أتناول في هذه الدراسة موضوعاً قلما تناوله الباحثون بالدراسة والتحليل وهو الموسيقا في بلاد الشام: تاريخها و دورها والنموذج الذي حكم تطورها على مدى العصور المتعاقبة!
دراستي هذه لها منهج ولها غاية.
المنهج :محاولة وضع نموذج لتطور الموسيقا في بلاد الشام يأخذ بعين الاعتبار مجمل التطورات التي مرت بها هذه المنطقة بشتى صورها الاجتماعية والاقتصادية والوطنية وانعكاس ذلك على تطور المبدع والمتلقي.
أما الغاية فهي:محاولة استقراء النموذج في حال وجوده ،بغية استشفاف المسار المستقبلي مع الأخذ بعين الاعتبار للمتغيرات التي تؤثر في مسار الفن عموماً والموسيقا خصوصاً مما سيساعد على التدخل أحياناً لتصويب المسار حين يتعرض لخلل ما في التوجه.
- لماذا أهملت الدراسات الدور الهام لبلاد الشام على الساحة الموسيقية العربية؟
عندما نستعرض الدراسات المتخصصة في تاريخ الموسيقا العربية ( وأقصد بالموسيقا العربية ، الموسيقا التي ارتبطت بالشعر العربي واللغة العربية وأنتجت لغة موسيقية خاصة، ترتبط بأساليب الموسيقا وتحقق ما اصطلح على تسميته الغناء العربي (نجدها تقسم المراحل التي عاشتها تلك الموسيقا إلى ثلاث مراحل زاهية:
- المرحلة الأولى وهي التي بدأت قبيل ظهور الإسلام مرتبطة بنمو الشعر العربي ،واستمرت حتى بداية ضعف الدولة العباسية في القرن العاشر الميلادي.
- المرحلة الثانية وهي التي بدأت في الأندلس مع انتقال زرياب إليها واستمرت حتى خروج العرب منها في عام 1492 م.
- المرحلة الثالثة وهي التي بدأت متزامنة مع النهضة العربية الحديثة في نهايات القرن التاسع عشر وتمركزت في مصر تحديداً .
وهنا قد نتساءل..كيف بدأت الفترة الأولى.؟ وما هي الأرضية التي استندت إليها؟ هل يكفي الشعر لبناء نهضة غنائية اللحن فيها له نصف الأهمية على الأقل ؟ والسؤال نفسه يمكن طرحه بالنسبة للمرحلة الثالثة..ما هي الأرضية التي استندت إليها الموسيقا العربية حين بدأت مرحلة جديدة زاهية في مصر ، بعد طول توقف؟ سنجد أن الإجابات ستقودنا دائماً إلى موقع لم يوثق له التاريخ الموسيقي كثيراً إلا عبر شذرات متناثرة هنا وهناك..هذا الموقع هو بلاد الشام تحديداً .
الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها أم كلثوم وعصر من الغناء تقول: قبل عبده الحمولي كان غناء مصر سورياً وتركياً أما قسطندي رزق في كتابه عبده الحمولي ونصرة الموسيقا الشرقية فيقول : عبده الحمولي أزال الجفوة (اللهجة) الحلبية من غناء مصر، مستنداً إلى ما كتبه كامل في كتابه “الموسيقي الشرقي) “بنفس المعنى( أليس في هذا إشارة إلى الفترة الزمنية التي كان الغناء السوري فيها معروفاً ومؤثراً..أي القرن التاسع عشر..وما قبل ..
السؤال الآن : هل حققت بلاد الشام مرحلة زاهية للموسيقا العربية خاصة بها ؟ ومتى كان ذلك؟
يجب أولاً أن نحدد مستلزمات حدوث مرحلة حضارية جديدة، على الأقل في المرحلة التي سبقت مرحلة التواصل الآني بين الدول، والتي أصبحت من المتداولة الآن.
لقد كانت الحضارة في تلك الأيام كالبذور التي تنموا وتثمر في أرض مهيئة وبيئة صالحة،ثم تتغير الظروف فتنتقل البذور حاملة في خلاياها، عناصر التطور الذي وصلت إليه إلى بلاد أخرى ، هيئتها الأقدار لتكون أكثر ملاءمة للتطور ، فتزاوج بين ما وصلها وبين عناصر وليدة فيها، بعد أن تكون الأرض الأولى قد فقدت من عناصر قابليتها لاحتضان التطور ، بفعل عوامل معقدة تختلف من زمن لآخر ومن أرض لأخرى.
العنصر الأساس على كل حال ، كان يتمثل في انتقال عناصر حضارية إلى أرض مهيئة..فمن أين انتقلت العناصر الحضارية إلى الحجاز مع بدء الفترة الحضارية الموسيقية الأولى ، التي شهدت من ثم انتقال نفس العناصر إلى بغداد مع نشوء الدولة العباسية..؟ ومن أين أتت العناصر التي انتقلت إلى أرض الكنانة ،لتحرض النهضة الغنائية فيها؟
إذا كان التاريخ قد حفظ لزرياب نفس الدور بالنسبة للأندلس ، عبر رحلته إليها حاملاً معارف الشرق الموسيقية ،فمن هم الأشخاص الذين حملوا العناصر الحضارية إلى المواقع الجديدة ?
يورد كتاب الأغاني أن بلاد الشام غذت منطقة الحجاز بالعناصر الموسيقية ، وذلك عبر رحلات قام بها مغنو المدينة ومكة ومنهم ابن مسجح وابن محرز إليها..كما وثقت بعض الكتب التي ذكرتُ قبل قليل أن بلاد الشام نفسها، غذت أرض مصر بالعناصر الموسيقية اللازمة ، عبر رحلات فنانيها ، الذين اجتذبتهم البيئة المتفتحة للفن هناك ، وكان منهم شاكر أفندي الحلبي وأحمد أبو خليل القباني الدمشقي وآخرون كجميل عويس وعثمان الموصلي ،وانطون وسامي الشوا وكميل شمبير ،وكذلك رحلات التعلم والإطلاع والعرض التي نفذها فنانون من مصر، كسلامة حجازي وعبده الحمولي وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وآخرون ، بغية الإطلاع بأنفسهم على عناصر اللغة الموسيقية العربية في بلاد الشام.
لقد كانت بلاد الشام على الدوام الموقع الذي اختزن غناء العرب خارج إطار الفترات الحضارية المذكورة ..تختزن وتفاعل وتطور ثم تنتقل العناصر الجديدة إلى مواقع أخرى سرعان ما تعود إليها لتختزنها من جديد وتفاعلها وتطورها..هل بدأنا الآن نتلمس بوادر عناصر النموذج الذي نسعى إليه.؟ ربما.. لكن هناك نقاطاً لابد من توضيحها كيلا يظن أنني أتعامل مع الموضوع برغبة إثبات أهمية خاصة لدور لم يكن كذلك في الحقيقة .. لنعرض إذاً لما يلي:
- يمكن تلخيص مسببات التطور الموسيقي عموماً في العناصر التالية:
- الاختزان لمجمل ما هو معروف في اللحظة. يتضمن الاختزان التعلم والتوثيق والتواصل مع مناطق الإبداع الأخرى.
- وجود سوق رائجة للغناء تطلب الإبداع الحقيقي وتشجعه.
- وجود فنانين مجربين عندهم نزعة التطور استناداً إلى أرضية الاختزان السابقة.
كانت هذه العناصر متوفرة في بلاد الشام التي تمتعت بموقع جغرافي مهم يقع على تقاطع خطوط المواصلات وطرق سير القوافل بين مختلف أصقاع الأرض بحيث نقلت تلك القوافل، التي يجب أن ننظر إليها على أنها مدن متحركة تتمثل فيها كل الفعاليات الحياتية ومنها الموسيقا ، وعلى مدد زمنية طويلة ، فنون المواقع التي كانت تقدم منها إلى بلاد، حيث كانت تختزن الألحان الناقلة لها ، وتضم إلى عناصر لغتها الموسيقية .
لقد حقق الموقع التجاري أيضاً نشوء قدرة مالية قادرة على تنشيط الغناء وتحقيق سوق رائجة له، أما المبدعون المجربون فلا شك أن عددهم كان كبيراً ولعل أبا خليل القباني هو أحد أولئك المبدعين الذين حالفهم الحظ ،لأن رحلته إلى مصر حرضت توثيق دوره على عكس عشرات مجهولين ، كانت لهم صفات الإبداع ولم يوثقهم التاريخ في فترة كان تأريخ الموسيقا آخر ما يعني المؤرخين.
لعل من الجدير بالذكر أن التاريخ حفظ لأبي خليل القباني دوره الرائد في المسرح الغنائي ، كملحن مبدع ، ومعلم قدير لأصول الموسيقا العربية ورقص السماح .
- كان التوثيق التاريخي يرتبط عموماً بالمواقع ذات القوة السياسية مما ساعد على توثيق فترات النهضة الغنائية العربية المذكورة آنفاً دون أن يوثق للفترة التي سميت عصر الانحطاط ،والتي لم تعرض الدراسات الموسيقية له.
لعل انحطاط تلك الفترة كان انحطاطاً سياسياً سببه تفرق الدولة الواحدة إلى دويلات مما ساعد على ندرة التوثيق التاريخي ، دون أن يعني ذلك غياب الإبداع الموسيقي ، وخاصة في بلاد الشام ، التي كانت تعيش عصراً ذهبياً تجارياً واقتصادياً كما ذكرت آنفاً ، مما خلق المناخ لسوق غناء دنيوي رائجة في الفترة منذ القرن الحادي عشر وحتى القرن التاسع عشر ، كما أن ظهور مدارس التصوف واستخدامها للغناء ضمن طقوسها، قد ساعد على ظهور سوق رائجة للغناء الديني ، استندت إلى ألحان الغناء الدنيوي مع نظم جديد ملائم لها ، مما نشط الفن الموسيقي أيضاً في نفس الفترة . إلا أن تغير الأحوال ، وافتتاح قناة السويس ، وتحول طرق التجارة عن المنطقة ، أنهى تلك الظروف المنشطة لتطور الغناء ، وكان لابد من انتقال مركز الإشعاع إلى منطقة أخرى ، مهيئة لمتابعة مسيرة التطور.
لقد كانت الظروف مهيئة لولادة واستقرار نهضة فنية موسيقية في بلاد الشام في العصر الوسيط ولكن الدراسات الموسيقية أهملتها.
- مراحل تطور الموسيقا في بلاد الشام / 11 مرحلة:
أولاً: مرحلة الحضارات العربية القديمة:
لا شك في أن بلاد الشام كانت من أهم مواقع التطور الموسيقي الإنساني ، تشهد على ذلك اللويحة الطينية التي اكتشفت على بعد عدة كيلومترات من اللاذقية السورية ،وأعني هنا لويحة أوغاريت التي اكتشفت في خمسينات القرن العشرين ، والتي حفظت لنا أقدم لحن مدون في التاريخ ، وعرفتنا أن السلم السباعي للموسيقا ، وهو المعمول به حتى اليوم في أنحاء العالم، كان قد عرف أول ما عرف في هذه المنطقة ،وليس كما كان الرأي السائد والقائل بأن الحضارة اليونانية هي التي ابتدعته استناداً إلى تدوينات موسيقية يونانية اعتمدته. كانت تلك التدوينات أحدث من لويحة أوغاريت ب 500 عام،مما حقق أسبقية أوغاريت في هذا المضمار.
النقطة الهامة هنا أن من يتوصل للتفكير بتوثيق الموسيقا لابد أن يكون قد حقق مستوى راقياً في الموسيقا قبل ذلك،فقد علمنا التاريخ أن التوثيق الموسيقي يكون بعد مراحل عديدة يكون الإبداع الموسيقي التطبيقي قد قطعها.
ثانياً: مرحلة ما قبل الإسلام:
حفظت هذه المرحلة موسيقا الحضارات القديمة،كما حفظت الموسيقا البيزنطية .أرّخ كتاب الأغاني أن المغنين كانوا يأتون إلى الشام للتعرف على ألحانها.
ثالثاً: مرحلة التطور الموسيقي في الحجاز والدولتين الأموية والعباسيية :
انحصر التاريخ الموسيقي في توثيق مواقع السلطة السياسية وكان ذلك أساساً في كتاب الموسيقا الكبير للفارابي وكتاب الأغاني للأصفهاني ونذكر هنا أنهما كتبا في حلب وفي فترة لاحقة، وقد يعكس هذا انتقال الأهمية الموسيقية إلى بلاد الشام.تميزت هذه المرحلة بالتواصل مع مواقع الإبداع عبر الخطوط التجارية واختزان الناتج الموسيقي المتمثل في القصيدة العربية الملحنة، وتميزت الفترة الأموية بانتقال مغني المدينة ومكة إلى دمشق عاصمة الخلافة مما ساعد على انتقال أعمالهم واختزانها فيها وفي بلاد الشام عموماً .
رابعاً: الفترة الأندلسية وما قبل العثمانية:
بداية تكون المدرسة الشامية في الموسيقا العربية تاريخياً .تميزت بتطور المكانة التجارية بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.قال ابن الشحنة: كان يباع في أسواق حلب في يوم ما كان يباع في أسواق القاهرة في شهر .
اختزنت بلاد الشام في هذه الفترة:
- الألحان الشعبية المحلية والوافدة ذات المساحة الصوتية المحدودة.
- القصيدة العربية التي نمت في الفترة الذهبية الأولى للموسيقا العربية.
- الموشحات والأزجال الأندلسية، التي كانت تصلها مع قوافل الحج البرية والرحلات التجارية الوافدة من الأندلس.
- الموسيقا البيزنطية القديمة.
- الموال الآتي من البادية.
هل من الممكن أن تختزن هذه الأنماط المتعددة دون أن تتفاعل؟ ..الموال البسيط سينتقل إلى موال تداخله الصنعة الموجودة في غناء القصيدة والموشح الجماعي الأندلسي ستداخله أقسام يقوم بها مطرب فردي كتفاعل للقصيدة العربية الفردية مع الموشح الأندلسي الجماعي ، كما أن القصيدة الملحنة ستتأثر بأسلوب تلحين الموشحات.
لقد كان التفاعل الأهم هنا تحقيق تمازج قوالب غناء مختلفة المنشأ ومختزنة لكي تتفاعل وتنتج نواتج جديدة متطورة، تحرضه سوق دنيوية نشطة للغناء، تطلب الجديد والأصيل لإحياء الأفراح في بيوت الأمراء والتجار.
نذكر هنا أن هذه الفترة شهدت بداية ظهور الموشح الصوفي الأندلسي الذي نقله الشيخ محي الدين بن عربي عندما استقر في دمشق ،مما سيساعد تطوره الواضح في المراحل اللاحقة.
خامساً: الفترة العثمانية الأولى: حتى عام 1760 .
تميزت هذه الفترة بتأكيد وجود الغناء الديني عبر كثرة التكايا والزوايا مما تسبب في ظهور مجالين لتوظيف الغناء: الدنيوي في الأفراح لدى الولاة والتجار والثاني ديني في التكايا والزوايا التي اهتمت بالصنعة الموسيقية وشكلت مواقع حفظ لها..ولكن التوظيف الديني لم يكن يسمح إلا بتوظيف الموشحات فيه،حيث يعارضها شعراء التصوف كبناء جديد على اللحن المتداول دنيوياً متبعين في ذلك خطا ابن عربي والموشح الأندلسي المكفر ، الذي أبيح فيه استخدام ألحان دنيوية لغايات التصوف.
تميزت الفترة بظهور الشيخ عبد الغني النابلسي الذي كان شاعراً صوفياً متميزاً اقترب من الموسيقا إلى حدود لم يسبقه إليها أحد،نظم الإنشاد في الجامع الأموي ،وأرسى قواعد معارضة الموشحات الدنيوية نظماً كما بدأ اتجاهاً جديداً وهو النظم على قد الألحان الشعبية (القدود) وهو ما سيتابعه الشيخ عمر اليافي ثم سيتابعه بوضوح الشيخ أمين الجندي.
وهكذا.. الألحان تأتي عبر الاختزان القديم أو التلحين الجديد،والتصوف يوظفها لغاياته عبر نظم جديد يلائم اللحن.حققت هذه الفترة بداية التفاعل مع تركيا ، التي كانت قد تأثرت هي بالموسيقا الأندلسية والبيزنطية لتتأثر الآن بالغناء العربي.
سادساً: الفترة العثمانية الثانية حتى عام 1830 .
تميزت الفترة بظهور أول توثيق لشاعر متخصص في مجال الموسيقا(أمين الجندي)وكذلك ظهور أول توثيق لملحن متخصص وهو)البشنك(مصطفى الحريري الرفاعي. أمين الجندي ساهم في دخول الألحان الشعبية مجال الغناء الديني عبر النظم على قدها باستخدام اللغة الفصحى مما يعكس شعوراً عروبياً واضحاً لدى أمين الجندي يكتشفه من يتابع سيرة حياته ، أما البشنك فقد نقلت لنا الكتب جمال ألحانه وروعة صوته.
ظهرت في تلك الفترة أساليب تجميع الألحان المختزنة والمغناة في التصوف ضمن فواصل مرتبة بغاية حفظها وتوثيقها (فاصل أسق العطاش) وذلك بعد أن أضحى اختزانها دون ترتيب عملية صعبة جداً كما ظهر لأول مرة توضيح لأسلوب انتقال العلم الموسيقي من الأستاذ إلى مجموعة تلاميذه، كما تم تطوير رقص السماح.
سابعاً: الفترة المصرية والفترة العثمانية الثالثة حتى عام 1880:
تميزت هذه الفترة ببدء التفاعل مع مصر عبر حملة ابراهيم باشا وبقاؤه في بلاد الشام عشر سنوات ،تمثل التفاعل في سفر شاكر أفندي الحلبي إلى مصر حاملاً في جعبته الألحان الشعبية والقدود والموشحات ، حيث سارت في مصر وبدأت تؤسس للنهضة الموسيقية هناك ضمن البيئة المنفتحة التي أرسى دعائمها محمد علي.
وثقت هذه المرحلة لأحد أهم مغني بلاد الشام أحمد عقيل الذي عرف بحفظه لآلاف الموشحات (حادثته المشهورة مع تلميذه الذي درس على يديه عشرين سنة وعندما حاول أن يحتل مكانه بعد أن مل من انتظار رحيل أستاذه الذي عاش قرابة تسعين عاماً غنى أحمد عقيل سهرة كاملة من الموشحات التي لم يستطع فيها التلميذ المتنطح لأخذ مكان أستاذه أن يغني حرفاً واحداً لأنه كان يجهل كل تلك الموشحات التي غناها أستاذه).
ظهر في تلك الفترة أبو خليل القباني الذي درس الموسيقا في دمشق ، ثم على يد أحمد عقيل في حلب ،حتى أصبح موسيقياً عالماً بأصول الصنعة ورقص السماح، ثم حاول توظيف الغناء في موقع ثالث مختلف عن التكايا والأفراح وهو المسرح.
ظهر في تلك الفترة أيضاً بدايات توثيق الموشحات كتابة مع كتاب صالح الجذبة في توثيق الفواصل الغنائية بمكوناتها من موشحات وقصائد وقدود ورقص السماح المرافق لها، كما ظهرت بدايات التعليم خارج الأساليب القديمة: صالح الجذبة يسافر من حلب لتعليم فرقة أبي خليل المسرحية رقص السماح ،وأحمد عقيل يعلم زوجة قنصل إيطاليا الغناء، كما بدأت تظهر في الأفق بدايات التعامل مع الغرب المهتم تجارياً ببلاد الشام الآلية التركية.
هذه الفترة ستنهي سيادة مدرسة بلاد الشام الغنائية ، التي تميزت بتجانس مخزونها الموسيقي وبتعامل الملحنين مع مختلف الأشكال الموسيقية )لاحظ أن أبا خليل القباني لحن الموشح والأغنية الشعبية والقصيدة المسرحية المعبرة)كما أرخت لبداية تحول مركز الإشعاع الموسيقي إلى مصر بعد افتتاح قناة السويس ، و ستكون رحلة أبي خليل إلى مصر بعد حرق مسرحه من أهم محرضات هذا الواقع الجديد . إنها في رأيي الرحلة التي تشابه رحلة زرياب إلى الأندلس .لم يكن زرياب مطرباً لا تؤثر رحلته إلا في عرض صوته ،بل كان عالماً بالموسيقا، وكذلك كان أبو خليل ،ولذا ستكون لرحلته التي استمرت سبعة عشر عاماً الأهمية الكبرى ، رغم أن التاريخ أنصفه مسرحياً وأهمله موسيقياً وهذا موضوع آخر.
ثامناً: مرحلة التأثير الواضح في تحريض النهضة الغنائية في مصر .
تتميز هذه المرحلة بتجانس في بلاد الشام مع ناتج المدرسة المصرية الناشئة ويمكن تقسيمها إلى فترتين :
1- 1880 – 1900
وتتميز هذه المرحلة الأولى بسفر أبي خليل القباني إلى مصر مع فرقة مسرحية غنائية كاملة)تتألف من منشدين وراقصي سماح وعازفين( كما سافر إلى مصر آخرون كأنطون الشوا الذي عرف مصر على آلة الكمان لأول مرة، كما شهدت هذه الفترة أيضاً بداية قدوم المغنين المصريين إلى سورية . سيحرض أبو خليل في مصر تلحين القصائد التعبيرية ضمن المسرح الغنائي ، كما يؤكد تلميذه كامل الخلعي في كتابه (الموسيقا الشرقية). ظهر في هذه الفترة تأثر بالموسيقا التركية الآلية التي كانت قد تأثرت بالموسيقا الأندلسية.
2- 1900 – 1920
نلحظ في هذه الفترة استمرار سفر الفنانين السوريين إلى مصر كجميل عويس وكميل شميير وعثمان الموصلي)كانت الموصل تاريخياً امتداداً لحلب) ،مع توجههم أيضاً إلى العراق المتفتح على الفن، وذلك عبر رحلة علي الدرويش وعمر البطش إلى هناك.استمرت كذلك الرحلات المعاكسة لفنانين مصريين إلى سورية لعرض فنهم والنهل من منابع المدرسة الشامية القديمة ،كسلامة حجازي الذي أصبحت له زيارات سنوية إلى بيروت ودمشق وحلب ابتداء من عام 1905 وسيد درويش الذي أقام في بلاد الشام لبضع سنوات كانت أساس معرفته الموسيقية التي ستظهر بعدئذ في مصر بعد عودته إليها.
تبع هذا ظهور المسارح والمقاهي التي كانت تقدم الفن السوري والوافد من مصر كموقع جديد لإيصال الغناء.شهدت هذه الفترة تأكيد دور الملحن المتخصص عبر ظهور عمر البطش ، وبداية دور الباحث الموسيقي مع الشيخ علي الدرويش يلاحظ في هذه الفترة أيضاً أن ظاهرة الاختزان مستمرة ،حيث انضمت أدوار وموشحات عبده الحمولي و محمد عثمان وسيد درويش إلى المخزون اللحني الهائل في حلب في تجانس واضح معه ،وسبب ذلك بالطبع يعود إلى أن عناصر اللغة الموسيقية المستعملة في الشام ومصر كانت واحدة تماماً .
تاسعاً: مرحلة الانتداب الفرنسي وانحسار الدور الفاعل لبلاد الشام في النهضة المصرية عبر حرمان بلاد الشام من تقنيات العصر 1920 – 1946:
تميزت هذه المرحلة بظهور الجمعيات والنوادي الموسيقية كموقع جديد لاحتضان الموسيقا ، في حين سيطرت الاسطوانة الوافدة من مصر والحاملة لتيارات التجديد ، ومن ثم ستحقق الإذاعة المصرية(1934) والسينما (1932)انتشاراً واسعاً سيدعو إلى نشوء العديد من الاتجاهات:
- اختزان الغناء المصري الجديد الذي أرسى دعائمه سيد درويش ومحمد القصبجي والسنباطي ومحمد عبد الوهاب إضافة”إلى الألحان الأصيلة لزكريا أحمد (استمرار نموذج اختزان الوافد).
- تقلص الرحلات الفنية من مصر التي كانت تسعى للتعرف على عناصر اللغة الموسيقية في الشام بعد أن أثرت تقنيات العصر في توجه الغناء والموسيقا باتجاهات جديدة .
- خشية الموسيقيين في الشام من سيطرة نجومية الفنانين المصريين.
- ظهور المونولوج السياسي الإنتقادي.
- ظهور توجهات جديدة للموسيقا بتأثير الانتداب الفرنسي الذي نقل الموسيقا الغربية.
- ظهور المعزوفات الموسيقية الخالص،تقدمها فرق النوادي الموسيقية كبيرة العدد (كمعزوفة الصباح التي تعد تاريخياً أول معزوفة موسيقية لا تسير على الأساليب القديمة ،وقد لحنت قبل أن يبدأ عبد الوهاب هذه التوجهات الجديدة ،وسوف نحفظ هذا للملحن السوري (شفيق شبيب).
- بداية تقديم الموشحات ورقص السماح في مدارس البنات كدوحة الأدب في دمشق (1936)
- تصدير العلوم الموسيقية عبر رحلات الشيخ علي درويش لمصر وتونس .
- ظهور العازف المستقل كمحمد عبد الكريم على البزق وعزيز غنام على العود وعمر النقشبندي على العود أيضاً وتوفيق الصباغ على الكمان .
- بدء البث في إذاعة القدس مما سيحقق جذب العديد من الفنانين السوريين إليها.
- نزوح الأصوات من الشام إلى مصر للمشاركة في الأفلام والإذاعة.
هذه المرحلة شهدت التحضيرات عبر مجموعة الاتجاهات هذه للفترة القادمة: الإذاعة التي ستحقق نهضة نوعية جديدة تنشر الاختزان السابق وتفاعله.
عاشراً: مرحلة الإذاعة في سوريا 1947 – 1960
تعتبر هذه المرحلة من أنشط المراحل الحديثة ، فالإذاعة كمنتج للموسيقا قامت بدورها كاملاً في تحريض التلحين الجديد، واختزان القديم وتوثيقه، وتنشيط التدوين وجمع التيارات الموسيقية في بوتقة واحدة بعد أن أصبحت تؤمن موقع التلاقي بين مختلف الآراء الموسيقية وتحقق بالتالي تقاربها، وإن كان هذا متأثراً بفارق الزمن بين افتتاح الإذاعات الأخرى مما سبب أن نضج الألحان الجديدة لم يكن على نار هادئة.
حكم سياسة الإنتاج في الإذاعة ما يلي :
- القيام بما يتطلبه الإرسال من ساعات بث تقدم القديم والجديد.
- محاولة إثبات دورها أمام الإذاعات الأخرى (القاهرة والشرق الأدنى والقدس)
- نشر الناتج الموسيقي المحلي لبلاد الشام عبر توثيق الغناء القديم ،وتشجيع التلحين الجديد الذي يحقق تفاعل المخزون القديم مع المتغيرات الجديدة سورياً كان أم لبنانياً (رحابنة وفيروز) أم فلسطينياً (حليم الرومي)
- احتضان الموسيقين الفلسطينين بعد نكبة فلسطين وتوقف الإذاعات )رياض البندك ، سليم ثروة ،ويحيى السعودي ( والسوريين العائدين )محمد محسن(
- احتضان الأصوات العربية الواعدة (عبد الحليم حافظ )
- تشجيع الفن المحلي الشعبي عبر توثيقه أولا” (مصطفى هلال) والتلحين الجديد فيه (عبد الغني الشيخ وعدنان قريش وعبد الفتاح سكر)
- تشجيع التمازج بين الموسيقى الغربية والشرقية (هشام الشمعة –تيسير عقيل ، رحابنة).
تميزت المرحلة أيضاً بظهور إذاعة حلب منذ نهاية الأربعينات ،وظهور التعليم في المعاهد لأول مرة وتأليف الكتب العلمية الموسيقية( فؤاد رجائي وميشيل الله ويردي ) والنوادي الموسيقية خارج المناطق التقليدية (اللاذقية وحمص وحماه )
من أطرف أشكال الاختزان في تلك الفترة ظهور القدود الصوفية المبنية عبر نظم جديد على ألحان زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب.
حادي عشر: المرحلة من 1960 – 2000
يمكن تقسيم هذه المرحلة إلى فترتين :
الفترة ما بين : 1960 – 1975
التلفزيون كان في هذه الفترة منتجاً نشطاً للموسيقا بعد انحسار دور الإذاعة الذي سببه تكون أرشيفها الضخم(من الألحان السورية القديمة والجديدة عبر الاسطوانات والتسجيلات المتبادلة مع الإذاعات الأخرى (وتأثيره في عدم استمرار حاجتها إلى تسجيلات جديدة لتغطية ساعات الإرسال مما ساهم في تقليص دورها الإنتاجي. حقق التلفزيون الموئل الذي احتضن الموسيقا بدلاً عن الإذاعة مما ساعد على استمرار نوع من التجانس بين الأفكار الموسيقية السائدة على تنوعها.
تميزت الفترة بما يلي:
1 – توثيق الغناء القديم)المختزن على مئات الأعوام كناتج وافد وناتج محلي(في برامج خاصة كبرنامج الموسيقا العربية
2 – تقديم الألحان الجديدة ضمن إطار المسلسلات التلفزيونية التاريخية بشكل أساسي.
3 – تأكيد وجود الموسيقا الغربية وخاصة في المعاهد الموسيقية دون تحقيق اختزانها مع الناتج العام بسبب اختلاف لغتها على عكس ما جرى مع ناتج الموسيقا العربية في بلاد أخرى،بسبب عدم التجانس .
4 – تكوين فرق الفنون الشعبية التي تدمج الحركة مع الغناء كفرقة أمية وفرقة التلفزيون دون وضوح في الفارق بين الفن الشعبي(الدبكات والأغاني الشعبية ) والفن المصنوع (الموشحات والقصائد )
5 – تأكيد دور المدرسة الرحبانية في تحقيق تيار خاص بها حقق له النجاح بسبب ارتكازه في نفس الوقت على الفولكلور والجملة المعاصرة ، ضمن صيغة متوازنة حققت توافق اللحن مع الكلمة.
نشير هنا إلى بدء ظهور عدم التجانس في المخزون اللحني ،فمع أن الملحنين استطاعوا استيعاب الناتج الجديد للمدرسة المصرية محققين تجانساً للمخزون القديم معه بأسلوب مختلف عما جرى في مصر ،فإن الفن الشعبي من جهة والموسيقا الغربية من جهة أخرى إضافة إلى ناتج المدرسة الرحبانية أصبح كل منها يحقق تياراً مستقلاً لا يعينه ما يقدمه التيار الآخر ، وخاصة المدرسة القديمة التي بدأت تعاني من التقوقع.
الفترة ما بين 1975 – 2000
تعمق في هذه الفترة عدم تجانس المخزون اللحني بتأثير تعدد التيارات الموسيقية وتعميق التبادل الإعلامي الواسع ، واختلاف المواقع التي تأوي كل تيار من التيارات الموسيقية، وغياب الرقابة الموسيقية.لقد ذهب الزمن الذي كان فيه رقابة على الغناء،تلك الرقابة التي عانى منها عبد الوهاب في أول زيارة له لحلب عندما لم يحضر حفلته إلا شيوخ الطرب فحكموا عليه ثم سمحوا للجمهور أن يحضر الحفلات التالية .لقد أصبح بإمكان الأقمار الصناعية أن تنقل لنا كل أنماط الموسيقى في العالم دون تفريق بين الغث والثمين.يمكن أن نبرر عدم تجانس المخزون وبالتالي تشوش الاتجاه الموسيقي العام بما يلي:
- غاب الكبار في مصر مما سبب توجه الفن فيها بعيداً عن المسارات التي سبق أن رسمها عبد الوهاب والسنباطي والآخرون ، وأصبح الناتج الموسيقي فيها متغير المستوى ، يصدر إلينا عبر وسائل الاتصال المختلفة.
- غابت المدرسة الرحبانية أو ندرت أعمالها وتحول وارثوها باتجاهات جديدة لا تحقق في كثير من الأحيان التواصل مع الأعمال التي مجد المدرسة الرحبانية.
- غاب دور الإذاعة والتلفزيون كمنتج للموسيقا وأصبح أصحاب شركات الكاسيت والمرابع الليلة هم القيمون على الذوق العام.
أمام هذا الواقع ظهرت محاولات عديدة للمحافظة على السوية الموسيقية .فمثلاً :
- نمت فرق الغناء الجماعي في محاولة لتوثيق التراث الغنائي المختزن والمتجانس ،وسعى مطربو المدرسة الموسيقية الأصيلة) صباح فخري وآخرون ) لنشرها في سوريا ولبنان وكافة أرجاء الوطن العربي.
- تعمق دور الموسيقا الغربية في الحياة الموسيقية السورية بعد تركيز المعاهد الموسيقية على تدريسها ، وافتتاح المعهد العالي للموسيقا وتشكيل الفرقة السمفونية الوطنية.
- تعمق دور الفن الشعبي بعد تشكيل فرقة زنوبيا للفنون الشعبية.
- قدمت ألحان جديدة في مجال الموسيقا الأصيلة وإن بقيت مؤطرة ضمن المسلسلات التلفزيونية التاريخية.
مع كل هذا يبقى الواقع الموسيقي مشوشاً لأسباب سيكشفها لنا النموذج العام لتطور الموسيقا في بلاد الشام.
- النموذج:
لو تتبعنا العناصر التي حكمت تطور الموسيقا العربية في بلاد الشام، لوجدنا أن الاختزان والتفاعل والحالة النوعية الناتجة عن اختزان عناصر مختلفة المنشأ عبر هضمها جميعاً كانت السمات الواضحة لهذا التطور فقد اختزنت بلاد الشام القصيدة العربية القديمة أولاً ثم الموال والموشح والأزجال فقاربتها ودمجت بين غناء الأندلس الجماعي وغناء الشرق الفردي فظهرت الموشحات الشامية ، وقربت الموال من الأسلوب المصنوع الذي يحكم سير الارتجال في القصيدة التقليدية.
بعد انتقال هذه العناصر إلى مصر وولادة أنماط جديدة هناك كالطقطوقة والدور والمونولوج الرومانسي تم اختزان هذه الأنماط من جديد في بلاد الشام وتمت المزاوجة بينها فظهر الموشح المقارب للدور في أسلوب الهنك (الترداد ،راجع موشح ما احتيالي لأبي خليل القباني وموشح قلت لما غاب عني لعمر البطش )كما أن أعمال القصبجي في المونولوج ستجد أساليب مقاربة لها مع تأثر أوضح بالعناصر القديمة عند بكري كردي في سورية.
نستطيع أن نخلص إلى أن النموذج المقترح يجد صورته الواضحة في الشرح التالي:
ابتداء من القرن العاشر الميلادي ، بدأ الموقع الجغرافي والتجاري لبلاد الشام يأخذ أبعاداً جديدة لتصبح هذه المنطقة نقطة لقاء إنساني بالغ الأهمية . بناتج هذا الوضع وبسبب حركة القوافل بدأ يتشكل مخزون غنائي ابتدائي يضم ألحاناً قديمة جداً ، وألحاناً معاصرة يولِّدها ملحنون محليون ، وألحاناً وافدة، تؤثر فيه وتغنيه حركة القوافل الدائبة التي لا تهدأ.
من اجتماع هذه العناصر الغنائية نشأت حالة نوعية خاصة لم تتحقق قبلاً مما نتج عنه في المرحلة الأولى هضم وتفاعل بين العناصر الموسيقية المشكلة للمخزون ، تبعه ظهور لعناصر موسيقية جديدة ، ومن ثم تطوير وتنظيم للناتج الكلي .
بعد تكون هذا المخزون ، مرت المدرسة الغنائية في بلاد الشام بمراحل تطور متعددة اتخذت عموماً الشكل التالي:
يطرأ حدث تاريخي أو فني ، ينشأ عنه في المجال الغنائي والموسيقي حالتان:
أولاً: الحدث مؤثر محلياً مما ينتج عنه تطور جديد سرعان ما يندمج ضمن المخزون الغنائي ويغنيه. أي أن المدرسة الموسيقية المتشكلة حيوية وفاعلة.
ثانياً: الحدث مؤثر خارجياً مما يتنج عنه انتقال عناصر المخزون الغنائي في بلاد الشام (لأسباب مختلفة)أو عناصر مخزون منطقة أخرى إلى بيئة جديدة تسمح ظروفها الموضوعية بالتطور والإبداع(اتصال مباشر بالتقنيات المعاصرة مثلاً )حيث يحصل تطور جديد سرعان ما تجتذبه بلاد الشام من جديد وتضمه إلى مخزونها (هذا ما حصل في التفاعل مع الأندلس والمغرب العربي ومصر وتركيا (كل حسب حالته، مما يجعلها ذاكرة الغناء العربي الحية .
- الغاية.
نحن الآن على مفترق طرق.. فمخزوننا لم يعد متجانساً والتيارات الموسيقية تتباعد.. دارسو الموسيقا الغربية لا يهتمون بالمدرسة القديمة وأصحاب المدرسة القديمة لا يهتمون لا بالموسيقا الغربية ولا بدوافع التجديد، أما مطربوا وملحنو المرابع الليلية فإنهم لا يهتمون إلاّ بالغناء الراقص المحلي منه والوافد ،يقلدونه دون أن تكون لديهم المقدرة على الاستفادة من العناصر التي يحملها .
الحالة النوعية التي كانت تتحقق في الاختزان الواعي والدارس لم تعد سائدة ،فبعد أن كانت التكايا والزوايا تحتضن الغناء الديني ،ومن ثم أصبحت النوادي والمعاهد هي موئل الفن الأصيل ،ثم حققت الإذاعة الموقع الأهم لاحتضان الفنانين على اختلاف مساراتهم اللحنية ، حيث يتحقق عبر اجتماعهم تلك الحالة النوعية من الاختزان الواعي والمنتج، بعد كل هذا..أصبحت المعاهد الموسيقية تهتم أكثر بالموسيقا الغربية ، واحتضنت المرابع الفن الهابط ،وتقوقع أهل الفن الأصيل ، ينصب عملهم في جهود فردية تضيع يوماً بعد يوم ، كما غاب الكبار الذين اختزنوا المدرسة القديمة لينطلقوا منها وليحل مكانهم تلامذة ،حاولوا السير على خطاهم ،دون أن يحالفهم النجاح ،لأنهم لم ينطلقوا من اختزان كل القديم بل من آخر الألحان السائدة ، فأصبح نتاجهم بدون هوية.
من أجل التطور .. لابد من اتباع الأسلوب الذي كان عليه التطور قائماً في بلاد الشام ،لابد من تقارب التيارات الموسيقية وتحقيق التجانس الأمثل بينها،ولن يتحقق التطور المنشود إلا بأن نؤمن بالمدرسةالأصيلة ،نحبها وندرسها ،ثم ندرس اللغة الموسيقية الغربية لنستفيد من علومها ،ثم يأتي الفنان الذي يستوعب كل هذا لكي يقدم لنا ناتج التفاعل في عالمه المبدع..
نحن بانتظار هذا الفنان الذي ستشرق معه شمس الموسيقا العربية من جديد.