أنشر اليوم ، وفي ذكرى رحيل أمير الشعراء بشارة الخوري ( الأخطل الصغير ) في 31 تموز / يوليو 1968 ، وقائع حفل مبايعته أميراً للشعراء ، الذي جرى في بيروت ، و شاركت فيه فيروز بقصيدته : يا نسيم الدجى. أحلل الأغنية ، و أطرح أسئلة حول أسباب اختيار الأخوين رحباني هذه الأغنية بالذات للمشاركة في حفل المبايعة ، و حول وقائع ذلك الحفل ، ثم أطرح السؤال : لِمَ بقي لقب أمير الشعراء لصيقاً بأحمد شوقي في الأدبيات الشعرية رغم تلك المبايعة ، وصولاً إلى طرح استطلاعٍ للرأي حول تلك الأسئلة.. في إجمالها!
في الرابع من حزيران / يونيو عام 1961، أقيم في قصر الأونيسكو في بيروت مهرجان تكريمي لبشارة الخوري ( الأخطل الصغير ) ، تعاقب على الكلام فيه ، عدد من كبار الشعراء والأدباء ، كان منهم : صالح جودت ( مصر ) ، محمد مهدي الجواهري ( العراق ) ، عمر أبو ريشة ( سورية ) ، أمين نخلة و سعيد عقل ( لبنان) . تم خلال الحفل مبايعة الخوري أميراً للشعراء ، من قبل الشعراء الحاضرين ، وعلى لسانهم قال الشاعر أمين نخلة:
أيقولون أخطلٌ وصغيرُ * أنت في دولة القوافي الأميرُ
أما الشاعر بشارة الخوري فقد ارتجل الأبيات التالية :
أيومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري * من ذا يغنّي على عودٍ بلا وترِ
ما للقوافي إذا جاذبتها نفرت * رعت شبابي وخانتني على كبري
كأنها ما ارتوت من مدمعي ودمي * ولا غذتها ليالي الوجد والسهرِ!
شاركت فيروز في الحفل ، وغنّت ، بمرافقة بوغوص جيلاليان على البيانو ، إذ أن المناسبة لم تكن تسمح بمرافقة الفرقة الموسيقية للأداء ، قصيدتي “ملعب الأحلام” ، التي قيل بأنها من شعر ابنه عبد الله بشارة الخوري ، ثم نسبها منصور رحباني لاحقاً إلى الأب ، و”يا نسيم الدجى” من شعر الأخطل الصغير. قدمت فيروز قصيدة “يا نسيم الدجى” في السنة نفسها، في بعلبك، ثم في دمشق ، مع الفرقة الموسيقية.
سؤال هام..
ومن البداية ، وأنا أدرس ملف هذه الأغنية ، استوقفتني فكرة جديرة بالتوقف عندها : لماذا اختار الشعراء أميرين لهم : أحمد شوقي ثم بشارة الخوري ، ممن تداول المغنون أشعارهم ؟ هل كان للغناء دور في هذا .. ؟
كانت مبايعة أمير الشعراء الأول أحمد شوقي ، يوم الجمعة 29 أبريل / نيسان 1927 . حتى ذلك الوقت لم يكن شعر شوقي قد انتشر تماماً عبر غناء عبد الوهاب ، إذ كان عبد الوهاب قد غنى من شعر شوقي : منك يا هاجر دائي ، و قلبٌ بوادي الحمى ، عام 1924 ، ثم قصيدة خدعوها بقولهم حسناءُ ، عام 1927 ، فيما كانت الأغاني الأخرى لعبد الوهاب في تلك الفترة ، ومن نظم شوقي ، بالعامية ! ما يقود إلى أن شوقي حقق مكانته من خلال الشعر أساساً. فماذا عن بشارة الخوري؟
هنا قد تختلف النتائج ، فعندما تمت مبايعة بشارة الخوري ، في عام 1961 ، لإمارة الشعر ، بعد شوقي ، كان عبد الوهاب قد غنى له: الهوى والشباب عام 1931 ، ثم جفنه علم الغزل عام 1933 ، و أنزلت آية الهدى عام 1936 ، والصبا والجمال و يا ورد مين يشتريك عام 1939 ، ليأتي فريد الأطرش ويغني له أضنيتني بالهجر عام 1939 ، وكذلك فيروز ، عندما غنت له ذكرى بردى 1952 ، ووداد عام 1952 أيضاً ، و ندى عام 1954 ، وأسمهان التي غنت له قصيدة أسقنيها عام 1939 ، على سبيل المثال لا الحصر .. وكل هذا كان قبل مبايعته أميراً للشعراء ..
نعم ، أنا أعتقد أن الغناء ، كان أحد أهم النوافذ التي انتشر من خلالها شعر بشارة الخوري ، ما أدى ، إلى جانب أسبابٍ أخرى طبعاً ، إلى مبايعته أميراً للشعراء ، دون أن ينتقص هذا من مكانته الشعرية المشهود لها ، إذ كان الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة ، وهو المعروف بعنفوانه ، من بين الحاضرين والمبايعين ، و قد تأكدت شخصياً من هذا!
و في هذا السياق ، أعتقد أن مشاركة فيروز في هذه المناسبة ، كانت تأكيداً لهذه الفكرة ، فيما لم يشارك عبد الوهاب ، في حدود علمي ، في حفل مبايعة شوقي! بل إنني قد أتجاوز حدودي قليلاً ، فأقول بأن قصيدة يا نسيم الدجى ، ليست من أهم قصائد الخوري ، فيما يتبين لنا ، ونحن نتابع التصفيق المرافق لأداء فيروز للقصيدة ، من قبل حاضري حفل المبايعة ، أثر الغناء في تحقيق نجومية الشعر! فهل اختارها الأخوان رحباني ، المعروفَين بعنفوانهما ، لإيصال هذا المعنى؟
تحليل أغنية يا نسيم الدجى
بُني اللحن على مقام النهاوند ، في صورته الرومنسية الملائمة لأجواء القصيدة ، والتزم الأخوان رحباني فيه بقواعد تلحين القصيدة التقليدية ، آخذين بعين الاعتبار ، المناسبة التي ستؤدى فيها القصيدة غناءاً ، حيث تستوجب تلك القواعد ، وجود جملة لحنية خاصة ، لكل بيت من أبيات القصيدة ، تمتد على طول البيت ، تبدأ مع بدايته وتنتهي بنهايته ، دون أي لوازم موسيقية أو تقاطع مع الموسيقى ، في توافق مباشر مع ما ساد في الشعر العربي التقليدي ، من ضرورة اكتمال الفكرة الشعرية في بيت واحد، ضمن القصيدة متغيرة الأفكار والصور الشعرية ، واعتبار ما خالف ذلك ، من توظيفٍ لبيت ثانٍ أو أكثر ، لإكمال الفكرة الشعرية ، ضعفاً لدى الشاعر.
تستوجب القاعدة ذاتُها استقرار اللحن في البيت الأول ، على درجة استقرار المقام الرئيسي، لإبرازه وتحديده من البداية .
تبدأ الأغنية بلحن هادئ ، يؤديه بوغوص جيلاليان على البيانو ، ويكتسب إيقاعيته الساهمة من خلال نبض خلاياه الداخلية. يبدأ الغناء بتساؤلٍ ينتهي بتحسر ، دون أي تقاطع مع الموسيقى ، إذ نام الخليّون ولم ينم الشاعر ، ويعبَّر عن التحسر بتخافضٍ لحني ، يحقق أيضاً قاعدة إبراز استقرار المقام في البيت الأول ، في دمج للتعبير و قواعد التلحين الأصيل في جملة واحدة!. يبدأ البيت الثاني ، بجملة لحنية متوافقة مع لحن البيت الأول ، سرعان ما تتفاعل ابتداءاً من كلمة الناس . يُختتم البيت الثالث أيضاً بتخافض لحني ، حتى استقرار المقام ، يعبر كذلك ، في تخافضه ، عن استقرار الحمام على غصون الأشجار حيث تبني أعشاشها!
أتوقف في البيت الرابع عند الانتقال إلى مقام الزنجران ، بإبراز جنس الحجاز ، حسبما يؤديه البيانو ، بينما يستوقفني أن فيروز أدته على مقام الحجاز الأصلي ، أي مع ربع الصوت ، الذي لا يستطيع البيانو أداءه ، كما أتوقف عند تصاعد اللحن عند لفظ الجلالة ” الله ” ، تعبيراً عن السمو ، وعند الختام المعلق للقصيدة .. تعبيراً عن مقولة القصيدة في الجملة الأخيرة : أطيبُ الماء ما سقاه الغمام..
أداء فيروز
أدت فيروز الأغنية بشكل رائع ، عبر عن معانيها ، العابقة بالحسرة ، وأضفى على القصيدة أبعاداً جمالية تلامس الوجدان ، كما التزمت في أدائها بقواعد أداء القصائد ، من حيث ضرورة إحكام اللفظ ، وضبطه من حيث الإيقاع ، وفق أحكام التجويد ، إضافة إلى التشديد على مخارج الحروف ، في تثبيتٍ لجذور القصيدة المغناة ، كإنشاد محسن للشعر!
نص القصيدة
أيْنَ مِنْ مُقْلَتِي الكَرَى يا ظَلَامُ * أَنْصَفَ الليلُ والخَلِيُّونَ نامُوا
مَسَحَتْ راحةُ الكَرَى أَعْيُنَ الناس * فَنَامَتْ وَنَامَ فيها الغرامُ
وأنا تَذْكُرُ الضِّيَاءَ عُيُونِي * مِثْلَمَا يَذْكُرُ الغُصُونَ الحَمامُ
يا نسيمَ الدُّجى اللطيفِ احْتَمِلْنِي * لِيَ عَهْدٌ عِنْدَ النسيمِ لِزَامُ
كُلُّنا ناحِلٌ فَأَنْتَ بَرَاكَ الله * لَكِنْ أنا بَرَانِي السَّقَامُ
احْتَمِلْنِي وَلَا تَخَفْ بِي مَلَاماً * مَا عَلَى صَانِعِ الجَميلِ مَلامُ
احِتَمِلْنِي تَحْمِلْ بَقِيَّةَ رُوحٍ * تَرَكَتْهَا لِشَقْوَتِي الآلامُ
يا نسيم الدُّجُى الحَرِيرَ تَمَوَّجْ * أَطْيَبُ الماءِ ما سَقَاهُ الغَمَامُ
من يريد أن يستمع إلى القصيدة ، كما غنتها فيروز في حفل معرض دمشق الدولي عام 1961 ، إليكم التسجيل ، مع الفرقة الموسيقية:
نقطة أخيرة : سؤال واستطلاع للرأي!
رغم هذه المبايعة ، فقد بقي لقب أمير الشعراء ملتصقاً بأحمد شوقي .. فقط! فلماذا كان ذلك؟ هل بسبب ضعف التغطية الإعلامية نسبة للماكينة الإعلامية في القاهرة ؟ أم عدم قناعة المجتمع بها أصلاً حتى في بلاد الشام والعراق ؟ أم لأنه كان هناك من أحق منه باللقب ؟
يمكنك التعبير عن رأيك من خلال استطلاع الرأي التالي: