لقاء نُشر في صحيفة الاتحاد الإماراتية عشية دخولنا في الألفية الثالثة منذ حوالي 22 عاماً ، ومن المفيد مراجعته الآن، لدراسة مدى مقاربة الرؤية التي رسمتُها في حينه ، من منظور معلوماتي ، لواقع القرن الحادي والعشرين ، كما يعيشه العالم الآن ، وللتحولات التي يشهدها على المستويات الفكرية والثقافية والعلمية والاجتماعية..
أجري اللقاء في دمشق في 29 / 12 / 1999
السؤال: تبدو المفاصل الزمنية وكأنها عتبات للدخول في مراحل جديدة أو تكاد تكون نقطة استراحة تتيح للمرء أن يعيد النظر بالأشياء والمفاهيم . ماذا يعني لك الدخول في الألفية الثالثة على المستوى الفكري والثقافي والإبداعي والشخصي أيضاً؟وهل تنظر إلى هذه الألفية برؤية جديدة تتطلب إعادة تقويم ما سبق في شؤون الحياة؟
الإجابة:
لا بد في البداية من النظر في التطور الذي حدث في النصف الثاني من القرن العشرين وصولاً إلى استقراء صورة العالم في الألفية الثالثة في المجالات العلمية والاجتماعية والثقافية و الفنية..
لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين ولادة ظواهر امتد تأثيرها إلى جميع مجالات النشاط الإنساني، تمثلت هذه الظواهر في زيادة حجم المعلومات المرتبطة بهذا النشاط أو ذاك وتنوع مراكز الإنتاج إضافة إلى الانتشار السريع للمنتج الناتج عن ذلك النشاط مهما اختلفت صوره وأشكاله..
إلى جانب هذا التطور.. كانت تظهر تقانات جديدة تساعد الإنسان على الإحاطة بما يجري ..تجسدت تلك التقانات أساساً بالتقانات المعلوماتية وشبكات الاتصال التي واكبت التطور وساعدت الإنسان على التعامل مع الزيادة الهائلة في حجم المعلومات و اتساع القدرة على تصنيفها واسترجاعها وتناقلها وقراءتها قراءة متأنية مما مكن العلماء من مواكبة الأحداث والتغلب على صعوبة التعامل مع المعلومات هائلة الحجم .. متباعدة المسافات .
استناداً إلى ما سبق ..أعتقد أن صورة القرن الواحد والعشرين العلمية ستكون زاهية إلى حد كبير فهي صورة متصلة بتطور علمي واضح وخاصة في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات .. مما سيوسع طيف الأبحاث من دراسة أدق خلايا الإنسان إلى أبعد كوكب في المجموعة الشمسية في سعي لوضع نموذج عام لفهم تطور الحياة الإنسانية تكون مكوناته النظم المعلوماتية العديدة التي تدرس الآن.. كنظم المعلومات الزراعية والهندسية والرياضية والفيزيائية والجغرافية والصناعية والاقتصادية والسياحية والتجارية والطبية وحتى التاريخية ..القرن القادم سيشهد تداخل هذه النظم وارتباطها ببعض مع دخول قوانين الاحتمالات لكل ما فيه سعي لنمذجة رقمية لظاهرة طبيعية غير مفهومة أو ظاهرة علمية غير مفسرة مع الأخذ بعين الاعتبار لتكامل مصادر المعلومات المتنوعة.
في العصر القادم سيتطور الذكاء الاصطناعي عبر الحاسوب وسيتطور الذكاء الإنساني لكي يتعامل معه في سعي للاستفادة المثلى منه ..في جدلية غريبة لا يعلم أحد اليوم مداها..وبتكامل قواعد المعلومات وتداخلها وتطور الذكاء الإنساني في تعامله مع نظم الذكاء الاصطناعي وعبر التخلص من الأشغال اليدوية والتوجه للتصنيع المؤتمت سيتفرغ الإنسان للتفكير والتحليل والاستيعاب.
السؤال الهام الآن .. الإنسان؟ أي إنسان؟
الإجابة:
سوف يعيش الإنسان التناقض بين أن توحد المعلوماتية والاتصالات صورة العالم العلمية وهذه نقطة إيجابية من حيث المبدأ.. وبين أن توحد الصورة الثقافية على مستوى العالم .. وهذه نقطة سلبية لا بد من معالجة نتائجها .. ولكن قبل الدخول في هذه النقطة لابد من التوقف النقطة الأولى ..هل توحد الصورة العلمية للعالم إيجابي فعلاً أم أن المجتمعات ستختلف في درجة قدرتها على ملاحقة التطور العلمي ذاته بما قد يجر ذلك من نتائج اجتماعية غير محسوبة ؟..
الصورة العلمية الزاهية على مستوى العالم التي رسمت ملامحها قبل قليل والتي يساهم في تعميمها أنها صورة واحدة تتماشى مع جميع الشعوب .. فالعلوم لا تحدها الحدود بين الدول ولا الفروق بين الشعوب.. هذه الصورة سوف تبدأ بالتغير عندما ننظر في العلاقة بين مكونات العالم.. وأعني بذلك المجتمعات التي سوف تكون مختلفة درجة التطور ..وسوف تتغير أكثر عندما ننظر في العلاقة بين عناصر المجتمع الواحد مختلفة درجة التطور أيضاً.. لتغيب ألوانها الزاهية عندما ننظر لتلك الصورة على مستوى الفرد الواحد..والغاية من هذا النظرة المدققة تكمن في الدعوة إلى اتخاذ التدابير التي قد تحد من مظاهر عدم التجانس الذي ستولده التطورات العلمية الحديثة..
في العلاقة بين مكونات العالم من مجتمعات .. وبسبب تسارع التطور العلمي قد تتكون أربعة شرائح من المجتمعات :السباقة واللاحقة والمتعثرة والمتخلفة.الصورة العلمية الزاهية التي رسمتها قبل قليل سوف تكون على مستوى المجتمعات أوضح ما تكون في المجتمعات السباقة ولن تكون مثلها في المجتمعات الأخرى..وهذه فكرة قد يكون من نتائجها أن العالم لن يكون أبداً قرية صغيرة متجانسة بل قد يتحول إلى قرية غير متجانسة بل ومتوترة.
وحتى على مستوى المجتمع السبّاق علمياً..قد تكون تلك الصورة غير متجانسة بل وحافلة بالتناقضات .. التطور العلمي الذي نجمع على أنه يتسارع يوماً بعد يوم سوف يولد فرقاً في التعامل مع التكنولوجيا واضحاً بين الأجيال في المجتمع الواحد..وسيكون هذا التناقض أوضح كلما كان المجتمع سباقاً في التطور العلمي.. منذ فترة ليست بالبعيدة كان تعايش الأجيال محققاً لأن التطور العلمي لم يكن بالسرعة التي يشهدها العالم والتي تتسارع يوماً بعد يوم ..وقريباً ستكون الفروق بين جيلين متتاليين واضحة ومزعجة .التسارع في التطور سوف يولد أيضاً مشاكل للشريحة العمرية الواحدة أيضاً حيث تختلف مستويات قابلية التعامل مع الأدوات التكنولوجية فيما بين عناصرها .. وأخشى أن يؤدي هذا إلى عدم تجانس في المجتمع الواحد مما قد يؤدي إلى زيادة عدد الأفراد الهامشيين في المجتمع وهذا سيولد توتراً واضحاً ومؤثراً إن لم تتخذ التدابير الناجعة في هذا المجال على كافة المستويات.
على مستوى الإنسان الفرد .. ونظرياً ..سوف تكون الصورة العلمية زاهية عند الإنسان الذي يستطيع أن يلاحق التطور المعلوماتي..لأن هناك تكاملاً متوقعاً بين المجالين الثقافي والعلمي عنده.. من المتوقع أن يزداد التوجه إلى التخصص الدقيق في المجال العلمي ..فالتطور العلمي يلغي دور الفرد لصالح المجموع بسبب الصورة المعلوماتية للدراسات والبحوث المتنوعة ..ففي أي نظام معلوماتي شامل تتداخل فيه العناصر العلمية سيكون التنفيذ من قبل أشخاص يعمل كل منهم في اختصاصه الدقيق ..وهو ما يدعونا للتفكير في إيجاد تخصصات شمولية أكثر تحقق التواصل بين الاختصاصات الدقيقة ..خشية حصول ثغرات في المعلومات بينها ..التخصص الدقيق في المجال العلمي سوف يقابله تأثر الإنسان بالتطور المعلوماتي على مستوى الذكاء وأساليب التفكير.. لأن توحيد أشكال المعالجة المعلوماتية في جميع أنحاء العالم سيساهم في تقارب المتعاملين في مجالات محددة عبر الحدود وهذا سيساهم في تقارب أساليب التفكير وهذا إيجابي للوهلة الأولى ولكنه قد يساهم بشكل أو بآخر في توحيد أشكال الذكاء الإنساني وتعامل الإنسان مع حل مشاكله.. ففي السبعينات والثمانينات كان هناك المبرمج الذي يضع البرامج لحل مشكلته على الحاسب بأسلوبه.. اليوم هناك برامج جاهزة لكل شيء .. وهذا مفيد تماماً ولكن له نتائج خطيرة إذا أثرت في إلغاء جانب الاختراع والإبداع لحل المشاكل مما قد ينتج عنه توحيد لأشكال التعامل الإنساني مع المشاكل الطارئة..
في القرن الحادي والعشرين ..سوف تخف ساعات العمل وتخف الحركة لأن الإنسان سيكون قادراً على العمل من منزله عبر حاسبه مما سيزيد من الوحدة والعزلة على المستوى الاجتماعي والإنساني..
وفي المجال الثقافي ستؤمن شبكات الاتصال كشبكة انترنت وبنوك المعلومات ثقافة متكاملة لمن يرغب في الإطلاع على أي شيء .. كبديل أساسي للكتاب ..أي ستكون هناك ثقافة واسعة المجالات .. كما أن هذه الأدوات ستشحذ همم المبدعين المطلعين عليها ..قد تبقى الكتب المطبوعة لفترة قيد التداول .. ولكن الموسوعات الورقية ستغيب لصالح الموسوعات الإلكترونية التي تسمح باطلاع سريع على المعلومات المتشابكة . . زيادة الإطلاع على المشهد الثقافي ستحقق تكاملاً جيداً ..في الحالة النظرية..ولكن هذا سيزيد من الفارق الثقافي بين المجتمعات المؤهلة في هذا الاتجاه وبين غير المؤهلة ..مما سيحقق طغياناً ثقافياً تغيب فيه خصوصيات الشعوب لتسيطر ثقافة واحدة هي ثقافة الأقوياء..فما كان محققاً في الصورة العلمية من توحد الأبعاد العلمية عبر الحدود لم يعد صحيحاً في الصورة الثقافية..
لمواجهة هذا الواقع عربياً ..هناك اتجاهان..علمياً لا بد من السعي إلى تعميق دور التعليم والتأهيل المستمر في مجال المعلوماتية والاتصالات وأساليب التفكير المعلوماتي لكي نكون من المجتمعات اللاحقة بالركب العلمي الموحد للعالم ..وثقافياً لا بد من توظيف المعلوماتية وشبكات الاتصال في اتجاه مغاير يسعى للحفاظ على مظاهر الشخصية الثقافية العربية عبر السعي إلى تعميق النشر الإلكتروني للإبداعات العربية.. عبر دعوة المفكرين العرب إلى الاهتمام بتكنولوجيا المعلومات والنشر من خلالها وإلى الاهتمام بصناعة البرمجيات العربية وتعريب المصطلحات وتبادلها عربياً و السعي لدراسة هندسة اللغة العربية وتطبيقات ذلك معلوماتياً لتحقيق الأمن الثقافي العربي في ظل سيطرة التقانات الجديدة على النشر واختلاف القيم بين المجتمعات ..
والسؤال الآن..هل المبدع العربي مدرك لأهمية المعلوماتية ولدوره الحيوي اليوم في الحفاظ على الثقافة العربية؟ المبدعون العرب ممن هم في سن الخبرة يرون أن القطار فاتهم وأن المعلوماتية هي للشباب. هل نقبل رأيهم بينما هم القيمون على الثقافة العربية لعشرين سنة قادمة؟ لا أعتقد.. هناك ضرورة حيوية لتحقيق اهتمام المثقفين والمبدعين العرب بفهم الأدوات المعلوماتية وتطويع إبداعهم لها .. التفكير عبر النصوص المتشابكة والصوت والصورة والتحريك والفيديو لتوضيح الفكرة. فالتقانة أصبحت تتدخل في صلب أسلوب العرض بل وأصبحت تطور المضمون ذاته..
ولنأت الآن إلى الفن ..الفن بجميع أشكاله ..وبسبب ارتباطه بالأحاسيس والمشاعر سيكون من أكثر مجالات النشاط الإنساني تضرراً بهذا الوضع الجديد الذي تقصر فيه المسافات ويختزل فيه الزمن وتضيع فيه الروح.
أعتقد أن الإنسان عموماً ضائع اليوم.. التقانات الحديثة أغرقته بتسارعها المذهل.. وضغط العمل والتنافس جعل الروح تغيب في أعماق الجسد.. إيقاع الحياة أصبح سريعاً وضاغطاً.. لم يعد هناك وقت للاستمتاع بالموسيقى.. وأحدنا يستمع للموسيقى في السيارة أو أثناء العشاء إن تمكن من ذلك.. عشرات القنوات الفضائية تجعلك لا تتابع عملاً من بدايته أو حتى نهايته.. الموسيقى تتطلب الوقت.. الموسيقيون يعيشون هذا العالم.. وموسيقاهم هي صورة عنه.. تعبر عن تعقيدات العصر وتعقيدات العواطف.. موسيقاهم أصبحت عقلانية أكثر.. ومعقدة اكثر أو انحدرت في نتاجها إلى مستوى الابتذال ومخاطبة الغرائز المباشرة.. ولكن الإنسان بحاجة أيضاً لمقاومة الواقع.. بحاجة إلى إنسانيته وعواطفه .. بحاجة إلى استعادة الإحساس بالجمال ..جمال الحياة.. عبر الفن .. وإلا أصبحت الحياة عبئاً بحد ذاتها.
لقد كان هناك دوماً سعي لفهم تأثير الفنون على الإنسان.. .. وقد كان هذا طويلاً حلم الباحثين والموسوعيين.. من أجل تطوير استخدامها ضمن السعي لكي يحافظ الإنسان على إنسانيته في ظل الحياة المادية المسيطرة والعزلة المتزايدة .. الموسيقى العربية لم تشهد قراءات حقيقية وعلمية مواكبة للتطور المذهل الذي حصل فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين أصلاً ..بسبب بعد العاملين فيها عن الأساليب المعلوماتية في معالجة المعلومات ..أو توجيه الاهتمام إلى موسيقات الشعوب الأخرى الأسبق في سلم الحضارة.. وأعتقد أن هناك تطوراً ممكنا ً في هذا المجال .. ولكن جل ما أخشاه هو أننا عندما سنكون قادرين على هذا .. ستكون الموسيقى التي يمكن لها أن تقوم بهذا الدور قد غابت للأبد من حياة مجتمعها…عبر غياب الاهتمام العام بها ..
من هنا تأتي اهتماماتي في القرن القادم متشعبة في اتجاهين .. تطوير نظام معلومات الموسيقى العربية الذي وضعته ..و متابعة نشر أعمالي عبر القنوات التلفزيونية العربية و متابعة تحليل وتوثيق ونشر الموسيقى العربية الأصيلة عبر أحدث الطرق الحاسوبية وعبر شبكة الانترنت في سعي لشرح مواقع الإبداع فيها بالأساليب الحديثة ..تمهيداً لوضعها كوثائق حقيقية في خدمة مبدعي القرن القادم.. إضافة إلى متابعة عملي في السعي عبر التلفزيون لتبيان دور تكنولوجيا المعلومات في تطوير المجتمع في جميع المجالات وبخاصة في الحفاظ على التراث الثقافي العربي .
وهنا قد يخطر بالبال أن لكل فترة زمنية موسيقاها ظاهرياً مما يستدعي التوقف عن توثيق أو تحليل التراث الموسيقي العربي ..فمما لاشك فيه أن الأعمال الغنائية والموسيقية تأثرت بالمدلولات الثقافية والاجتماعية والحضارية المحيطة.. بل وتأثرت بالتقنيات التي رافقتها.. فالأغنية السينمائية مختلفة في عناصرها عن الأغنية الإذاعية أو الأغنية على المسرح.. وأغاني المرحلة الرومانسية مختلفة عن أغاني المرحلة الواقعية.. ولكن أليس هذا يصح في كل الفنون.. ومع ذلك لوحات بيكاسو تبقى غالية وكذلك مونيه رائد الإنطباعية ورمبرانت.. مهما اختلفت الفترة التي تعود إليها هذه الأعمال وحتى الموناليزا.. ألا تحتفظ بسحرها مع أن مدارس عديدة ظهرت بعدها.. لاشك أن لكل فترة نتاجها الموسيقي ولكن.. في ضمير كل إنسان حي.. تختزل الفترات جميعها.. فالإنسان الحي يختزل بوجوده..وبذاكرته الحية .. حقب التاريخ مجتمعة..