أعتقد أن الغناء العربي في أزمة حقيقية ، وأن هذا الواقع يدفعنا لكي نحلله ونتلمس أساليب تغييره. وفي هذا الإطار فإنني أعتقد أنه لابد لتحليل واقع الأغنية العربية من الإنطلاق من فكرة أساسية وهي أن مسؤولية الإبداع لاتقع على عاتق المبدع فقط ، فالإبداع عملية تكاملية ، المبدع فيها أساس لابد منه ، ولكن هناك عناصر أخرى تؤثر في الإبداع . وفقط عبر توازن جميع العناصر ، يكون الناتج مقبولاً.
إلى جانب المبدع إذاً من شاعر أو ملحن أو مغن ، هناك عناصر أخرى مؤثرة ، كالإنتاج ووسيلة النشر والجمهور والنقد والتنافس والصورة ، إضافة إلى المرحلة الزمنية والوضع الإقتصادي والسياسي. والغريب أن جميع هذه العناصر ، على الغالب ، كانت تتعاون لدعم الإبداع ، حتى ستينات القرن الماضي ، عندما بدأ التغير ، وهو تغير لم يكن سريعاً في البداية ، ثم تسارع منذ الثمانينات. إذاً أعتقد إن أردنا التحليل أنه يجب أن نقارن جميع هذه العناصر ماقبل الستينات ومابعدها!
حتى الستينات كان الإبداع الغنائي يقوم على عدد غير كبير من الفنانين من شعراء وملحنين ومغنين ، كان الفن أساس حياتهم منذ بدايتها ، تربوا في رحم الغناء الأصيل ، وتفاعلوا مع متغيرات القرن العشرين ، من الأسطوانة أولاً ، إلى السينما والإذاعة ، فقدموا لكل منها مايلائمه.
كانت أغنية الأسطوانة اتي تسمع في البيت هادئة رومنسية ، وكانت أغنية الإذاعة طويلة معبرة مع أسلوب إلقائي ، وكانت أغنية السينما تدخل في الحدث الدرامي فتعبر عنه ، كل هذا في تنافس فني شريف ، حققه موقع إنتاجي محدد في القاهرة ، ثم في بيروت.
وهنا كان شكل الإنتاج متلائماً مع الحاجة للأغنية. كانت أعمالهم قليلة العدد نسبياً ، ولكنها كانت تحقق التواصل مع الجمهور ، وأدل على ذلك أن منلوج إن كنت أسامح لأم كلثوم ، بيع منه عام 1928 ربع مليون أسطوانة ، وعندما قدم عبد الوهاب منلوج أهون عليك ، كرد على هذا المنلوج الرومنسي ، لم يحقق نفس المبيعات مع أنه عمل متميز ، ولكنه حتى بالمعايير النقدية قد يقل عن منلوج إن كنت أسامح..فيما نفذت أسطوانات منلوج دخلت مرة ف جنينة لأسمهان ، فلم يستطع العقاد أن يجد أي نسخة منه في الأسواق !
كان النقد الموسيقي متميزاً في الصحف والمجلات ، وكان الجمهور يثق بنقاده ، وأدل على ذلك بما رواه الأستاذ عبد الوهاب ، عندما زار حلب في بداية الثلاثينات ، إذ أنه في حفلته الأولى ، لم يحضر إلا بعض الأشخاص العارفين بالغناء ، وعندما قبلوه ، سمحوا للجمهور بحضور الحفلات التالية..
إذاً الفنانون استطاعوا التفاعل مع العناصر المؤثرة في الإبداع ، وأنتجوا صيغة متوازنة. اليوم دخلت عناصر جديدة ، من يقومون بالعملية الإبداعية ، في غالبهم لم يدرسوا الأصالة ، وإنما انطلقوا من معارف محدودة في قواعد اللغة الموسيقية العربية ، كما أن الإنتاج تحول من السينما والإذاعة إلى صالات الطعام وشركات الكاسيت ، وأصبح الطلب كبيراً ، بعد دخول التلفزيونات المتعددة السوق ، فلم يعد المبدع يلتفت للتنافس ، ودخلت الصورة الساحة ، ولم يعد بالتالي الدور الأساس للأغنية.
في السابق كان الذوق المسيطر هو ذوق كبير الأسرة ، والأبناء يتبعون ذوقه ، والشباب يبنى ذوقه من خلال ذوق الكبار ، ولكن تغير الشكل الإجتماعي ، وحصول الشباب على درجة من الحرية ، تتيح لهم أن يكوِّنوا سوقاً خاصة بهم ، أصبحت هي الأهم ، وجعلت الإنتاج يتوجه إليها ليبيع. ولكن هؤلاء الشباب كانوا الأكثر تأثراً بضغط الحياة القاسي ، والإحباطات المتعددة ، فبدأوا بالتوجه إلى الغرب ، وأحبوا مغني فرنسا وأمريكا وأنجلترة أولاً ، ثم وُجدت مجموعة من المغنين العرب ، الذين بدأوا بتقليد أغنية الغرب ، وشيئاً فشيئاً أصبحت هذه هي الأغنية المسيطرة ، بسبب سيطرة سوق الشباب ، وتضافر هذا مع دخول الصورة والفيديو كليب ، فأنهى على الغالب دور اللحن والكلمة لصالح الصورة والإيقاع ، الذي يقال إنه ينسي الإنسان إحباطاته اليومية. توافق هذا مع ظهور تقنيات التراكات ، بحيث أمكن غياب الطقس الجماعي للغناء بين الفرقة والمطرب ، ليسجل كل لوحده مت سمح بتزييف الأصوات!!
المشكلة أيضاً تكمن في أننا نخسر الأطفال ، عبر هذه الأغاني المدبلجة للمسلسلات الكرتونية التلفزيونية الموجهة إليهم ، إذ أنها تحمل اللحن المستورد على كلمة عربية مطوعة له ، بأداء يتحكم فيه أناس لاعلاقة لهم بالغناء العربي .. وهذا كله يجعلنا فعلاً نخشى على غنائنا العربي.
طبعاً هناك إيجابيات اليوم، إذ تتعدد مواقع الإنتاج الغنائي ، فبعد حلب في القرن التاسع عشر ، والقاهرة وبيروت حتى منتصف القرن العشرين ، ظهر الإنتاج الغنائي في سورية وفي دول الخليج العربي ، وفي دول المغرب العربي ، وهذا يتيح لنا أن نأمل قليلاً بحصول تنافس فني ، يسمح بتوجهات إيجابية ، مثلما يحصل في الدراما التلفزيونية ، ولكن الأساس هو رفع معايير الجودة المطلوبة، فأغلب الأصوات التي نسمعها تسيطر ليس لديها سوية مقبولة ، رغم أن الأصوات المهمشة عالية المستوى ، ولذا فإنني أعود إلى حادثة عبد الوهاب في حلب وأقول: كان من الممكن حماية الجمهور من الغناء الهابط ، أما اليوم فالفضائيات تدخل البيوت كلها دون استئذان . ولذا فالحل في نظري لايكون إلا بتهميش الغناء الهابط إلى الحدود الدنيا ، و تخصيص مساحة أوسع للأغني الأصيلة ، مع دعم برامج النقد والتحليل الموسيقي للغناء الأصيل والجديد ، لكي يتسلح الجمهور بسوية تذوق عالية تحميه ، إضافة إلى أنه يجب أن أقول لجيل الشباب ، بأن شكل الغناء اليوم ، ذا الطابع الإستهلاكي ، يجعل أن الأغنية لاتعيش أكثر من 3 أشهر ثم تموت ، ولذا فللأسف لن تشارك هذه الفترة في صنع تراث للمستقبل ، كما أن جزءاً كبيراً من ذكريات الشباب لن يكون حاملها الغنائي موجوداً ، عندما تتحول العواطف إلى ذكريات!