أتوقف اليوم عند ذكرى إطلاق إذاعة لندن قسمها العربي في 3 كانون الثاني / يناير 1938 وسنرى أننا يحق لنا أن نتوقف عندها نظراً لتأثيرات تلك الإذاعة على مسار الغناء العربي أثناء الحرب العالمية الثانية.
عندما أطلقت إذاعة لندن قسمها العربي كانت الحرب العالمية الثانية على الأبواب ، وكانت إيطاليا قد أطلقت إذاعتها من مدينة باري باللغة العربية للترويج للأفكار الفاشية ، ثم بدأت بمهاجمة السياسة البريطانية في الشرق الأوسط فقررت بريطانيا إطلاق إذاعتها الخاصة باللغة العربية ، وكذلك فرنسا وألمانيا ، ما أطلق حرباً سميت حرب الإذاعات.
لقد شكلت حرب الإذاعات باللغة العربية خلال الحرب العالمية الثانية فرصة للموسيقى العربية ، لأن تلك الإذاعات كانت تقدم أخبار المعارك بما يلائم مصلحتها ـ وبالتالي فقد أصبحت كل إذاعة بحاجة إلى اجتذاب المزيد من المستمعين إليها، على حساب الإذاعات الأخرى، من خلال تنويع برامجها، وتقديم ما يجتذب المستمع العربي إليها، ما أعطى للغناء أهمية خاصة ، من جهة ، وما أثَّر في تطوره إذ أطلق مرحلة جديدة مختلفة تماماً عما ولَّدت الأسطوانة والسينما ، نظراً لأن إذاعة لندن كانت تطلب أن تكون مدة التسجيلات 27 دقيقة مخالفة بذلك كل توجهات الغناء في تلك المرحلة لاختصار مدد التسجيلات ما تسبب في أن لجأ كل ملحن إلى أسلوب لتحقيق ذلك كإضافة التقاسيم في البداية ، أو الاعتناء بالمقدمة الموسيقية وإطالة مدتها ، أوإطالة مدة الأغنية بالعودة إلى الارتجالات.
أنشر أولاً تسجيلاً صوتياً للمذيع المصري أحمد كمال سرور وهو يعلن إطلاق إذاعة لندن باللغة العربية في مثل هذا اليوم من عام 1938 ، ونلاحظ أنه لا ينطق الجيم المصرية وفق تعليمات الإذاعة كما يؤكد على الموسيقى في أول ما يذكر من المواضيع التي ستعرضها الإذاعة.
أنشر تالياً صورة برنامج اليوم الأول في إذاعة لندن
عندما أطلقت إذاعة لندن قسمها العربي ، سرعان ما ردت إذاعة باري بالتشويش على المحطة الجديدة، كما حولت بثها ليكون قريباً جداً من بث موجة إذاعة لندن، لإحداث التداخل بين الإذاعتين، وركزت على تلاوة القرآن، كما اعتمدت على أسطوانات الأستاذ عبد الوهاب، لتبث أغانيه في ذات الفترة التي كانت تبث خلالها إذاعة لندن باللغة العربية، والتي كانت تعتمد على الموسيقى الغربية.
ردت إذاعة لندن، وبفضل سيطرة البريطانيين على مصر، باتفاق مع إذاعة القاهرة، تنقل بموجبه إذاعة لندن بشكل متزامن مع إذاعة القاهرة، تلاوة للقرآن الكريم بأصوات كبار المقرئين، وأتبعت ذلك بنقل مباشر من القاهرة، لقصصٍ لكتاب مشهورين، يرويها مذيعو إذاعة القاهرة، ولحفلاتٍ لكبار المطربين والمطربات.
ولكن ذلك لم يفت من عضد الإذاعات الأخرى، فكان وكلاء الإذاعتين الإيطالية والألمانية يحصلون على أسطوانات كبار الفنانين من الأسواق، فور صدورها، ويرسلونها إلى إذاعات المحور فتذيعها.
ردت إذاعة لندن بدعوة كبار المطربين في مصر إلى لندن لتسجيل أغانٍ لهم من إنتاجها، أو لتسجيلها في إذاعة القاهرة أو إذاعة القدس لحسابها ، بغية حصر بثها بإذاعة لندن، ما أدخل الفن في خضم حرب الإذاعات، وقدم فرصة للمطربين والمطربات لإنتاج أغان كثيرة، وللملحنين لصياغة ألحان مدتها طويلة تقارب الثلاثين دقيقة، في أجواء تلحينية تصويرية هادئة ومعبرة، وبمقدمات موسيقية طويلة ، بما يتجاوز المدة التي كانت ممكنة من خلال الأسطوانات ، أو السينما.
وبشكل معاكس لما أحدثته الأسطوانة من قيود حول مدة التسجيل كيلا يزيد عن 6 دقائق ، وهي المدة التي يمكن للأسطوانات الأولى أن تحتويها ، ولما أحدثته السينما من تحولات فرضت مدة أقصر و تعبيراً عن أحداث الفيلم ، أتت الإذاعة لتطلب أغنيات ذات مدة لا تقل عن 27 دقيقة ، مع تفضيلها القصائد المغناة ، كي تكون متابعة في جميع أنحاء العالم العربي ، ما وجه الغناء إلى القصائد المطولة ، كقصائد الجندول وكليوبترة والكرنك عند عبد الوهاب ، وقصيدتي يا لعينيكِ وهل تيم البان لأسمهان ، و أضنيتني بالهجر لفريد الأطرش في نسختها الأولى عام 1939 ..
وقد تسبب هذا في أن لجأ كل ملحن إلى أسلوب لتحقيق ذلك ، كإضافة التقاسيم في البداية ( يا لعينيكِ لأسمهان مع السنباطي وأضنيتني بالهجر في نسختها الأولى مع فريد الأطرش) ، أو الاعتناء بالمقدمة الموسيقية وإطالة مدتها ( عبد الوهاب وفريد الأطرش ) ، أو إطالة مدة الأغنية بالعودة إلى الارتجالات كما فعل زكريا أحمد في اللجوء إلى التغني بكلمة يا ليل بشكل مرتجل في تسجيله لأغنية أهل الهوى لإذاعة لندن إذ حول الأغنية إلى مايشبه ما يسمى الهنك في الدور.
أنشر اليوم أيضاً هذا المقتطف من التسجيل النادر لزكريا أحمد في تسجيله لأغنية أهل الهوى لحساب إذاعة لندن ، إذ أنه لجأ إلى الارتجالات بالتغني بكلمة يا ليل ضمن الأغنية لتحقيق المدة المطلوبة!
معلومات هامه وتحليل موضوعي لأهمية الاذاعات المتنافسه في نشر الموسيقى والأغاني العربيه وتحوير في الشكل العام للمواكبه الزمنيه