في مساء اليوم الرابع من شهر أيار / مايو 1991 ، رحل محمد عبد الوهاب .. وانطوت بذلك صفحة زاهية من صفحات ملف الغناء العربي المعاصر..
في ذلك اليوم ، كانت قد مضت 6 سنوات على انطلاق برنامجي التلفزيوني الأسبوعي : العرب والموسيقى على الشاشة السورية . وسرعان ، وقد علمت بالنبأ الحزين ، ما راح شريط يمر أمام ناظري يستعرض أعمال عبد الوهاب على مر السنين.
بعد طول تفكير ، قررت أن أقدم حلقة خاصة من برنامج العرب والموسيقى أخصصها لاستعراض مسيرته الفنية والإبداعية… وسرعان ما تبين لي أنه كان قراراً متسرعاً!
كان ذلك لأنني من البداية طرحت على نفسي الأسئلة التالية:
لقد غاب قبل عبد الوهاب آخرون.. أم كلثوم ، رياض السنباطي ، محمد القصبجي ،زكريا أحمد، سيد درويش، فريد الأطرش، أسمهان، عاصي الرحباني .. والقائمة طويلة.. ماهي مكانة محمد عبد الوهاب بين هؤلاء..؟ هل كان الأهم..؟ وإن كان كذلك فلِمَ ؟ ..؟هل لأنه كان الأكثر عبقرية ..أم لأنه كان الأكثر إثارة للجدل ؟ أم لأنه كان مضطراً أن يتجاوز نفسه لكي يحافظ على نجومية المطرب بعد التحولات التي طرأت على صوته ؟ أم لأنه كان الأكثر تفاعلاً مع عصره..؟
وسرعان ما تبين لي أن الإجابة لن تكون ممكنة في حلقة واحدة! ولابد من إطار جديد لهكذا بحث وتحليل ..
وهكذا بدأت رحلتي مع برنامج عبد الوهاب مرآة عصره ، الذي أجبرني على دخول عوالم الإنتاج والتوزيع لكي أنجزه ، بعد أن شكك الجميع في إمكانية نجاحه وعرضه وتوزيعه!
أروي اليوم رحلة برنامج عبد الوهاب مرآة عصره معي من الفكرة إلى النجاح ، مع تبيان طريقة توظيف الحاسوب لمساعدتي في عمليات البحث والاسترجاع ، وقد قررت ذلك من البداية ، كما أشرح ظروف التسجيل ، مبتدئاً اليوم بشرح ظروف المشهد الأول من البرنامج والذي مدته 4 دقائق واستغرق تسجيله 8 ساعات، لأسباب تقنية!
في تلك الأيام من أوائل عام 1991 ، كان قد مر عشر سنوات على انطلاق الحاسوب الشخصي في الولايات المتحدة من خلال شركة IBM ، وكان مر 4 سنوات على تعريبه عبر نظام اسمه النافذة في فضاء نظام MS-DOS ، من قبل شركة بحرينية هي 01systems. كان استخدام الحاسوب كمحرر للنصوص أو كمنصة لقواعد البيانات باللغة العربية لا يزال محدوداً عبر العالم العربي ببعض المختصين .. و كنتُ منهم .. وهذا ما سمح لي بأن أقدم على توظيف الحاسوب ابتداءً من عام 1991 ، في دراسة عبد الوهاب وما تلاها!
من البداية رأيت أن أسجل البرنامج خارج الاستديوهات ، رغم أن التصوير التلفزيوني الخارجي كان في بداياته . في يوم تسجيل الحلقة الأولى ، وصلنا صباحاً إلى المنزل الذي كان متاحاً ، والذي استأجره مدير الإنتاج للتصوير .. إذ لم تكن عادة تأجير البيوت لتصوير تلفزيوني قد عرفت في دمشق .. كان المنزل مطلاً على ساحة برج الروس في دمشق ، وهي ساحة كثيفة الحركة ، وتتعالى فيها زمامير السيارات كل دقيقة ، ما يستوجب التوقف عن التصوير والإعادة من جديد! بعد عدة ساعات من التحضير ، كانت كاميرا المخرج رياض هاني رعد جاهزة .
بدأت بتصوير المشهد كعادتي مرتجلاً ، إذ لم يكن من عادتي التقيد بما كنت كتبته من تلخيص عام للمشهد .. قبيل الانتهاء من التسجيل ، كان زامور سيارة يضطرني للإعادة ، وتكرر هذا الأمر عدة مرات .. أخيراً وصلتُ إلى النقطة من المشهد التي أستخدم فيها الحاسوب ، و سرعان ما فوجئتٌ بالمخرج رياض يقول : Stop! فقلت في نفسي : حتى أنت يا بروتس!
أوضح لي بأن شاشة الحاسوب المرئية من خلال الكاميرا كانت تعطي خطوطاً أفقية متلاحقة ، تمنع المشاهدة الواضحة للمعلومات المبينة على الشاشة!
وسرعان ما أدركتُ ما يحدث! إنه الفرق في عدد إطارات تشكيل الصورة في الثانية بين الكاميرا وشاشة الحاسوب! سألته عن عدد الإطارات المصورة في الثانية التي تسجلها الكاميرا ، فتبين أنها تختلف عن عدد الإطارات في شاشة الحاسوب بإطار واحد ، كانت تولده الكاميرا لاستكمال الثانية الواحدة ..
كانت شاشتي قديمة ، إذ كنت اقتنيت الحاسوب من عدة سنوات .. وهكذا ظهرت مهمة جديد لمدير الإنتاج ، لتوفير شاشة حاسوب حديثة.. وبعد ساعات من الانتظار أتت شاشة ، ولكنها لم تكن صالحة ، ليعود ويبحث عن أخرى ..
أخيراً حصلنا على شاشة حديثة ، وبعد تجريبها تبين أنها متوافقة مع الكاميرا . كان علي أن أعيد تسجيل المشهد من بدايته مرة أخرى ، بعد انتظار امتد لثمانية ساعات منذ بدء التحضير!! كان علي رغم كل هذا ، أن أكون حيوياً ومؤثراً ومعبراً بعد طول انتظار .. دون أن يظهر هذا للمشاهدين .. وهكذا كان ، وتم تسجيل المشهد الذي أنشره اليوم والذي مدته حوالي 4 دقائق ، استغرق تسجيلها 8 ساعات!
أشرت في تقديم المشهد الأول من برنامج عبد الوهاب مرآة عصره إلى الأسئلة التي طرحتُها من البداية : ماهي مكانة محمد عبد الوهاب بين الكبار ..؟ هل كان الأهم..؟ وإن كان كذلك فلِمَ ؟ ..؟هل لأنه كان الأكثر عبقرية ..أم لأنه كان الأكثر إثارة للجدل ؟ أم لأنه كان مضطراً أن يتجاوز نفسه لكي يحافظ على نجومية المطرب بعد التحولات التي طرأت على صوته ؟ أم لأنه كان الأكثر تفاعلاً مع عصره..؟
وسرعان ما تبين لي أن الإجابة لن تكون ممكنة في حلقة واحدة من برنامج العرب والموسيقى الذي كنت أقدمه أسبوعياً على الشاشة السورية ! ولابد من إطار جديد لهكذا بحث وتحليل.. ماكان سيدفعني إلى دخول عالم الإنتاج والتوزيع التلفزيوني وأنا الأستاذ الجامعي ، في مغامرة غير مضمونة النتائج ، إذ أجمع من استشرتهم من المنتجين والموزعين على استحالة شراء المحطات التلفزيونية العربية لبرنامج في عدة حلقات عن شخص واحد ، بغض النظر عن أهميته ، يقدمه شخص واحد!
قررتُ الدخول في تلك المغامرة ، وشجعني على ذلك أخي الدكتور أحمد رجائي آغا القلعة رحمه الله ، ودعمني ، وخاصة في مجال الإنتاج. قررتُ أيضاً ألا أقيد نفسي بمدة ، وأن أسعى للإجابة عن هذه الأسئلة بناء على تحليل معمق ، ولو اضطرني الأمر لاستعراض شامل لتطور الغناء العربي في مصر في القرن العشرين ،ابتداءً من أول إشارة تدل على وجود محمد عبد الوهاب فنياً (1915) ، وحتى آخر عمل له: أسألك الرحيل (1991).. لاشك في أن محمد عبد الوهاب كان سيشكل محور العرض .. ولكن تنافسه مع الآخرين على قمة الغناء العربي ، عمم العرض ليشمل الخطوط العامة لفنهم أيضاً، فن سلامة حجازي و سيد درويش، وأم كلثوم ، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، وفريد الأطرش، وأسمهان، وعبد الحليم حافظ ، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد،.. وشعر أحمد شوقي ، وأحمد رامي،.. وما يتطلبه ذلك من استعراض وتحليل لمئات الأعمال الغنائية التي أنتجتها وأدتها ونشرتها تلك النخبة من كبار الفنانين.
بالمقابل كان علي أن استعرض أيضاً تأثير أدوات العصر الجديدة ، ابتداءً من الأسطوانة، وصولاً إلى السينما، والإذاعة ، فالتلفزيون ، على الغناء العربي ، إذ أن عبد الوهاب عرف كيف يوظف تلك الأدوات ويستغلها أكبر استغلال في سعيه الدائم للبقاء في قمة الغناء العربي..
الوسيلة الوحيدة لإنجاز كل ذلك كانت عبر بناء قاعدة للمعلومات لأعمال عبد الوهاب والآخرين ، وتوظيف الحاسوب في ذلك.. وأن أوظف الحاسوب في كتابة النص أيضاً ، ما يسهل البحث والاسترجاع والمقارنة ، رغم أن عمر الحاسوب الشخصي باللغة العربية لم يكن يزيد عن 5 سنوات!
في نشرة لاحقة أشرح رحلة البرنامج مع التلفزيون المصري!
حلقه ممتعه غنيه بالمعلومات المميه