ماهي جذور آلة البيانو ؟ ما هي وظيفتها الأولى التي اختصت بها أمام الآلات الموسيقية الأخرى ؟ كيف أمكن توظيفها في الموسيقى العربية ، وهي الآلة القاصرة عن تنفيذ المقامات الشرقية ذات أرباع الصوت؟ وهل أمكن معالجة ذلك ؟ من كان السباق في توظيفها في الغناء العربي ؟ وكيف تطور دورها من تضخيم الصوت ، قبل وجود المايكروفونات ومكبرات الصوت ، لتصبح الآلة المعبرة عن المهابة والكبرياء والرومنسية؟ إليكم الإجابة!
البيانو آلة موسيقية أساسية في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، تعود جذورها إلى الشقير، وهي آلة موسيقية عربية أندلسية قديمة ، ذات ملامس معدنية ، تسمح بالنقر على أوتار مشدودة داخلها ، لإصدار الأصوات الموسيقية ، ، تطورت عند انتقالها إلى أوربا، فتحولت إلى الكلافيكورد فالكلافسان فالبيانو، وهو اسم مختصر من لفظ بيانو فورتا، أي الآلة القادرة على أداء الأصوات اللينة والشديدة.
تصنف البيانو ضمن فصيلة الآلات الوترية، التي يقابل كل مجموعة أوتار فيها صوت واحد. تتشكل كل مجموعة من ثلاثة أوتار معدنية، يطرق على كل منها بمطرقة خاصة متصلة بلوحة المفاتيح، كما توجد مساند سفلية يمكن الضغط عليها بالرِجل، لتخفيف حدة الصوت أو لزيادة مدته الزمنية، وتتدرج المجموعات الموضوعة ضمن صندوق كبير، في الطول والغلظ، بشكل يشابه تماماً آلة القانون العربية.
تغطي آلة البيانو مساحة صوتية تمتد على سبعة دواوين موسيقية ، يتشكل كل منها من 12 ملمساً أبيض وأسود ، تشكل بمجموعها 85 ملمساً (بسبب تطابق الصوت الأخير في كل ديوان مع الصوت الأول من الديوان التالي ) ، منها خمسون ملمساً أبيض وخمس وثلاثون ملمساً أسود. تعبر الملامس البيضاء عند نقر أصبع العزف عليها عن الأصوات الرئيسية في السلم الموسيقي ، بينما تعبر الملامس السوداء عن الأصوات المجسدة لأنصاف الأبعاد الموسيقية ، بما يتوافق مع السلم الموسيقي الغربي المعدّل. عند ضغط العازف على أي ملمس من الملامس ، تتحرك مطرقة معدنية صغيرة ، لتطرق على مجموعة مشكلة من ثلاثة أوتار معدنية ، سبق شدّها وضبطها لتصدر عند الطرق عليها صوتاً موسيقياً محدداً ليشع وينتشر . تثبت الأوتار المعدنية على حامل ضمن صندوق البيانو. يمكن تشبيه هذا الأسلوب في الطرق ، بالأسلوب المعتمد في آلة السنطور الشرقية.
يعتمد المؤلف الموسيقي على آلة البيانو أثناء وضع مؤلفاته، بسبب مساحتها الصوتية الواسعة ، كما توضع لها مؤلفات خاصة، وتتميز أيضاً بقدرتها الفائقة على مرافقة الآلات الأخرى ، كالكمان والتشيللو ، في عزفها الفردي، فيما يسمى الكونشيرتو.
البيانو في الموسيقى العربية
تسبب اعتماد البيانو في تصنيعه على السلم المعدل، أي على إمكانية إصدار الأصوات الموسيقية المعبرة عن أنصاف الأبعاد الموسيقية فقط ، في أنه لا يستطيع التعبير عن المقامات الموسيقية العربية الشرقية ، كمقامات الراست والبيات والهزام ، التي تعتمد على أرباع الأصوات ، فيما يستطيع التعبير عن مقامات شرقية أخرى ، لا تعتمد على أرباع الأصوات ، مثل العجم والنهاوند والكرد . شكل هذا الواقع صعوبة في إدماج هذه الآلة في الموسيقى العربية ، وفتح مساراً لتطويرها لم يحالفه النجاح.
دخل البيانو عالم الموسيقى العربية في نهايات القرن التاسع عشر. كان ذلك عندما عزف قسطندي منسي، وهو عازف بيانو مصري مشهور، لحن دور ” كادني الهوى ” من ألحان محمد عثمان لأول مرة، في عام 1888 ، كما تابع جمهور الأفلام السينمائية الصامتة البيانو يرافق ، في عزف مباشر ، تلك الأفلام ، التي بدأ عرضها في القاهرة منذ عام 1896 ، إذ كان يسهم في تغطية صوت آلة العرض.
لكن تطور المسرح الغنائي في مصر في بداية العشرينات، على يد سيد درويش ، وكميل شمبير، الملحن و عازف البيانو السوري ، الذي أقام في مصر، وعزف البيانو مع سيد درويش ، سمح باللجوء إلى البيانو لمرافقة ألحانه المسرحية ، بسبب ضخامة صوت البيانو، وضعف أصوات الآلات الأخرى ، وذلك لدعم الفرقة الموسيقية المصاحبة للمسرحية، نظراً لعدم وجود إمكانية لتكبير الصوت في تلك الفترة. جاء ذلك مثلاً في حوارية ” على قد الليل ما يطول ” مع حياة صبري.
أغنية البحر بيضحك لسيد درويش تطرح مشكلة البيانو في الموسيقى العربية!
لما كان البيانو مرتبطاً بالسلم الموسيقي الغربي، ولا يستطيع أداء الأبعاد الصوتية الصغيرة، التي تعتمد عليها بعض مقامات الموسيقى العربية، فقد كان الشيخ سيد يطلب من العازف أن يتوقف عن العزف ، عند مرور اللحن على أصوات تعتمد أرباع الأبعاد الموسيقية ، وهو ما تبينه أغنية البحر بيضحك على مقام البيات من مسرحية قولوله ، ما كان يُضعف الأداء العام ، ويتسبب في ابتعاد سيد درويش عن المقامات الشرقية ..
لدى الاستماع للأغنية ، قد يتشكل إحساس ببعض التنافر في الأداء ، بين البيانو من جهة ، و بين الآلات الموسيقية والغناء من جهة أخرى .
يأتي هذا بسبب عدم قدرة البيانو على أداء أرباع الأصوات .. المقدمة الموسيقية مثلاً أتت على مقام النهاوند ، الخالي من أرباع الأصوات ، للحن بني على مقام البيات ذي أرباع الأصوات ، وذلك بسبب وجود البيانو، ليبدأ الغناء على مقام البيات ، فيما آلة البيانو تؤدي مواكبة هارمونية له، تولد بعض الإحساس بالتنافر!
للمختصين : شاب االتنافر أداء المقدمة الموسيقية ، على مقام النهاوند أيضاً ، ففي تلك الأيام لم يكن هناك من تطابق في أداء هذا المقام ، بين الآلات الشرقية و البيانو .. فالآلات الشرقية تعتمد السلم الطبيعي ، و آلة البيانو تعتمد سلم باخ المعدل .. ولكن مع الوقت ، ومع الدخول الكثيف للأكورديون ، ومن ثم البيانو ، والآلات الغربية الأخرى الفرقة الموسيقية العربية ، تعود عازفو الكمان والعود ، على التأقلم مع الأصوات التي تصدرها تلك الآلات الغربية ، المعتمدة على السلم المعدل ، الذي ابتدعه يوهان باخ في القرن السابع عشر!
لتجاوز ذلك ، سعى سيد درويش لتحفيز الموسيقيين على تطويع هذه الآلة ، فتجاوب معه إميل العريان في مصر ، وقام بتجارب لتطويع البيانو لأداء المقامات الشرقية التي تتضمن أرباع الأصوات ، ما سمح أن يقوم سيد درويش ، في أول شهر آب من عام 1923 ، بتوقيع عقد مع إميل العريان ، مخترع البيانو الشرقي ، لتوظيف ذلك البيانو في أداء ألحانه ، و لكي يقوم العريان بتدوين تلك الألحان ، بما فيها تلك التي تتضمن الأبعاد الشرقية ، وفق أسلوب التدوين المخصص لآلة البيانو في موسيقى الغرب ، بحيث تؤدي اليد اليمنى اللحن ، وتؤدي اليد اليسرى المرافقة الهارمونية!
للأسف لم تر هذه التجربة النور ، إذ توفي الشيخ سيد بعد مرر شهر ونصف على توقيعه لهذا العقد!
ولكن ألا يشي هذا ، بأن سيد درويش ، لم يكن يجد أي تنافر بين الهارموني الغربي ، والمقامات الشرقية المتضمنة لأرباع الأصوات؟
في الشام
أما في الشام ، فقد سعى كميل شمبير ، صديقه ، ووديع صبرة ، وعبد الله شاهين ، ثم وجيهة عبد الحق لتطويع البيانو ، كما سعى لذلك لويس هابا في تشيكوسلوفاكيا، بغية أن يتمكن البيانو من أداء المقامات الموسيقية العربية، كالبيات والراست والهزام، ولكن المؤتمرات الموسيقية العربية ، رفضت تلك المحاولات، إذ أن الأصوات الموسيقية المعتمدة على الأرباع ليست ثابتة ، كما الأصوات الصادرة عن البيانو ، وعليها أن تتلون بشكل طفيف بين مقام وآخر.
اعتمد كميل شمبير ، بالتالي ، أسلوباً آخر لتطويع آلة البيانو ، من خلال إعادة ضبط بعض الأصوات الصادرة عنها ، كل مرة ، حسب المقام المستخدم ، لتؤدي أرباع الأصوات الملائمة له ، وسجل ، كما تلميذه أنطوان زابيطا ، بعض التقاسيم على البيانو ، بهذه الطريقة ، على مقامات شرقية ، ولكن هذه الطريقة بقيت قاصرة عن فتح إمكانية الانتقال من المقام الموسيقي الذي حُدد في البداية ، إلى أي مقام موسيقي آخر ، لم تُضبط الأصوات الصادرة عن البيانو ، لكي تتمكن من تأديته.
بالمقابل، عمل عبد الله شاهين ، وبشكل موازٍ ، و منذ الثلاثينات من القرن العشرين ، على إضافة ملامس خاصة بالأصوات اللازمة لأداء أرباع الأصوات .
قام عبد الله شاهين لاحقاً ، في عام 1973 ، وقد ناهز عمره الثمانين ، بتسجيل بعض التقاسيم على مقامات شرقية على البيانو الذي صنَّعه بهذه الطريقة ، ومنها هذه التقاسيم على مقام البيات الشرقي ، التي يتلوها أداؤه للحن أغنيتي القراصية و يا حنينة.
من أقدم التسجيلات التي رصدنا مشاركة البيانو فيها ، هذا التسجيل لأغنية أوعى تصدق إنك أسير ، للمطربة فيروز الحلبية ، بمرافقة أنطوان زابيطا على البيانو ، و أمير الكمان سامي الشوا على الكمان . يعود التسجيل إلى عام 1926 .
كان مدحت عاصم ، أيضاً ، من أوائل من استخدموا البيانو في الغناء العربي ، وذلك عندما وضع لحن مونولوج ” دخلت مره في جنينة ” لأسمهان عام 1938 .
وتبعه محمد عبد الوهاب في قصيدة ” الصبا والجمال ” عام 1939 ، في فيلم “يوم سعيد ” ، وتلاهما فريد الأطرش الذي وظف البيانو في العديد من أغانيه ، ومنها أغنية ” مين يـعرف ” ، عام 1954 ، حيث استخدم عدة آلات بيانو ، في المقدمة الموسيقية ، في استعراض لها ، محققاً تداخلاً للأداء بينها.
ولكن التوظيف المعاصر الأشهر للبيانو، بقي مجسداً في لحن رياض السنباطي، لقصيدة ” أراك عصي الدمع “، التي أدتها السيدة أم كلثوم عام 1965 ، عندما سعى السنباطي لتوظيف ضخامة صوت البيانو في التعبير عن عاطفة الكبرياء المسيطرة في أجواء الأغنية.
رافق البيانو صوت فيروز في كثير من الأغاني ، ومنها أداؤها مثلاً لقصيدة يا نسيم الدجى في عام 1961 ، في مهرجان مبايعة بشارة الخوري أميراً للشعراء ، بعد أحمد شوقي ، في حفلٍ أقيم في قصر الأونيسكو في بيروت ، حيث غنّتها بمرافقة بوغوص جيلاليان على البيانو ، كما أدت أغنية ” دقيت طل الورد ع الشباك ” ، من ألحان منصور رحباني ، وكلمات سعيد عقل ، و ” بيقولوا الحب بيقتل الورد ” ، من ألحان زياد رحباني بمرافقة واضحة من البيانو ، كما غلَّف البيانو لحن قصيدة ” وشـاية ” ، و قصيدة ” شال ” ، وهي أغانٍ عبرت عن أسلوب منصور الرومنسي في التلحين .
يمكن التوقف أيضاً عند استخدم رنين البيانو الخافت ، الذي يأتي في بداية التسجيل الأحدث لأغنية ” نحنا والقمر جيران ” ، للتعبير عن أشعة القمر.
د. سعد الله آغا القلعة