد عبده ، وطلال مداح ، وطارق عبد الحكيم وغيرهم.
ثانياً : الواقع الحالي للتكامل الموسيقي العربي وآفاق تحفيزه باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
يمكننا الادعاء اليوم ، بأن خمسين عاماً تلت ولادة القرن العشرين الحقيقية مع نهاية الحرب العالمية الأولى ، كانت كافية لتحدد الملامح النهائية للغة الموسيقية العربية المعاصرة ، من خلال قفزات نوعية متسارعة، بل ومفاجئة أحياناً، حققت تطوير القواعد القديمة ، و ابتداع مفردات وجمل جديدة في نفس الوقت ، في عملية جدلية لافتة ، فعبرت عن مختلف المشاعر العاطفية ، الرومنسية منها ، والواقعية ، والوطنية والقومية التي سادت في زمانها ، و أن ما أتى بعدها كان فقط شكلاً من أشكال التطور الطبيعي والمتوقع ، نتيجة تغير الظروف، والتنافس الإيجابي بين مبدعين متعاصرين، وولادة مبدعين جدد ، مع إضفاء نكهات لحنية وإيقاعات محلية ، و غلبةٍ للأغاني الموجهة للشباب ، بحسبان أنهم أصبحوا يشكلون السوق الرئيسية للإنتاج الغنائي العربي.
إننا نعتقد أن هناك فرصة تولد أمام التكامل الموسيقي العربي من رحم الأزمة ، التي يؤطرها التناقض الواضح بين انكسار الفكر القومي على المستوى السياسي ، و مايتبعه بالتالي ، من سعي قيادات كل مركز من مراكز الإبداع الموسيقي العربية ، إلى التمسك بتعميق هويته الخاصة وإبرازها ، على حساب الرصيد الموسيقي الجمعي الذي تطور في الفترة الماضية ، وبين انفتاح الشباب العربي على أقرانه في البلاد العربية ، في ظل الآفاق الواسعة للتواصل التي أتاحتها شبكة الإنترنت ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، وطرح آلاف التسجيلات القديمة فيها .
من هنا ، وللخروج من هذا الواقع ، ولتوليد هذه الفرصة ، يبدو ملحاً السعي لاعتماد تقانة المعلومات والاتصالات كأداة رئيسية لتحقيق أهداف التكامل الموسيقي العربي ومنها :
- الإسهام في تعزيز الهوية القومية العربية .
- توثيق الرصيد الموسيقي العربي بشكل علمي ومنهجي.
- تجميع العالم العربي لعناصر القوة ، و الاستفادة من الفرص المتاحة أمام غنائه المتقن ، كما تطور في حواضر العالم العربي مجتمعة ، معتمداً الدينامية ، و جدلية الإبداع ، والاستلهام ، والتفاعل ، والتلاقح ، في أعمال مبدعيه ، أساساً لتجاوز نقاط ضعفه ، والتهديدات التي تستهدفه والتحديات التي تعترض طريقه.
- ضمان استدامة الإبداع الموسيقي العربي ، واستمرارية العناصر المحفزة عليه ، كالإنتاج ، والنشر ، والتسويق ، والبحث ، والتعليم ، والتنافس والرعاية.
- تطوير اللغة الموسيقية العربية ، لتمكينها من التعبير عن التغيرات الطارئة على المشاعر والأحاسيس التي تشكلت عند العرب منذ نهايات القرن العشرين ، ومواكبة وتحفيز طموحاتهم المشروعة في مستقبل أفضل من خلال استخلاص القواعد التي تلخص اللغة الموسيقية العربية الحالية ، بما يمكِّنها من توليد قواعد ومفردات جديدة ، قادرة على التعبير عن مشاعر العرب ، التي انبثقت عن ظروف القرن الحادي والعشرين ، في حالة مشابهة لما تقوم به مجامع اللغة العربية ، من توليد لمفردات لغوية جديدة ، تعبر عن التطور العلمي والتكنولوجي في العالم .
مما يتطلب القيام بتحليلٍ دقيق للعناصر التي تحكم مسار التكامل الموسيقي العربي المستقبلي من منظور تقانة المعلومات والاتصالات ومنها:
- نقاط القوة التي يتمتع بها التكامل الموسيقي العربي ، ومنها اعتماد الغناء العربي على اللغة العربية الجامعة ، وعلى اللغة الموسيقية العربية ،بصورتها العامة السائدة ، إضافة إلى رسوخ الأغنية العربية التقليدية في وجدان الكبار والشباب ، حسبما تظهره الأعداد الكبيرة لمشاهدات الإبداعات الموسيقية العربية التقليدية ، على مواقع التواصل الاجتماعي.
- نقاط الضعف التي يعاني منها ، بسبب غياب التنافس المعهود بين المبدعين ، والافتقاد إلى ما تعودته المراكز الطرفية ، من وجود مركزٍ قائد لمسيرة الإبداع الموسيقي العربي ، فتحولت المراكز الموسيقية في الحواضر العربية جميعها ، إلى مراكز للتكرار ، دون إنتاج أي لغة موسيقية خاصة ، بعد أن ضاعت مسؤولية التطوير ، في ظل الفراغ الناجم عن غياب أي استراتيجية واضحة للتعامل مع التقانات الجديدة ، إضافة إلى سطحية النقد الموسيقي المتبادل بين أرجاء العالم العربي ، وغياب الوسيط الثقافي بين المنتج الغنائي والمستمع ، ناهيك عن الافتقاد إلى استراتيجية واضحة للتعامل مع التقانات الجديدة ، و عدم وجود جهة مرجعية لإدارة التكامل الموسيقي العربي. ، و غياب التوثيق الرقمي الممنهج للتراث الموسيقي العربي ، في تسجيلات معيارية ، وضعف البحث العلمي الموسيقي العربي المستند إلى تكنولوجيا المعلومات ، وإنشغال الدراسات العلمية بالجمع والتوثيق الورقي ، والتركيز على تقديس الماضي ، والإغراق في الجدل ، حول ثنائية الأصالة والمعاصرة ، أو ثنائية الغرب والشرق ، أو الاهتمام بالغرب ونتاجه ، ما كرس تخلف الفكر الموسيقي العربي عن سياق الفكر العربي الحضاري.
- الفرص المتاحة أمامه ، في ظل التطور الإعلامي والتكنولوجي ، من خلال بروز الفضائيات العربية العابرة للجنسيات ، والتقانات الجديدة ، وشبكات الاتصال ، ومواقع التواصل الاجتماعي ، وشركات الإنتاج العابرة للجنسيات العربية ، وكون العالم العربي سوقاً كبيرة للإنتاج الموسيقي العربي الواسع ، بمفهومه المحقق لعناصر التقارب بين اللهجات الموسيقية العربية.
- التهديدات التي يتعرض لها ، بسبب انكسار الفكر القومي العربي ، و الخلافات السياسية العربية ، و اشتداد تأثيرات العوالم الموسيقية الأخرى المتوفرة بشكل كبير على شبكة الإنترنت ، إضافة إلى غياب الموسيقى الاصيلة عن المنافذ الإعلامية ، وسيطرة القطاع الخاص الباحث عن الربح ، وابتعاد الأجيال الشابة عن معرفة عناصر تكون الأغنية العربية الكلاسيكية ، وكذلك عدم توفر الاتصال بشبكة الإنترنت أمام الجميع ، مما قد يؤدي إلى طبقية الاستماع إلى الموسيقى العربية.
ومن أجل تلمس الطريق الجديد ، فإننا نرى ضرورة القيام بعملية نمذجةٍ لمسار التكامل العربي على مر العصور ، نقدم فيما يلي مدخلاً لها ، بغية استكشاف فرص إعادة إنتاجه.
ثالثاً : النموذج الإطاري للتكامل الموسيقي العربي في عصر المعلومات
اتخذت مسيرة التكامل الموسيقي العربي على مر العصور نموذجاً واحداً ، تجسد في تشكل مركز إبداعي أساسي في حاضرة من حواضر العرب ، تبعاً لعوامل سياسية أو اقتصادية ، تمتد عادة لجيل كامل على الأقل ، يصبح خلالها ذلك المركز المرجل الذي يستقطب ويصهر المواهب الموسيقية العربية ، سواء كانت موجودة فيه ، أو وافدة إليه ، وعناصر اللغة الموسيقية القديمة ، لينتج إبداعاً جديداً ، مستنداً في ذلك إلى التنافس الإيجابي الذي ينشأ بين المبدعين المقيمين في المركز ، والتكامل بين أعمالهم ، في إطار جدلية الإبداع والاستلهام ، بما يؤمن صياغة لغة موسيقية جديدة ، فينشرها بقوته الاقتصادية ، فيما تصبح الحواضر العربية الأخرى ، سوقاً لإنتاج ذلك المركز ، مع امتدادات إبداعية فيها ، تنهل من نتاج الإبداع الموسيقي في المركز الرئيسي وتقلده ، مع فارق زمني ، يتفاوت حسب قربها أو بعدها عنه.
وعندما تنتهي العوامل التي شكلت المركز ، تنتقل عناصره الإبداعية الأساسية وفق صورتها النهائية ، من خلال مبدعين أو دارسين في ذلك المركز ، إلى حاضرة عربية أخرى ، يتشكل فيها مركز إبداعي جديد ، تبعاً لعناصر القوة السياسية أو الاقتصادية فينطلق ابتداء من خلاصة التجربة الإبداعية السابقة في إنتاج إبداعاته الموسيقية الجديدة ، بما يحقق استمرارية التكامل الموسيقي العربي عبر العصور ، وبما يجعل الناتج الموسيقي العربي في كل زمان ومكان ، يختزل حقب التاريخ الموسيقي العربي مجتمعة ، مضيفاً إليها الجديد المولَّد فيه . بالمقابل ، يكتفي المركز القديم بالعيش على ذاكرة أمجاده ، وتلقي إبداعات المركز الجديد وتقليدها .
ولما كانت استجابة الجمهور العربي عابرة للحدود السياسية ، بسبب قوة النشر ، وسهولة تسلل الموسيقى العربية إلى وجدانه ، فقد حافظت الموسيقى العربية الكلاسيكية على وحدتها ، متجاوزة الحدود السياسية والخلافات الطارئة منها والمزمنة.
رابعاً : محرك التكامل الموسيقي العربي: مركز إبداعي افتراضي
إننا نقترح في هذه الورقة المرجعية، أن نعيد إنتاج الظروف المشكِلة للمراكز الموسيقية الإبداعية ، ولكن على مستوى العالم العربي هذه المرة ، مستفيدين من تقنيات المعلومات والاتصالات ، بغية تحريض تشكل مركزٍ إبداعي افتراضي ، نؤمن له فضاءه المعلوماتي العابر للحدود السياسية ، والقادر على تخزين خلاصة الإبداع الموسيقي العربي ، كما وصلنا مع نهاية القرن العشرين ، وعلى تحليل ذلك الإبداع ، موسيقياً ، وتاريخياً ، من خلال نظام معلوماتي خاص بالموسيقى العربية ، على أن يسمح هذا المركز ، عبر منصة معلوماتية واتصالاتية خاصة به ، ومفتوحة للجميع ، بتشكّل جدلية جديدة للإبداع والاستلهام والتفاعل والتطوير والتنافس ، بين المراكز التقليدية للإبداع الموسيقي هذه المرة ، قادرة على تجاوز المسافات التي تفصل بين المبدعين العرب في مختلف البلدان العربية ، وعلى صياغة مشاريع مشتركة ، بما يؤدي إلى توليد لغة موسيقية عربية جديدة ، تستند إلى عناصر اللغة الموسيقية التي تشكلت خلال القرن العشرين ، وتجسد عناصر الهوية القومية العربية ، وتعبر عن مشاعر وعواطف وهموم الإنسان العربي المعاصر المستجدة ، بعد أن سيطرت العواطف المركبة ، كالمعاناة ، والقلق ، والإحباط ، والشعور بالوحدة ، إلى جانب العواطف البسيطة ، كالفرح ، و الحزن و الألم.
خامساً : خاتمة
إننا نرى ضرورة وضع استراتيجية تكفل تحقيق أهداف التكامل الموسيقي العربي ، وتؤمن إطلاق المركز الافتراضي المقترح ، وتوفر له العناصر الأساسية الداعمة لأي إبداع ، كالإنتاج والرعاية والتسويق والنشر والتحليل العلمي ، يشارك في تنفيذها جميع الشركاء ، من قواد الرأي العام ، و المغنين ، والملحنين ، والكتاب ، ومؤلفي الموسيقى ، والإعلاميين ، و كتّاب ومنتجي التلفزيون ، و إدارات الفضائيات ، وشركات الإنتاج الغنائي ، وشركات البرمجة العربية ، وإدارات التعليم وجمعيات المجتمع المدني المهتمة وأن نسعى لكي يتكون جمهور هذا المركز من الجمهور العربي بكامله ، في المستوى الأول ، فيما يكون لكل مركز إبداعي تقليدي جمهوره الخاص المحلي ، كما نرى ضرورة أن تكون الفضائيات حاملاً لنتاج هذا المركز الإبداعي الجديد.
[1] تتجاوز هذه الدراسة الغناء الفولكلوري والريفي لطبيعته المحلية والبسيطة ، رغم امتداده الجغرافي أحياناً ، دون استبعاد كونه مصدراً للإلهام في الكثير من الإبداعات المدينية المتاخمة، مستندين في ذلك التقسيم ، إلى أن التواصل والتكامل بين الحواضر العربية ، كان دائماً لإنتاج عناصر موسيقية جديدة تعبر عن عصرها ومتغيراته.