تحل اليوم الذكرى التاسعة عشرة لرحيل ربى الجمال ، إذ رحلت في اليوم الثاني عشر من شهر نيسان / أبريل عام 2005 ، ولذا فقد رأيت أن أحتفي بها ، ليس فقط كصوت قادر، و إنما أيضاً كقدرة استثنائية على التعبير ، غابت عن أغلب من عاصرها من الأصوات ، بعد جيل الكبار ، ولكنها بالمقابل ، وشت بمعاناة مريرة ، أكسبتها تلك القدرة ، وكبلت روحها ، فلم تجد لها مخرجاً إلا عبر الغناء ، ولكنها تسببت أيضاً ، وللأسف ، في إبعادها عن مسارات النجاح!
أطرح اليوم في هذا السياق أسئلة متعددة : ماذا لو قيض لها أن تولد في عصر الكبار؟ ، هل ظلمها التاريخ ؟ أم ظلمتها الحياة ؟ أم هي ظلمت نفسها ؟ أوضح رأيي ، كما أروي ماحدث عندما رأيت أنها جديرة بأن تشترك في برنامجي التلفزيوني عن أسمهان .. ثم أبين كيف ضاعت تلك الفرصة!
ماذا لو قيض لها أن تولد في عصر الكبار؟
وفي الواقع فإنني أرى ، رغم تحفظات سأوردها لاحقاً ، أن ولادة ربى الجمال التي كانت في حلب ، و أتت قبيل نكسة حزيران ، واكبت عصراً غير ملائم ، إذ أذنت تلك النكسة لانتهاء فترة النهضة التي عاشتها الموسيقى العربية في القرن العشرين ، ولبدء التحول على مستوى الجمهور ، وخاصة الشاب ، من التقدير العالي للأصوات ، سواء أكانت أصواتاً قادرة أم أصواتاً معبرة ، تحملها ألحان وضعها ملحنون مميزون ، إلى قبول أصوات متواضعة القدرات ، يحملها إيقاع لاهث ، روج لها إنتاج ، استبعد أي مواهب تلحينية واعدة ، وراح يلهث أيضاً ، في بحثه عن المال .. لا عن حماية الذوق العام !
وأنا أرى ، من حيث المبدأ ، أنها لو قيض لها أن تولد في عصر النهضة ، وتبناها ملحنون كبار ، لكان لها شأن آخر!
أدت أغنيات للسيدة أم كلثوم .. ولكنها لم تدرك أنها بمعاناتها المريرة كانت أقرب لأسمهان!
أنشر أولاً كيف تعرف عليها الجمهور العربي لأول مرة ، عبر أول مشاركة لها في مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة ، و أبين كيف حصلتُ على تلك المشاركة من التلفزيون المصري. كان ذلك عبر علاقاتي الشخصية مع إدارته ، التي تشكلت من خلال برنامجي التلفزيوني : عبد الوهاب مرآة عصره ، ثم مشاركاتي المتتالية كعضو دائم في لجان تحكيم مهرجان الإذاعة والتلفزيون في القاهرة ، وخاصة مع صديقي الراحل ممدوح الليثي رئيس قطاع الإنتاج ، ليبث التلفزيون العربي السوري تلك المشاركة ، فيتعرف عليها الجمهور السوري العريض لأول مرة ، إذ لم نكن قد دخلنا عصر الفضائيات بوضوح ، ثم ليعيد بثها عدة مرات ،بناء على طلبات عديدة.
وفي هذا السياق ، فإنني أتوقف اليوم أيضاً عند المرة الأولى التي لامس سمعي صوتها ، في أداءٍ لدور أسمهان.. كان ذلك عندما ظهرت على مسرح دار الأوبرا في القاهرة لتقوم بدور أسمهان في مشهد من أوبريت قيس وليلى ، إلى جانب الكبير وديع الصافي ، في دور عبد الوهاب .. في تلك الليلة ، تأخرتُ في الوصول إلى قاعة دار الأوبرا ، وفيما أنا ألج إلى القاعة ، التي كانت الظلمة تخيم فيها ، فاجأني صوت ينساب .. قيس ! توقفت في مكاني ، ولم أسعَ للحصول على مقعد .. تابعتُ الأداء وأنا أتساءل .. من هي صاحبة هذا الصوت ؟
في تلك الليلة قدمت ربى الجمال أداءاً تعبيرياً قل نظيره بين الأصوات التي عاصرَتها ، يشهد على ذلك حجم التصفيق الذي انتشر عبر أكف الحاضرين ، في ترحيب واضح .. إذ لعلهم كانوا مثلي يكتشفون القدرات التعبيرية عند هذا الصوت لأول مرة ، رغم أننا كنا سمعناه ، عندما أدت أغنية افرح ياقلبي للسيدة أم كلثوم في دورة سابقة لمهرجان الموسيقى العربية في دار الأوبرا ، وقد نشرت تسجيل تلك المشاركة أعلاه ، ورغم تفوقها في أداء تلك الأغنية ، وفي أغنيات أخرى للسيدة أم كلثوم ، ولكن أداءها لدور أسمهان في قيس وليلى ، مع القدرة التعبيرية التي سمح لها بها ذلك الدور ، والتي تشي بمعاناة داخلية مريرة ، تقترب مما عانته أسمهان ، وضعها في مستوى فني مختلف!
برنامجي التلفزيوني عن أسمهان!
كنتُ في ذلك الوقت أحضِّر برنامجي التلفزيوني عن حياة وفن أسمهان ، وأبحث عن صوت لأداء بعض المشاهد الغنائية التي اعتدت على أن ترافقني أثناء التحليل الموسيقي الذي أجريه أمام الكاميرا .. وسرعان ما رأيتُ ، وأنا أستمع إليها في أدائها تلك الليلة ، أنها الصوت المثالي للقيام بهذه المهمة ..
خابرتها تلك الليلة ، وعرضتُ عليها المشاركة في البرنامج .. رحبت ، واتفقنا على اللقاء في دمشق خلال أيام .. وعندما أعلمتُ الأخت الدكتورة رتيبة الحفني رحمها الله بما حدث ، حذرتني قائلةً : مشكلة ربى الجمال هي موجات تغير المزاج ، التي تجعل من الصعب عليها الوفاء بالوعود ، والتقيد بالمواعيد .. ثم شرحت لي كم عانت حتى استطاعت إيصال ربى الجمال إلى مسرح دار الأوبرا وفق موعد محدد ، وأنها لم تكن لتبذل هذا الجهد ، لولا إدراكها لأهمية صوتها وأدائها ، ولكن هذا كان لموعد واحد وانتهى الأمر، فماذا عن تسجيلات متعددة للتلفزيون؟
وفعلاً ، تبين لي ، وبعد مواعيد لم تلتزم ربى الجمال بها ، أن من الصعب الاعتماد عليها في تسجيلات للتلفزيون ، مواعيدها محددة وبدقة ، ولكنني وبسبب درجة اقتناعي بصوتها ، تخليت عن فكرة إشراك أي صوت آخر ، و قررت تقديم البرنامج وحيداً، طارحاً السؤال : هل ظلمها التاريخ؟ أم الحياة؟ أم هي ظلمت نفسها؟
فلنتابع التسجيل ، لاستكشاف قدرات ربى الجمال التعبيرية ، مع العلم بأنني استبعدتُ منه أداء الأستاذ وديع الصافي لدور عباس فارس ، الذي قام بدور والد ليلى ، إذ أتى في إطار تهكمي ، و وضعت مكانه الأداء الأصلي بصوت عباس فارس ، بعد ضبطه ، حفاظاً على المستوى الفني لهذا التسجيل!
مقال قيم و دراسة لا أشك في اكاديميتها. شكراً
أداء رائع جدا والملاحظات عن قرب صوتها من الراحله اسمهان دقيق. فعلا خساره لهذا الصوت الجميل
رائع
تسمع لمرات ومرات اداء رائع ومحافظ على اللحن الجميل
تشكر دكتور لجهودك الكبيرة على نشر الأصيل من الموسيقى العربية
يكفينا فخرا انها اعادت اجمل انواع الحب العربي قصصا وشعرا الذي أنتجه تاريخ الشعر العربي في الغزل
صوتها هو ذاته موسيقى بكل سلالمها تشدك من حيث لا تدري
صوتها ذاته يغنيك عن الموسيقى
صوتها بلّغ للحب معانيه لهفة وجمال
يا لسعدي وانا استمع الى صوتها الموسيقي المتربع على عرش الحب والجمال
أداء وصوت أكثر من رائع رحيلها المبكر خسارة كبيرة اعتقد انها ظلمت من الثلاثة الحياة ونفسها والتاريخ
لروحها السلام
صوت متمكن و واثق، ينضحُ بحزنٍ عميق، أكْسَبَهُ فرادةً وجمال، هل هناك أي تسجيلات في الأستوديو لها ؟ كل الشكر لكم