في عام 1950 ، نشر الشاعر سعيد عقل قصيدة “شال” في ديوانه ” رندلى ” ، مجسداً فيها ، إلى جانب غيرها من قصائد الديوان ، نظرته العفيفة للمرأة الحبيبة ، ولاحقاً اختارها منصور رحباني لملاءمتها لأجواء النص الرحباني ، في تعامله الرشيق مع العواطف الإنسانية ، ومع فيروز ، فلحنها لها ، لتغنيها. قصيدة “شال ” من الأغاني القليلة التي عُرف بأن لحنها كان لمنصور رحباني.
وفي الواقع ، تطرح هذه الأغنية تساؤلات عن أسباب اختيار الأخوين رحباني لهذا النص بالذات ، لسعيد عقل ، ليقوما بتلحينه . هل كان ذلك بسبب عفته ؟ إذ عبَّر الشاعر في قصيدته : شال ، عن عاطفة صادقة تتوهج ، ولكن عن بعد ، فعظمته لا تسمح له بالاقتراب ، وهي ، الحبيبة ، في قداستها ، ليست للمساس ..
هِم لا تُقرِّب يدا
هِم بالنظر أبقِ الأثر
ما لم يزل موصدا
وهل هناك ما يلائم جمال صوت فيروز أكثر من هذا!
أم كان ذلك بسبب شكل قوافي النص الداخلية ، في تضادها ؟
ثم لماذا استخدام آلة البيانو لتغليف الأغنية؟ ، مع مرور عابر للأوبوا ؟ وتالياً : هل يمكن من خلال مجموعة الأغاني القليلة التي أمكن توثيقها على أنها لمنصور رحباني ، استنباط عناصر أسلوبه التلحيني على طريق تمييزه عن أسلوب شقيقه عاصي؟؟ سأحاول الإجابة على هذه الأسئلة من خلال التالي:
تشكلت القصيدة من سبع رباعيات ، متوافقة في الأوزان حسب الشطرات ، متغيرة القوافي ( الروي) ، يحافظ فيها على قافيتي الشطرتين الأولى والرابعة ، والثانية والثالثة ، في كل رباعية ، ولكنها ، أي الرباعيات ، تتميز في تضاد قوافيها على مستوى الرباعية الواحدة ، بين الساكن والمتحرك ، كما سنرى!
في الرباعية الأولى يركز سعيد عقل على الشال ، في نظرة عذرية تمتنع عن النظر المباشر إلى الحبيب، وكأنما كان الشال المسار المؤدي إلى النظر إلى صاحبته ، التي تجسد الجمال المطلق. نلاحظ التضاد بين شالْ و بالجمالْ ، الساكنة في آخرها ، ورندلى وهلا ، المتحركة!
مُرخىً على الشعر شالْ
لرندلى
هلا هلا
بِهِ بِهَا بالجمالْ
ليتساءل في الرباعية الثانية ، عن خالق هذا الجمال ، في صيغة شعرية ، تعبر عن تقديسه لذلك الجمال!
من يا حَبَابَ الكؤوسْ؟
من جمّلك؟
من فصّلك
حلواً كحُلْم العروسْ؟
منطلقاً في الرباعية الثالثة ، للتأكيد على الحركة : فالثنية في الشال تغيب ، كناية عن حركة صاحبة الشال ، متزامنة ، في الوقت ذاته ، مع التحريض على حركة المحب : هِمْ يا حبيب . ونلاحظ ، مجدداً ، التضاد بين تشتكي والليلكي في الختام المتحرك ، مع تغيب ويا حبيب في الختام الساكن!
لم ثِنْيَةٌ تشتكي
ثم تغيبْ
هِمْ يا حبيبْ
بلونِيَ الليلكي
إلا أنه في الرباعية الرابعة يصدٌّ عن حركة زائدة : هِمْ لا تقرب يدا ، هِم بالنظر ، و تجدر الإشارة هنا إلى الفرق بين هِم الأولى الحركية، وهِم الثانية ، وهي من الهيام ، بالنظر ، مع استمرار التضاد في الروي بين الساكن والمتحرك!
هِمْ لا تُقَرِّبْ يَدَا
هِمْ بالنظرْ
أبقى الأثرْ
ما لم يزل مُوصَدَا
فيما يحدد في الرباعية الخامسة حدود الحب ، عبر رمزية الشال القابل للرؤية أو الشمّْ ، في ابتعاد عن توصيف الحبيبة مباشرة ، مع إضفاء ما يُشعر بأن الشاعر عاد إلى نفسه هنا ، بعد استذكار اللقاء على طول الرباعيات السابقة.
يا طِيبَ شالٍ تُلَمّْ
عنه النجومْ
وبي همومْ
لأن يُرى أو يُشَمّْ
يعود سعيد عقل في الرباعية السادسة لتفسير الحدث مستذكراً: موعدٌ في ظل شال ولَّد كل هذا الخيال
قُيّضَ لي موعدُ
في ظلِّ شالْ
تُرى الخيالْ
سُكْنَى ومُسْتَنْجَدُ
ليبين أخيراً في الرباعية السابعة ، المكان الذي تستكين فيه نفسه ، في تقديسها للجمال : في السماء ، خلف القمر ، إذ أنه في ابتعاده عن غرائز البشر ، لا يجد لنفسه مكاناً على الأرض!
ما لي سألتُ الزهَرْ
عن منزلي
فقيل لي
هناك خلف القمرْ
الأغنية
من البداية ، يجول البيانو ، المعبر عن الشاعر ، متموجاً حول درجتين صوتيتين : الصول والري ، لتأتي الموسيقى على مقام الكرد على درجة السي ، وكأنما صوَّرت الدرجتان الصوتيتان أولاً أجواء الترقب قبل اللقاء ، ليأتي مقام الكرد على درجة مختلفة ، معبراً عن لحظة اللقاء ، و مبرزاً التضاد ، بين الترقب ، واكتشاف الشال المرخى على شعر رندلى . بنيت المقدمة الموسيقية على امتداداتٍ ، تحقق إيقاعيتها من خلال نبض داخلي ، لا يخالطه الإيقاع الغريزي ، ليتكرر اللحن مرة ثانية مع الأوبوا ، المعبرة عن الشال والحبيبة والجمال . نكتشف بسرعة أن لحن المقدمة ليس إلا لحن الغناء في الرباعيتين الأولى والثانية ، في توافق كامل ، قبل أن تتغير الأجواء مع الرباعية الثالثة ، لأسباب نعرض لها بعد قليل!
تبدأ فيروز الغناء مع جملة : مرخى على الشعر شال لرندلى ، في تخافضٍ لحني ، يعبر عن تهدل الشال على الشعر ، ونلاحظ كثافة التعبير في غناء فيروز عند : هلا هلا ، لإبراز الترحيب ، بعد أن كانت البداية عبارة عن معلومة تصويرية ، لواقع لقاء مع صاجبة الشال ، كما نلاحظ التصاعد اللحني عند : بالجمال ، لإعطاء الأهمية ، بحسبان أن الطريق بدأت من الشال إلى صاحبته التي هي رمز الجمال ، كما أسلفتُ.
يتكرر اللحن ذاته في الرباعية الثانية ، التي تطرح السؤال : من يا حباب الكؤوس من جمّلك ، في توافق واضح ، في التركيز على الجمال ، وعلى العروس ، في ختامي الرباعيتين . أود هنا أن أركز على لمحة موسيقية إبداعية من منصور رحباني ، كان لابد منها لإبراز اختلاف المعاني بين الرباعيتين الأولى والثانية ، مع تكرار اللحن ذاته. أتت هذه اللمحة الموسيقية ، التي لا نجدها في الرباعية الأولى ، بعد كلمة من يا حباب الكؤوس ، في تصاعد لحني موسيقي ، يعبر عن السؤال ، والسبب أن اللحن يتكرر عند جملتين : وردت الأولى في الرباعية الأولى : مرخى على الشعر شال ، ولم تكن صيغتها تحمل السؤال ، فيما تحمل الجملة ، التي تأتي في نفس الموقع في الرباعية الثانية ، صيغة السؤال : من يا حباب الكؤوس ، فوضع منصور هذه اللمحة الموسيقية لإضفاء التعبير عن السؤال ، رغم أن لحن الغناء واحد! نلاحظ أيضاً أن هذه اللمحات الموسيقية ، تستمر على طول الرباعية الثانية ، لإضفاء معاني التساؤل!
بعد الرباعية الثانية ، تأتي مقدمة موسيقية ، تجسد تطويراً لمقدمة الأغنية ، التي كانت على مقام الكرد ، لتنتقل الآن إلى مقام العجم ، فيما يبقى الغناء على الكرد ، إذ أن أجواء اللقاء – الحدث لا تزال مسيطرة!
ينتقل منصور بالغناء إلى مقام النهاوند ، عند: ياطيب شال ، وكذلك عند قيضَ لي موعد ، نظراً لأن النص يتحول هنا عن الحدث إلى استذكاره ! نلحظ هنا مجدداً التصاعد اللحني عند كلمة شال ، في تأكيد على الخيال المستنجد ، الذي سرى بصاحبه من الشال ، إل صاحبته ، إلى الجمال المطلق!
يعود لحن الرباعية الأخيرة ، إلى لحن الرباعيتين الأولى والثانية ، في تمهيدٍ لإنهاء الأغنية ، مع تعديل في الختام على اللحن الأول ، إذ يتصاعد اللحن ، معبراً عن موقع القمر في الكون ، مع إضفاء الصدى على صوت فيروز ، ليتردد في ذلك الكون ، إذ أنه موسيقياً الصوت المعبر عن الجمال المطلق ، لتنهي الموسيقى الأغنية ، بتكرار اللحن ذاته ، مغلفة القصيدة بجرعة موسيقية مكثفة ، كما في كل أعمال منصور!
تجدر الإشارة أيضاً ، إلى أن اللحن تركز في منطقة الأصوات المتوسطة أولاً ، لدى الحديث عن اللقاء ، ثم تركز في المنطقة المنخفضة ، عند العودة لشرح ما سبق اللقاء : قيض لي موعد ، في تمهيد للنهاية ، حيث يرتقي اللحن إلى أعلى الدرجات الصوتية ، لدى الحديث عن الشاعر ، في نرجسيته ، و منزله .. خلف القمر!
وأخيراً
بقي أن أقول ، بأن سعيد عقل ، طبق رومنسيته ، على حياته ، في المجالات المتعددة التي خاضها ، حتى أنه ، في السياسة ، تغنى بجميع المكونات المتضادة ، معتبراً إياها ، جميعها ، من مظاهر الجمال السياسي ، متنقلاً بينها ، متجاوزاً تصادمها ،و متغزلاً بكل منها ، في دفقات عاطفية هي بنت لحظتها ، سرعان ما تغيب ، وقد يعود إليها مرة أخرى بعد حين ، دون أن يجد غضاضة في ذلك ، إن جاء ما يحرض فيه ذلك الدفق العاطفي الخاص بها!
وأن أقول أخيراً ، بأن هذه القصيدة جسدت صورة فيروز ، كأيقونة ، ليس لجمهورها إلا أن يكتفي بالاستماع إليها ، عن بعد!
ملاحظة : للأسف لم تحمل الصورة في الفيديو المرفق أي تعبير عن هذه المضامين ، ليكتفي المخرج بنشر شالٍ مجاني ، شكَّل فضاءاً فقيراً لتسجيل ثريّ!