أصبحت أجهزة الحاسوب الرقمية ، و الهواتف الذكية ، الأدوات الأهم في متابعتنا لكل ما يجري حولنا ، وخاصة في المجال الذي نهتم به في هذه الصفحة ، إذ نستمع من خلال تلك الأجهزة إلى الموسيقى ، التي أوصلتها إلينا الأسطوانات ، والتسجيلات الإذاعية ، ونشاهد الأغاني ، التي عرضت في سياق الأفلام السينمائية ، أو سجلتها كاميرات التلفزيون.
من المهم أن نعلم ، أن هذا لم يكن ممكناً ، لولا تطوير نظام رقمي ثنائي ، أساسه الصفر والواحد ، سمح بتجسيد مختلف أشكال المعلومات ، من ألحان و نصوص ، وصور ، وأفلام ، وألوان ، على الأجهزة الرقمية ، و بالتعبير بالتالي ، عن الظواهر الطبيعية التي يعيشها العالم اليوم ، جميعها.
وفيما يُعزى تطوير النظام الرقمي الثنائي ، الخاص بالحواسيب الرقمية والهواتف الذكية ، و الذي أمكن من خلاله لاحقاً ، التعبير عن مختلف مظاهر الحياة ، إلى العالم الألماني غوتفريد فيليهلم لايبنتز ، الذي عاش بين عامي 1646 و 1716 ، فإننا نجد أن التاريخ لم يذكر عالماً آخر ، سبقه إلى توليد أدواتٍ ، للتعبير عن مظاهر الحياة ، من خلال نظام ثنائي مبتكر آخر ، أساسه موسيقي وهو : نظام الحركة والسكون!
وفي الواقع ، لم يكن يدور في خلد الخليل بن أحمد الفراهيدي ، الذي عاش قبل لايبنتز بألف عام ، عندما جمع الإيقاعات الشعرية في القرن الهجري الثاني ، مستنداً إلى عملية إحصائية للشعر العربي ، لعلها كانت أول عملية إحصائية في تاريخ تطور الفنون الإنسانية ، ثم عبَّر عنها ، بمختلف أشكالها ، من خلال نظام ثنائي ، أساسه المتحرك والساكن ، وتركيباتٍ منه ، في عمليتين رائعتين، تدلان على تفكير هندسي مجرد ، أن فكرة مشابهة لفكرته العبقرية هذه ، في إمكانية التعبير عن مظهر من مظاهر الحياة ، بنظام ثنائي ، ستكون بعد حوالي ألف عام ، أساساً للتعبير عن مختلف أشكال البيانات المعلوماتية ، من نصوص ، وأصوات وصور ثابتة ومتحركة ، و لتناقلها عبر الشبكات ، و أنها ستحظى بتقدير لا حدود له!
كانت فكرة الخليل بن أحمد تخالف ما درج عليه عصره ، من التعبير عن جميع أشكال الحياة ، عبر نظام رباعي ، يستند على مكونات محددة ، وهي الماء والنار والهواء والتراب ، وهكذا كانت هناك أربعة فصول ، وأربعة أوتار للعود ، وأربعة أمزجة عند الإنسان ، وأربعة أخلاط في جسمه ، في أربعة أجيال متعاقبة ومتزامنة ، فيما كان النظام العشري أساس الحساب . لم يستسلم الخليل بن أحمد لمسلمات عصره ، وابتدع نظاماً ثنائياً ، للتعبير لأول مرة عن مظهر موسيقي من مظاهر الحياة : الإيقاع ، أساسه الحركة والسكون ، سمح بتطوير الإيقاعات الموسيقية لاحقاً ، ثم صاغ من تراكيب هذا النظام ، نظاماً آخر ، أسماه بحور الشعر ، لتبنى عليها آلاف القصائد ، كما صاغ تراكيب أخرى ، أكثر تعقيداً ، لتكون أساس توليد المفردات الجديدة ، في اللغة العربية ، فيما سمي تصريف الأفعال ، ( كتابه : تصريف الفعل ) ، بحيث أنه يكفي أن تختار فعلاً ما ، في اللغة العربية ، لتولِّد جميع احتمالات توظيفه ، من خلال تركيبات الفراهيدي!
ولكن الفراهيدي لم يكن يعلم ، أن فكرته ذاتها سوف تعمم ، بعد حوالي ألف عام على ولادتها ، فتتحول أغلب مظاهر الحياة ، لتصبح قابلة للتعبير عنها ، باستخدام نظام ثنائي مشابه ، هو الصفر والواحد ، مقابل الساكن والمتحرك عنده ، وتركيبات من ذلك النظام ، نشاهدها اليوم عبر شاشات التلفزيون و الحاسوب ، و أجهزة الهاتف المحمول الذكية ، على شكل نصوص وصور وموسيقى وأفلام .. من المفيد أن نلاحظ التقابل بين ( الواحد والحركة ) ، و ( الصفر و السكون ) !!
ومع أن القيمة المالية للحقوق تضيع بعد خمسين عاماً على ولادة الفكرة ( قيل بأنها أصبحت سبعين عاماً ) ، فإن الحقوق المعنوية تبقى لصاحبها ، فهل نعيد للخليل بن أحمد حقوقه الفكرية ، في نظام ثنائي ابتدعه منذ حوالي 1300 سنة ، كان ولايزال قادراً على التعبير عن بعض مظاهر الحياة ، قبل لايبنتز بألف عام ؟