في مثل هذه الأيام قبل 27 سنة كتبتُ مقالاً نشر في صحيفة الرأي العام الكويتية ، وأنا أرى أنه ما زال صالحاً بعد كل تلك السنوات التي مرت!..
قلتُ في ذلك المقال :
هل صحيح أن لكل غناء عمر ..؟ يرتبط بالأجيال التي عاشته وأحبته ، فإن ذهبَت ذهب ، وجاء غناء جديد ، يقطع الصلة .. ويجتث الجذور؟
هذا السؤال ما كان ليطرح عندنا فيما مضى ، فالفروق بين الأجيال الثلاثة التي تتعايش في عصر واحد لم تكن واضحة ، الجد يعمل ، والأب يعمل ، والابن يعمل ، والكل في حرف متقاربة ، العلم بعيد عن التناول ، والجميع درس بنفس الأسلوب ، في الكتاب ، المدرسة الأولى ، وفي الحياة ، الجامعة الأولى . الحياة فيها المر والحلو ، فيها إيقاع بطيء ساذج ، فيها الأسرة التي تعيش في بيت واحد كبير ، يضمها في حناياه ، ويشعرها بالأمن إن أغلقت الأبواب على جنتها الصغيرة ، حيث تتعانق الخضرة والبحرة والفسحة ، وحيث لا يوجد ما يحجب نجوم السماء ، وعندما تجتمع الأسرة ليلاً ، تأكل على بساط واحد ، والأب أو الجد ، رأس العائلة ، وما يحبه من غناء يحبه الجميع .
التوازن بين المجتمع وغنائه
وهكذا تناقلت الأجيال غناءها في تواصل غريب ، ما كان يغنى في الحجاز أو الأندلس منذ مئات السنين ، مازال حياً في حنايا الأفئدة والصدور، وما بني بعدها لا تحس بتطوره إلا إن قارنت بين عناصره في فترات متباعدة.
الألحان الموسيقية العربية جاءت إذاً متوافقة مع تطور الأجيال ونمط حياتها ، فيها انسيابية الأفق البعيد ، وأفقية نسيج المدينة ، وإيقاعية الزخارف الملونة ، وتكرار المقرنصات اللانهائي ، والتفاف القوام الأهيف ، وحزن الفراق ، وفرحة اللقاء. فيها نداء الليل الطويل ، وموال الفخر والأخوة ، فيها قدود حلب ، وموشحات الأندلس ، وأدوار مصر ، وقصائد قيس ليلى ، وجميل بثينة ، وقل لمليحة الدارمي، فإن غنتها الأسرة في ليلة ، فكأنها استحضرت الزمان والمكان.
بداية القرن العشرين واستمرار التوازن
وحل القرن العشرون ، عندنا كما عند غيرنا ، وجاءت رياح التطور تحمل بذرة التواصل مع الغرب ، وتغيرت البنية الثقافية والاجتماعية ، في تواصل مع الأمس وتطلع للمستقبل ، يحكمه توازن تطور المجتمع والعلاقة بين الأجيال من جهة ، وتطور الغناء من جهة أخرى .
لم يبق أهل الموسيقا بعيدين عن هذه البيئة الجديدة ، فقد كتب كبار الشعراء للغناء ، فارتقوا بالنسيج اللغوي للأغنية ، ونقلوه من نسيج بسيط ساذج ،لا يخلوا من صور معبرة ، ولكنه يلائم بنية مجتمع الأمس الثقافية المتواضعة ، إلى نسيج راق يعبر عن عواطف الناس ، ومعاناتهم وآمالهم.
ولحن موسيقيون كبار ، فجاءت لغتهم الموسيقية ، أصيلة معاصرة ، فيها ألق الجملة اللحنية العربية وانسيابيتها ، كما كانت أبداً ، وفيها روح التعبير باللحن عن الصورة اللغوية المكتوبة ، فحققوا تواصل نتاجهم الإبداعي المعاصر مع تراثهم . وظفوا العود والناي والقانون ، تلك الآلات الموسيقية الأصيلة ، التي عاشت منذ آلاف السنين ، في أساليب دمجت روح الماضي مع خلايا الحياة المعاصرة ، واستخدموا الإيقاعات والمقامات الموسيقية التي شرحتها كتب الموسوعيين الكبار ، كالكندي والفارابي وابن سينا وصفي الدين ، في مسالك وجمل لحنية جديدة ، وبنوا ألحانهم حسب أسلوب الغناء المتقن ، الذي شاع وانتشر مع كبار مغني العصرين الأموي والعباسي، حيث إيقاع اللحن يختلف ويتوافق مع إيقاع الشعر المغنى ، ولكنهم ضمنوها تعبيرية جديدة ، تحاول أن ترسم باللحن جوهر المعنى . ومثلما تطورت الموسيقا ، عبر ابداع ابن جامع وإبراهيم ابن المهدي الفطري ، وصنعة الموصليين إبراهيم وابنه إسحق ، واختزانهم للأصوات المغناة ، وتوثيق كتاب الأغاني لأخبار المغنين ، وزيادة الجرعة الموسيقية في موشحات الأندلسيين ، تطور الغناء العربي ، عبر فطرة عبده الحمولي ، وصنعة محمد عثمان ، واختزان بلاد الشام للغناء العربي القديم ، وزادت الجرعة الموسيقية في الإبداع الجديد ، عبر سيد درويش ومحمد القصبجي أولاً ، ثم محمد عبد الوهاب والسنباطي وزكريا أحمد وفريد الأطرش ثانياً ، لتتابع مسارها مع الرحابنة والموجي وبليغ حمدي.. في نسق جديد اعتمد على ملحنين ، اختزنوا تراثهم ، وسعوا للتواصل معه ، مع استشفاف آفاق المستقبل.
وغنت أصوات رائعة ، مستخدمة الأدوات الجديدة لنشر الغناء التي حملها القرن العشرون ، الأسطوانة والمسرح الغنائي والسينما والإذاعة ، وحققت عبر القدرة والصنعة والموهبة والإحساس المرهف استجابة المستمع للطرب ، إن تألقت الجملة اللحنية الأصيلة ، وتقديره للتعبير عن المعنى ، إن راحت الجملة اللحنية تسبر أغوار المضامين والمعاني، وحققت عبر الأداء المتنوع حسب الحاجة تمثلَ المستمع للصورة المغناة ، بأبعادها اللحنية المتعددة ،فغنى عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش أولاً ،ثم غنى عبد الحليم ثانياً ، وقدم صباح فخري وفيروز الأسلوبين المتضادين والمكملين لتنوع الصورة الغنائية العربية ، التي حققت عبر تعدد الرؤى وانسجامها، تواصل الأجيال الثلاثة ، الجد والأب والإبن ، فحققت الأصالة والمعاصرة في آن .
بداية الخلل..
وتسارع إيقاع التطور في النصف الثاني من القرن العشرين ، فباعد بين الأجيال التي تفرقت زماناً ومكاناً ،الأسرة الكبيرة تفككت إلى أسر صغيرة متباعدة ، فغاب الجد في وحدته ، في حديقة عامة ، يتذكر حديقة بيته القديم ، هناك كان يرعى الأزهار ، وهنا عليه ألا يمسها ، وغرق الأب في كفاح صعب طويل لا تبدو له نهاية ، من أجل لقمة أصبحت أعز منالاً، يبتلعها في غفلة من الزمان ، ولهث الشاب للّحاق بعلم يتطور في تسارع رهيب ، لا يترك مجالاً للراحة ، وأمامه نموذج الغرب السابق أبداً بأشواط طويلة ، تزداد امتداداً كل يوم ، وابتلع التلفاز الطفل في عوالم ساحرة من صور متحركة ، تصاحبها أغنيات لا تنقل له شيئاً يصله بأمه وأبيه وأرضه وتراثه ، وقدم أغنيات ساهمت في غياب الأغنية الجماعية الشعبية ، التي كانت الأجيال الثلاثة تشترك في غنائها ، وطرح ، عبر المحطات الأرضية والقنوات الفضائية العربية والأجنبية ، الأغنية السائدة التي احتلت الساحة ، وأنتجتها مواقع لا تعتبر الغناء حاجة أساسية ، وإنما هي حاجة هامشية ، ترافق حاجات أخرى ، وروجت لها أشرطة الكاسيت ، التي فرقت بين السماع وطقوسه المعتادة ، وبحثت عن جمهور شاب ، فسعت لدغدغة غرائزه بدلاً من الارتقاء بذوقه وأحاسيسه ، وغابت فيها الآلات الأصيلة والإيقاعات والمقامات المتنوعة العربية ، ليسيطر فيها الإيقاع اللاهث المقلد لإيقاع غناء المنوعات الغربي والغريب ، ولتحقق انفصال جيل الشباب عن الأجيال السابقة له ، والمتعاصرة معه ، فقد أصبح لكل منهم غناؤه الخاص ، الذي لا يستسيغه الآخرون ، مما نتج عنه شرخ في العلاقات الاجتماعية السائدة.
وتكامل هذا الواقع مع المحتوى الاقتصادي ، بعد أن سيطرت الآلة بإيقاعها الحتمي ، الضاغط على أعصاب الإنسان ليمزقها ، في العمل وفي البيت ، وابتعد الجد ليزداد وحدة ، وسيطر إيقاع اللهاث على الأب والابن طول النهار ، وسيطر الإيقاع الصاخب في غناء الليل الذي لم يعد أحد يتغنى بهدوئه وسكونه ، ليضيع الإنسان بين آلة العمل في النهار وآلة الغناء في الليل ، دون فرق واضح بين هذه وتلك .
ومثلما تفرقت الأجيال ، ليسيطر جيل الشباب ، بلهاثه وإيقاع موسيقاه ، تفرقت عناصر الموسيقا العربية ، فابتعد الشعراء الكبار عن الكتابة للغناء ، ولم نعد نسمع بقصائد تغنى ، ولا موشحات تؤدى ، تجمع الأخوة المتباعدين ، وتصل المسافات والأزمنة ، وغاب غناء الأمس أو كاد ، ليحل مكانه ذلك الغناء الذي يقطع الصلة ويجتث الجذور ، بإيقاعه اللاهث ، وزعيقه المنفر ، فهل أصبح للغناء عمر ؟ يرتبط بالأجيال التي أحبته؟ .. فإن ذهبت ذهب ، وجاء غناء جديد ، يقطع الصلة ، ويغيب الأهل والتاريخ ؟
الجيل الجديد.. وذكرياته المفقودة..
وأصبحت المشكلة اليوم أمر وأدهى ، فقد أدى الخلل الواضح في مسيرة الغناء ، إلى أنه أصبح يقطع الصلة بين أفراد الجيل نفسه ، بل وحتى بين الفرد الواحد وذكرياته ، فباستثناء أعمال قليلة مشرقة ، سرعان ما تغيب في زوايا النسيان ، تسلط الأضواء على أغنيات حل فيها كلام غريب ، يكتب في ساعة ، ويلحن في ساعة ، ويغنى في ساعة ، ويموت في ساعة ،حتى أنه ليس لديه الوقت ليحقق ذكرى لدى المستمع . فالأغنية ، مهما كانت سخيفة المعاني ، قد تذكِّر بموقع غنيت فيه ، أو بموقف عبرت عنه ، موقف لقاء أو وداع ، موقف إحباط أو أمل ، هذه الذكرى أصبحت تموت بموت الأغنية التي رافقتها ، والتي بنيت أصلاً ، كي لا تعيش طويلاً ، ضمن روح الاستهلاك السائدة ، مسببة في ذلك ، تقطع الصلات بين الإنسان وذكرياته ، مثلما يقطع تلك الصلات هدم بيت الطفولة ، تزور موقعه كلما استطعت ، في البداية ، ثم تيأس ،لأن الذكرى لم تعد تستحق العناء.
تراث المستقبل..ما هو؟
إذا كانت الحال كذلك ، وما أظنني بالغت في رسم الصورة السائدة ، ألا يحق لنا أن نتساءل.. ما هو شكل تراث المستقبل وما هو مضمونه ? ما هي مساهمة الأجيال الحالية في إغناء تراثنا الذي أشرقت أشعته مع طلوع فجر التاريخ ؟ وهذا الجيل الشاب اليوم ، عندما يكبر .. ما هو الغناء الذي سيستمع إليه ؟ وهذا قد يسوقنا إلى سؤال محدد : ما هو شكل حاجة الإنسان للموسيقا ؟ وهل يتغير هذا الشكل مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال ؟ هل تتغير المشاعر الإنسانية ؟ وإن كان هناك تغير .. فهل هناك قطيعة بين المشاعر الأصلية والمتغيرة ؟ وإن قال بعض القائلين :هناك قطيعة .. فالإنسان إبن عصره ، والأغنية وليدة زمانها ، فلماذا يحافظ الغرب على تراثه الموسيقي؟ لماذا تقام عشرات الحفلات الموسيقية للفرق السمفونية في كل أصقاع أوربا وأمريكا يومياً ، وعلى مسارح خاصة ، لتعرض أعمال مؤلفين موسيقيين كبتهوفن وموتسارت ..عاشوا منذ مئتي عام ؟ لماذا لا تسمح لغناء المنوعات ،الذي قلدناه فأصبح للأسف هو الممثل للموسيقا العربية ، أن يحتل الساحة ؟ أعتقد أن غايتهم كانت دوماً تحقيق تواصل الأجيال ، وهو الذي يتم عندما يحترم الشعب تراثه ويقدمه للأجيال الجديدة ، ويشجع التجارب والأعمال المعاصرة المستندة إلى دراسة عناصر اللغة الموسيقية الموروثة ، وتشكيلها من جديد ، لكي تعبر عن مضامين معاصرة تحقق عبر خلاياها اللحنية ، ومسالكها النغمية ، تواصل جميع المتلقين معها ، عبر مفاهيم مشتركة تابعها المتلقي ، وفهمها المبدع ، ودرسها وطورها.
فهل نتوقف عن تقليد الغرب في كل ما هو مشوه ? ونتبع خطاه السديدة في الحفاظ على تجانس مجتمعه ، وتواصل أجياله ، فنقدم تراثنا للأجيال الشابة ، ونشجع التجارب المعاصرة المرتبطة بقواعده والمطورة لها ؟ لابد من القول إننا بهذا وحده ، نضمن لتراث المستقبل النبض والحياة ، وإلا .. لكان غناء اليوم .. هو تراث المستقبل..!
* نشر في صحيفة الرأي العام الكويتية عام 1994