ارتبط التراث الغنائي العربي باللغة العربية والشعر العربي ، مما ميزه عن الأشكال المتنوعة للتراث في مناطق الشرق الأخرى ، كما ارتبط في منظوره العام بالفنون العربية الأخرى ، محققاً وحدة واضحة في العناصر الجمالية والإبداعية ،من جهة ،وفي المضامين والرؤى ،من جهة أخرى،وكان أن تطور هذا التراث بأشكال متعددة تعكس التنوع والثراء بين جنبات الوطن العربي .
كان حفظ التراث الغنائي موكولاً إلى أفئدة المطربين والمنشدين ،يتناقلونه عبر الحناجر من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد ،في مواقع الصنعة الموسيقية ،ولم تعتمد نظم التدوين الموسيقي نظراً لقصورها وخشية المطربين والملحنين العرب أن تغيَّب جماليات الألحان العربية عند تدوينها .
ثم ساهمت الأسطوانة ، التي عرفها العالم العربي في بدايات القرن العشرين ، في حفظ ذلك التراث ، حيث اتجهت الجهود منذ البداية إلى توثيق ذاكرة الغناء كما وصلت إلى مطربي ذلك العصر ، ثم جاء دور الإذاعة في بداياتها ، لتتابع عملية التوثيق في اتجاهين : التوثيق بالتسجيل ، و التوثيق بالتدوين ، بعد أن ساهمت كثرة عدد العازفين ، والتعرف الأوضح على أساليب التدوين المتعارف عليها لدى الأجانب ، في اعماد التدوين لتسجيل الأعمال الغنائية.
وكان لتفاعل الشعراء والملحنين والمغنين الإيجابي مع تطورات العصر وتقنياته الجديدة أثر هام في إنتاج إبداع غنائي جديد ، تأثر بالأسطوانة والإذاعة والسينما ، فاستفاد منها دون أن يحقق غربة مع سمات الموسيقى العربية الأصيلة ومزاياها لتي تطورت عبر مئات السنين ،بل أضاف إليها عنصر التعبير عن الكلمة، ليحقق التوازي بين التطريب والتعبير في العمل الغنائي الواحد.
جاء هذا الشكل الإيجابي للتطور في الإبداع بسبب استناد المبدعين في بناء وصقل موهبتهم إلى رصيد التراث الموسيقي العربي الأصيل ، الذي وثقته الأسطوانة والإذاعة والسينما وأعمال التدوين وذاكرة المغنين.
في بدايات التلفزيون حاول الموسيقيون توثيق الأعمال الغنائية بالصوت والصورة ، ثم بدأت تظهر برامج موسيقية تعنى بالتحليل الموسيقي ، وتقدم الأعمال الغنائية ، وتطرحها على المشاهد في سعي لرفع الذوق العام ، كيلا تسيطر الأعمال ضعيفة المستوى الموسيقي ، وإن كانت هذه الجهود بقيت فردية ، لاتلقى ما تحتاجه من تشجيع.
وجاء عصر الفضائيات وتكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال والسرعة، واتجه العمل الموسيقي والغنائي إلى التأثر بأنماط غنائية وافدة ، لا ترتبط بتراثنا الغنائي ، إلا في أساليب شكلانية ، مفضلة توظيف الصورة في أشكال مستوردة ، كما غاب التراث عن الشاشة الصغيرة إلا فيما ندر ، وكان لابد من التفكير في توثيق التراث الغنائي العربي القديم والحديث باستدخدام تكنولوجيا المعلومات ، والسعي لتحليله بأساليب جديدة ، ومن ثم السعي لنشر التراث ذاته ، كما هو ، أو لنشره مع التحليل الموسيقي ، في برامج إذاعية وتلفزيونية خاصة ، رأينا بداياتها في بعض البرامج المتميزة التي لا تزال أيضاً تنحصر في إطار الجهود الفردية ، وتفتقد التشجيع ، فيما يُنظر إليها أحياناً من قبل المسؤولين عن القنوات الإذاعية والتلفزيونية ، على أنها أعلى من مستوى المشاهد أو المستمع ، وهكذا غاب التراث عن الشاشات العربية أو كاد.
نحن اليوم مطالبون ، وقد أصبح التراث الغنائي العربي متاحاً للجميع عبر منصة يوتيوب ،وهو ما يحسب لها ، بأن نسعى لاستخدام تكنولوجيا المعلومات، لحفظ تسجيلات ذات مرجعية لهذا التراث ، نظراً لتعدد النسخ المتوفرة على الشبكة ، والتي يفتقد أغلبها إلى الجودة بالحد الأدنى ، أولاً ، و لتشجيع إعادة تقديم التراث برؤى جديدة ، ثانياً ، و لبناء بنية منطقية متماسكة للموسيقى العربية ،تحمي المبدع والمتلقي العربي من الشك في قدرتها على الاستمرار ، ثالثاً ، ، إضافة إلى دعوة الموسيقيين العرب إلى تبني تكنولوجيا المعلومات ، في التوثيق والتحليل ، للتوصل إلى قوننة الإبداع الموسيقي العربي، و من ثم عرض ذلك التراث الموثق للأجيال المعاصرة ، كأعمال متكاملة أو كمسامع أو مشاهد ، ضمن أطر تحليلية لشرح العناصر الجمالية والإبداعية فيها ، على طريق تحريض إبداع جديد ، يستلهم الماضي ويفتح آفاقه على العالم.