حوار مع الدكتور سعد الله آغا القلعة حول الإبداع في الموسيقى العربية وعلاقته بالزمان والمكان

شعار كتاب الأغاني الثاني

هذا لقاء صحفي أجريته منذ حوالي 25 عاماً وأنشره الآن لما فيه من أفكار هامة تبقى في رأيي صالحة وحقيقية عبر الزمن ..

أجرى الحوار الأستاذ منيف حسون ونُشر في ملحق جريدة الثورة الثقافي – العدد 8377 تاريخ 14 تشرين الأول / أكتوبر 1990

الدكتور سعد الله آغا القلعة مرتجلاً في دار أوبرا القاهرة

لم أضع أسئلة محددة أطرحها على الدكتور سعد الله آغا القلعة، وقلت:

– هو يدلني إلى الأفكار الأهم التي نتحاور فيها واطمأننت إلى هذا !

عندما التقينا بادرني قائلاً: لم أرتب خطوطاً للحوار.. فاسأل ما شئت: بين وصول كوب الشاي إليه. ومصارحته أنني أقرأ الموسيقا قراءتي للأدب والتاريخ، كان علي أن أسلم إليه خيط الكلام.. فاستأذنته أن يبدأ الحديث من النقطة التي يريد، وبعد ذلك تأتي الأسئلة، فقال:

نبدأ بواحد من أهم عناصر الموسيقا العربية وأغناها.. و أعني: الارتجال .. الارتجال !! وأنت من يطبق المنهج العلمي في فهمه قواعد الموسيقا؟

الارتجال بمعناه الشمولي، هو القدرة على اختزان كل قواعد الموسيقا، وكل أشكال الجمل اللحنية خلال فترة طويلة من الزمن.. ثم وفي لحظة تحريض يرتجل الموسيقي عملاً موسيقياً يسوده منطق حقيقي آني يستند إلى كل ما اختزنه فيعطى نتيجة طيبة وسليمة.

إنه الإبداع بهذا المفهوم؟!

هو الإبداع حقاً! الإبداع الذي لا يختلف شكله في العلم عنه في الموسيقى.

مثلاً: في دراستي للموسيقا أستخدم المنهج العلمي كمساعد للاختزان الطويل، حيث أستطيع أن أتوصل إلى فهم أشكال التطور/ الموسيقي.. وهنا تستفيد الموسيقى من المنهج العلمي في الدراسات العلمية.. لحظة الإبداع تتشابه تماماً مع لحظة الإبداع الفني، التي أطلقت عليها اسم “الارتجال”.. وفي العلم أيضاً تختزن المعلومات في ذهن المبدع لفترة طويلة.. أما لحظة الاكتشاف العلمي فهي لحظة آنية يحصل فيها ترتيب مكثف لكل هذا المخزون.. فيولد الابتكار!

كأن الموسيقا هي دليلك إلى العلم والفن. وفهمك لكثير من أمور الحياة ؟ هل هذا كلام دقيق ؟

لا بد من توضيح قبل الإجابة وهو:

أنني بدأت دراسة الموسيقا في الرابعة من عمري أي قبل أن أذهب إلى المدرسة لأتعلم فيها وأدرس اللغة والعلوم وأعتقد ولا أدري إذا كأن هذا دقيقاً وينطبق على كل من مر بنفس الحالة – أن الموسيقا التي هي قمة التجريد عندما تبدأ بالتعامل معها فأنك تستطيع أن تتعامل مع الأشياء مستقبلاً بصورة أسهل.

إنني أتكلم الفصحى ببساطة مع أن كل دراستي كانت في الاتجاه العلمي،لقد ساعدتني الموسيقا على اختزان واستيعاب إيقاع الفصحى..

سأضرب لك مثالاً آخر حول دراستي لآلة القانون الموسيقية:

أنها من أصعب الآلات الموسيقية، وخاصة عندما تعزف نغمات موسيقية في غير مواقعها.. وهي ما تسمى عملية التصوير، فذهن العازف يجب أن يكون قادراً في زمن قصير على القيام بعملية حسابية دقيقة لاستنتاج الأبعاد الصوتية في غير مواقعها، وإذا عرفنا أن السلم الموسيقي العربي يتألف من 53 صوتاً مختلفاً إضافة إلى الصوت الحاد المكرر للأول..في حين يتألف السلم الموسيقي الغربي من 12صوتاً موسيقياً مختلفاً، إضافة إلى الصوت الحاد المكرر للأول، أدركنا مدى صعوبة التعامل مع النغمات الموسيقية العربية أصلاً.. فكيف إذا كانت في غير مواقعها ا لمتداولة هذا الموضوع درسته وطبقته على آلة القانون قبل أن أبلغ سن العاشرة، وهو أصعب بكثير من مناهج الرياضيات في المرحلة الإعدادية. لقد ساعدتني الموسيقا في التعامل مع العلوم بصورة أسهل. وأفادتني في اختصاصي العلمي.

أنت في رأي النقاد “والذواقة” عازف ماهر ومتميز على آلة القانون ،لِم لا تقدم أمسيات أو حفلات موسيقية؟

لأنني لست واثقاً من أن الوقت المحدد للأمسية أو الحفلة سيتوافق مع لحظة الارتجال المطلوبة التي تحدثنا عنها قبل قليل!

هل تعتقد أن هذا هو حال الموسيقيين جميعاً ؟

الموسيقي الحقيقي هو هكذا.. واسمح لي أن لك مثالاً عن السنباطي.. فقد كأن يمضي أشهراً طويلة ينتظر فيها لحظات الإبداع فيضع لحناً لقصيدة.. هذا الموسيقار لا أستطيع أن أقارنه بملحن يضع لحناً أو أكثر في ليلة واحدة ولكن، هناك حوادث في تاريخ الموسيقا عن موسيقيين وضعوا ألحاناً اضطروا لصياغتها.. والمثال على هذا ما جرى مع الفنان القدير عمر البطش عندما طلب منه الموسيقي محمد عبد الوهاب أن يسمعه موشحات من نغمة صعبة أو نادرة هي نغمة “السيكاه” الأصلي، وهو يعلم أن لا وجود لمثل هذه الموشحات.. ربما كأن قصد عبد الوهاب أن يحرج عمر البطش الذي أسمعه في اليوم التالي ثلاثة موشحات من نغمة “السيكاه ” لحنها في نفس الليلة التي سأله فيها عبد الوهاب، وقدمها إليه على أنها موشحات قديمة.

الأن: هل هي مصادفة في أن يستطيع عمر البطش تلحين ثلاثة موشحات في ليلة واحدة، أم أنه وصل في عبقريته إلى حد جعله يتحكم في لحظة إبداعه.. أو أنه- وكما يقال في الموسيقا العربية-: الفنان يمكن أن يتحكم في لحظة الإبداع إذا أحسن اختيار الساعة واليوم والفصل. وهذا شرحته في حلقة من برنامج العرب والموسيقا قدمت فيها علاقة الموسيقا بالفلك..

كلمة الفلك، تقدم لي سؤالاً هو: هل كانت الموسيقا العربية تعتبر حقاً من العلوم الأساسية عند العرب؟

طبعاً كانت هكذا.. وسأوضح لك لم اعتبر العرب الموسيقا أحد العلوم الأساسية :

العمل الموسيقي لا يكون إلا بانسجام الأصوات الموسيقية التي يتألف منها.. وهذا الانسجام يدخل في باب علم الجمال، الذي تدخل فيه عناصر التناسق والاختلاف ،والتناسق والاختلاف تدخل فيه عناصر النسبة والنسبة تدخل فيها عناصر الأرقام والأرقام تدخل في علم الرياضيات..

الموسيقا ظاهرة فيزيائية.. ولكن التعبير عن فهمها لا يكون إلا عبر دراستها رياضياً. وذاتياً. الدراسة الرياضية ترتبط بالأرقام كما رأينا، والدراسة الذاتية ترتبط بآلية تأثيرها في المستمع.

الطرب مثلاً؟ ما هي عناصره؟

هل هي اللحظة؟ هل هو المنطق السليم الذي ظهر في العمل الموسيقي؟ أم أنها ثقافة المستمع؟

الطرب، يحصل من استجابة المستمع لما يسمع.. وكما رأينا يتأثر هذا بالزمن.. والزمن يعني وضع الأرض بالنسبة للكواكب.. وهذا يعنى” فلك” وهكذا لكي ندرس الموسيقا يجب أن نتسلح بالعلوم التالية: الهندسة والحساب وهما علمان يدخل المنطق كأحد عناصرهما- والفلك فإذا أضفنا الموسيقا إليها كانت العلوم الأربعة.. وهي العلوم الأساسية.

هل التذوق الموسيقي يحتاج إلى كل هذا ؟

المستمع ليس بحاجة إلى كل ما ذكرناه، المهم هو أن يستجيب للظاهرة، ولهذا يكفي الإحساس بالموسيقا.. فالإنسان متذوق للجمال.. وحياته مبنية على الإيقاع… وحسن ارتصاف الأصوات الموسيقية ضمن الجملة ليست مهمته.. ولكن مهمته في أن يحسن استقبالها، أما الموسيقي فهو من يجب عليه أن يدرك كل هذه الأبعاد،أن يختزنها.. ثم وفي لحظة إبداعه تتداخل هذه العناصر مجتمعة لكي يطلع علينا بعمل موسيقي تتوافر فيه كل عناصر الجمال.

كأنك تعني فيما تقول: أن على الموسيقي أن يكون ملماً بعلوم وفنون عصره بتعبير آخر عليه أن يكون موسوعياً

هذا ما أقصده.. وعلى الموسيقي أن يكون ملماً ليس فقط بهذا، وخاصة إذا أراد أن يلحن أغنية، عليه أن يدرس الشعر وإيقاعاته عليه أن يدرس موسيقى الكلمة. أن يعرف المدة الزمنية لكل حرف من حروف اللغة، وأن يختزن كل هذا.. وفي لحظة الإبداع يكون ما اختزنه من أكثر العوامل المساعدة في إنجاز ما يريد.

إنه عبء كبير لكثير من الملحنين على ما أعتقد..

العمل الموسيقي الحقيقي هو الذي يكون نتيجة جهد طويل دؤوب.. ومع هذا فتاريخ الموسيقى يذكر أشخاصاً لم ينفذوا هذا، أمثال سيد درويش الذي توفي وكأن عمره نحو 32 عاماً، وأبدع إبداعات كثيرة طبعاً هو في هذا استثناء كما كان في الغرب استثناءات كموتزات.

ولكن، يبدو أن غالبية الملحنين اعتبروا الاستثناء قاعدة، فكانت النتيجة أن معظم أعمالهم ليس فيها استثناء!

اسمح لي، أن أقف قليلاً عند سيد درويش ورياض السنباطي مرة ثانية وأتحدث عنهما بإيجاز، لأن الأول يمثل الإبداع السريع- أن صح التعبير – والثاني يمثل الإبداع المرتبط بالمثابرة والجهد والموسوعية الفنية.

إن حياة سيد درويش تقسم إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى مرحلة الغناء القديم” الأدوار والموشحات”.. وبناها معتمداً على ما تعلمه في مصر أولاً، وفي حلب ثانياً، عندما زارها واطلع فيها على المدرسة الغنائية الأصيلة، وعندما عاد إلى الإسكندرية، قدم ولبضعة أعوام موشحات أصيلة.. وبدا وكأنه عاش في هذه المدرسة زمناً طويلاً.

والمرحلة الثانية: عندما انتقل إلى القاهرة وعمل في مجال محترف هو “المسرح الغنائي”.. وبين العالمين “الموشح- والمسرح ا لغنائي فرق شاسع..ففي الموشح الأهمية المطلقة تكمن في اللحن وليست هناك أهمية كبيرة للكلمة.. أما في المسرح الغنائي فالكلمة لها أهمية لأنها ضمن سياق نص المسرحية ومع هذا فإن سيد درويش عندما لحن الموشح، لحن جملة لحنية ملائمة له. وعندما لحن للمسرح الفنائي لحن بجملة لحنية مختلفة تماماً احترمت ضرورة فهم الكلمة..كل ذلك كان في اثنتي عشرة سنة هي عمره الفني!

مثال الإبداع الذي يقف وراءه العمل الدؤوب والثقافة والموسوعية هو الفنان رياض السنباطي ولنأخذ حالة أغنية “سهران لوحدي” التي لحنها للسيدة أم كلثوم.

في هذه الأغنية المضمون صعب.. والوصول إلى النغمة الموسيقية المعبرة عن قلق الساهر يتطلب معرفة كاملة بالأنغام الموسيقية، ومدى ملائمة كل نغمة أو مقام موسيقي لمضمون ما. هناك نغمات أو مقامات معروف أنها ملائمة للحزن مثل نغمة “الصبا”. وهناك نغمات أو مقامات معروف أنها ملائمة للطرب البسيط والتغزل مثل نغمة البيات، ولكن أن تجد ملائماً للسهر والقلق فهذا أمر ليس بالسهل، ومع ذلك استطاع السنباطي إيجاد الملائم عندما استخدم في سياق اللحن فروعاً من نغمة “الهزام” فعبر عن المضمون أجمل تعبير، وهذا يتطلب معرفة كاملة بفرع من فروع الموسيقي وهو المقامات ومدى ملائمته للمضمون الذي ستعبر عنه.. نلاحظ أيضاً أنه جعل بداية المقدمة الموسيقية الموقعة و بداية الغناء تأتي على درجة صوتية غير متداولة كبداية للموسيقى أو للغناء في إطار المقام المستخدم ، كما أنه لاءم أيضاً بين المقام الموسيقي وزمن الأغنية وهو “الليل”.. كما لاءم بين الجملة اللحنية وبين الكلمات وزمن نطقها فجاء العمل ملائماً للمضمون وللشكل، وهذا لم يأت في زمن قصير.. أمضى السنباطي ما يقرب العام في تلحين هذه الأغنية.

هل هناك علاقة بين الموسيقى والمكان.. كعلاقتها بالزمن..؟

طبعاً توجد مثل هذه العلاقة.. فلو أخذنا شكل الجملة اللحنية الموسيقية لرأينا أنها تضج بالإيقاع أحياناً، وتسترسل دون إيقاع، أحياناً أخرى، والحالتان لهما مماثل مكاني.. فمثلاً: عندما تكون في موقع فيه امتداد وافق بعيد. ويكون هناك شخص يغني موالاً.. سيرفد انتباهك أن الموال في معظم الأحيان جملته اللحنية المرافقة يسيطر فيها الامتداد اللحني مع التعرجات تماثل بمجملها امتداد الأفق البعيد.. وهكذا يأتي الفن المرتبط الأفق.. وهناك النوع الآخر الذي يحفل بالإيقاع كالموشح.. فأنت عندما تستمع إليه ستتنبه أيضاً إلى سرعة تعرجات الجملة اللحنية حيث يتداخل الرنين. أو الصوت القوي أو الصوت الضعيف في تتابع لانهائي يضبطه إيقاع متكرر.. وهكذا نرى أننا لا نستطيع أن نباعد بين الموسيقا والمكان، لأن المكان هو نقطة البدء في تحريض الإبداع الموسيقي.. وأذكر أنه طلب في ذات يوم أن أقيم حفلة موسيقية في الإذاعة الفرنسية- القناة المخصصة للموسيقى لكي تبث مباشرة وكان المكان عبارة عن مسرح، وهو معد أصلاً لتقديم أعمال موسيقية غربية، وله شكل بعيد جداً عن الأمكنة التي اعتادت الموسيقى العربية أن تقدم فيها، فقلت لهم هناك: لقد حرمت من أهم تحريض يمكن أن يساهم في إبداع حقيقي وهو المكان الملائم. فقالوا لي: نأمل أن نعوضك عن ذلك بالجمهور وما أن تبدأ الموسيقي حتى يعوض التواصل بين الفنان والجمهور عن فقر المكان!!

أنت هنا تضيف إلى العمل الموسيقي عنصراً جديداً !! فبعد الاختزان، والموسوعية. والجهد، والزمان والمكان.. هناك الجمهور الذي يحقق التواصل معه في التحريض على الإبداع.. واستقبال الإبداع نفسه.

أعتقد أن لحظات الإبداع تأتي أحياناً دون تحريض.. أي أنه ليس بالضرورة أن تجتمع كل هذه العناصر لتحقيقها.. ولكن هذا استثناء.. وسأضرب لك مثالاً حول ذلك.

هناك شاعر- لا يحضرني اسمه الآن- كان من عادته أن يبدأ بقراءة قصيدة لشاعر آخر.. فيقرأ منها بضعة أبيات تحدد له إيقاعاً وقافية.. وبعد فترة يترك القصيدة.. ويرتجل قصيدته التي تصاغ آنياً على نفس الإيقاع والقافية.. وهذا تحريض ممكن.. والموسيقيون عادة إذا أرادوا التلحين أو الارتجال يبدؤون بجمل معروفة لديهم لكي يدخلوا في جو العمل الموسيقي ثم يدخلون في أجواء الإبداع الخاصة بالزمان والمكان.. ولكن قد يشعر الموسيقي في بعض الأحيان أن طريق الإبداع غير سالكة، مع أنه أحسن اختيار الزمان والمكان واختزن كل ما يلزم لكي ينفذ العمل الإبداعي!

الثغرة هنا هي في إحساسه بأن الحوار بينه وبين الجمهور لم يحصل. فالموسيقى العربية تعتمد على المؤدي والمتلقي.. وإحساس المؤدي بأن الاتصال مع المتلقي لم يحصل يكون عائقاً يعترض العملية الإبداعية فيشعر أن عليه أن يتوقف! وهذا شأن الشعر أيضاً.

تحدثنا عن عوامل ومحرضات الإبداع في الموسيقي العربية.. هل هذا ينطبق على الموسيقى الغربية أيضاً؟

اعتقد أن الشكل العام لا يختلف كثيراً. ولكن لكل موسيقى مجتمعها الذي يتميز بخصائص قد تكون مختلفة. مثلاً في الموسيقى العربية الاعتماد الأساسي يكون على الغناء، وخاصة الصوت الإفرادي بالإضافة إلى بعض أشكال الغناء الجماعي التي ظهرت في الموشحات أساساً.

في الغرب وبسبب عوامل عديدة موسيقية وفنية ولغوية واجتماعية ابتعدت الموسيقى عن الغناء واتجهت إلى موسيقى الآلات أكثر.. ولكن الآلات الموسيقية متنوعة.. وكل واحدة لها مجال صوتي معين مختلف عن غيرها مما دعا إلى استخدام توافق الأصوات لتحقيق العمل الجماعي في الموسيقا، وهذا استدعى ضرورة كتابة الموسيقى لضبط تزامن العمل الجماعي لكي يقدم منتجاً نهائياً تجتمع فيه كافة الآلات الموسيقية مختلفة المساحة الصوتية. هذه الخصوصية أثرت دون شك في شكل الإبداع، فالمؤلف الموسيقي أصبح عليه أن يدرك أن عمله هو لحن مركب. وكتب الموسيقى الغربية تحدثت كثيراً عن أهمية الزمان والمكان عند الملحن.. تحدثت عن: كيف كان المؤلف الموسيقي يضع ألحانه فيدونها بسرعة ثم يدخل عليها التركيبات اللازمة.

إذاً العملية الإبداعية متشابهة، ولكن خصوصية العمل الموسيقي الجماعي أدخلت تعديلات، وأصبحت تتطلب من المؤلف الموسيقي ثقافة في مجال جديد هو : تآلف الأصوات ودراسة المساحة الصوتية لكل آلة موسيقية كما أن جغرافية أوروبا بمناخها البارد نسبياً أثرت على شكل الإبداع الموسيقي فابتعد عن الإيقاع.. في حين نجد أن جغرافية الشرق بمناخه الدافىء أثرت في زيادة دور عنصر الإيقاع في شكل الإبداع.

نعود إلى الموسيقى العربية.هل هناك تطبيقات لرؤية العرب للعلاقة بين المتلقي والمبدع في الموسيقى؟

أهم تطبيق لقوة تأثير الموسيقى على المتلقي واستجابته لها كان استخدامها في المجالات الطبية فقد استخدمت في تخفيف ألم العمل الجراحي .. وفي مداواة بعض الأمراض النفسية.

هذه النقاط التي تحدثنا فيها حتى الآن.. هل كانت محور مواضيع حلقات برنامج العرب والموسيقا ؟

كانت بعضها.. فقد استعرضت في البرنامج مواضيع كثيرة غير التي تحدثنا فيها.: كالقوالب الموسيقية وتطورها. و المبدعين.. والعلاقة الخاصة بين الموسيقى والفنون الأخرى. والآلات الموسيقية.. وأشهر كتب الموسيقى.. وتاريخ الغناء العربي.. وغيرها من المواضيع.

ما هو الهدف الذي تسعى للوصول إليه من خلال برنامج “العرب والموسيقا ” ؟

أعتقد أنني أسعى إلى أن تعتبر الموسيقى ضمن أنماط الثقافة العامة، لا أن تبقي متقوقعة في جو المختصين والمهتمين بها. فكما قلت: هناك عنصر هام من عناصر الإبداع هو المتلقي، وبدونه سيكون الإبداع محصوراً على تجارب يقوم بها بعض المؤلفين ولا تثير أي اهتمام.

من مهمات البرنامج. تعريف الناس بالموسيقى.. والتأكيد على أن الموسيقي مثله مثل الأديب والشاعر والفنان والناقد له تأثيره في الحياة عموماً والثقافة بوجه خاص.

أنت رجل علم أولاً وتتعامل مع أحدث معطيات التكنولوجيا، كالحاسب الآلي الذي استخدم مؤخراً في العزف، وربما استخدم مستقبلاً في التأليف الموسيقي إن لم يكن قد استخدم فعلاً.

ترى: هل تحاول أن تهتم بما يمكن أن تكون عليه الموسيقى العربية المعاصرة في المستقبل أم أن اهتمامك كله سيبقى ضمن عالم الموسيقي العربية القديمة؟

في أعمالي الموسيقية، لا أقدم الأساليب التقليدية بل أحاول أن أكون ابن العصر الذي أعيشه، فأقدم موسيقى قد توصف أحياناً بأنها من منتجات الحداثة، لكن هذه الموسيقى ليست منقطعة الجذور. ففيها كل ما اختزنته من الموسيقى الأصيلة وفيها تطلع للتعبير عن العواطف المركبة التي يعيشها الإنسان المعاصر والتي لم تكن مطروحة سابقاً.

من أجل أن أتوصل إلى ذلك التعبير أعتمد مبدأ في الحداثة هو التفكيك وإعادة التركيب من جديد كما فعل شعراء الحداثة عندما فككوا إيقاعات الشعر العمودي، واعتمدوا على التفعيلة فقط..

أسلوبي هو أن أعتمد قواعد الموسيقى الأصيلة في عموميتها مع تطبيق النظرة المعاصرة في التعبير عن عواطف صاغها القرن الذي نعيش فيه. وفي التركيبات الجديدة لمقامات موسيقية قد أستعمل الحاسب ليدلني على كل تركيبات ممكنة لاستنباط مقامات موسيقية جديدة ولكني أعود إلى الأذن الموسيقية المحبة للأصالة فأختار من التركيبات الجديدة ما يلائمها.

قلت قبل قليل: في أعمالي الموسيقية. هل لك أعمال موسيقية؟

إذا اعتبرنا العمل الموسيقي ضمن إطار الإبداع الموصوف سابقاً أي ابن اللحظة والمكان والاختزان.. فلي أعمال موسيقية كثيرة مصنفة حسب تطورها الزمني، أما إذا اعتبرنا العمل الموسيقي هو التلحين المقصود والمبرمج، فأنا ليس لدي أعمال موسيقية.. إلا أنني أعتمد الارتجال دوماً كأسلوب إبداعي، ومن متابعة تطور شكل الارتجال عندي، أستطيع أن أكتشف كيف تقوم العلاقة الجدلية بين تلك الأعمال والزمن.

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading