د. سعد الله آغا القلعة ومحاولته للخروج من مأزق الموسيقا العربية عبر تطوير أساسها المقامي!

شعار كتاب الأغاني الثاني

دمشق: غالية قباني     صحيفة الوطن 19/7/1993

عندما دعي د. سعد الله آغا القلعة إلى القاهرة للمشاركة في المؤتمر الدولي للموسيقا العربية المنعقد في أواخر العام الماضي، حمل معه نظرية جديدة تفتح أمام المؤلف الموسيقي العربي آفاقا واسعة لتحقيق طموحه في التعبير عن عصره، أسماها نظرية الأجناس المتداخلة  . تركز النظرية على تطوير الأساس المقامي للموسيقا العربية.

والباحث آغا القلعة أستاذ في كلية الهندسة المدنية ، ومتخصص في الموسيقا العربية ، قدم العديد من البرامج التلفزيونية التي ترفع من ذائقة المشاهد الفنية، وتغني معلوماته. وقد اختار هـذا الباحث منهج من سبقه من علماء المسلمين في الموسيقا، الذين تخصصوا في مجالات أربع هي الهندسة،الفلك،الرياضيات والموسيقا،راغباً في أن يمد الجسور بينها ، واكتشاف القواعد المشتركة التي كان يبحث عنها العلماء ويستفيدون منها في وضع رؤية جديدة تحاول أن تفسر لهم ما يحيط بهم.

إذن في محاولته لتجديد الأسلوب الموسوعي القديم ، مستفيداً من معرفته في مجالين مختلفين: العلم والفن / كانت هذه النظرية التي تسعى لمواكبة العصر ومحاولة نفخ الروح في الموسيقا العربية التي تراوح مكانها منذ زمن.

ومفهوم الحداثة كما يفهمه د. سعد الله آغا القلعة يتلخص في تفكيك عناصر الموضوع، من فن أو علم ، واستعادة عناصره كما هي ، وإعادة تركيبها من جديد تركيباً حديثاً يتواصل مع ما قبله، فالفن الحقيقي يستند إلى ما قبله، إذ لا يمكن التفكير باستخدام فن من الفراغ من عناصر يبتدعها ويركبها، بل من عناصر تآلف معها المتلقي.

التوجه نحو نظرية كهذه يعني إحساس الباحث بوجود مأزق وقعت فيه الموسيقا العربية.. يؤكد محدثنا على هذه النقطة قائلا:

إن الموسيقا العربية وقعت في مأزق ناتج عن تطور البيئة العربية. وعلى الفنان المعاصر عندما يريد أن يؤلف أن يعكس بيئته ومشاعره في تلك اللحظة على العمل المنجز، لكن الفنان العربي لو أراد ذلك فإنه بحاجة إلى أدوات، وأدواته تتوزع على المقامات الموسيقية والإيقاعات المتوفرة التي درست ونفذت في الماضي،وكانت ملائمة لبيئتها. فمقام “الصبا” الشهير معروف عنه أنه مقام حزين لكنه لا يعبر عن حزن الإنسان في القرن العشرين، الذي صار حزنه أكثر تركيباً : قلق وشعور بالوحدة والخوف، وهي مشاعر كانت موجودة، إنما ليس بهذا الزخم الذي يعيشه إنسان القرن العشرين، الذي يحيا في علب كبريتية وأبنية إسمنتية انعزالية ، مع تفكك الأسرة وسيادة حالة الانعزالية،فالجار لا يعرف جاره.

وإن لم يجد المتلقي في موسيقاه ما يعبر عن هذه المشاعر سيبحث عنها في عوالم موسيقية أخرى.

وهذه هي أزمة مثقفينا اليوم كما يراها د. سعد الله القلعة ، فيقول أنهم يستمعون إلى بيتهوفن وموزارت ، هاجرين موسيقاهم، لأنهم ما عادوا يجدون فيها التعبير عن كل معاناتهم، مع أن وظائف الموسيقا أساساً هي في التعبير عن المجتمع.

أدوات قاصرة

وإذا كانت أدوات الموسيقا لا تساعد على التعبير عن هذه العواطف المعاصرة، فماذا يفعل الموسيقي الدارس الذي يسعى لأن يكون رائداً في التجريب ، وما هي الإمكانات المتاحة هنا،.. الذي يحصل أن كثيرين يدرسون الموسيقا الغربية، ويأتون ليطبقوها على الموسيقى العربية، لكن ما يحصل أن أساليب لغتنا الموسيقية مختلفة، فيضطر البعض إلى التنظير لصالح الموسيقا الأخرى، بالدعوة إلى إلغاء ربع الصوت والمقامات الموسيقية، والعزف على الموسيقا الغربية لتعبر بها عن مشاعرنا .

هذه نظرة خاطئة وطريقها مسدود، لأنه يعني التخلي عن ملامح الشخصية القومية، بحجة أنها معبرة أكثر في أدائها، ثم أن نفس هذه العناصر التي نأخذها من الغرب لم تعد ضمن حداثة هذا الغرب.

لكن طالما أنه لا توجد أداة جديدة في موسيقانا، فنحن محكومون بهذا الخطر: تقليد الآخر والتخلي عن لغتنا الموسيقية ، وهكذا يبدأ مأزق الموسيقا العربية، في أن ملحنها الجديد ، إما أنه يقلد القديم، وإما أنه لا توجد لديه أدوات تفتح أمامه أفاقاً جديدة ليقدم الموسيقا الراقية المعبرة عن معاناة الإنسان العربي المعاصر ،انطلاقاً من عناصر أحبها وعاشت معه في بيئته ،من هنا تأتي نظرية الأجناس المتداخلة التي نتحدث عنها غداً.

دمشق: غالية قباني     صحيفة الوطن 20/7/1993

  • ماذا تقول هذه النظرية تماماً ؟

يحاول د . آغا القلعة أن يلخص النظرية بلغة مبسطة يفهمها القارىء العادي، تاركاً للمختصين بحثه الذي يعج بمصطلحات دقيقة يصعب علينا فهمها:

هي تفكيك الموسيقا  العربية إلى عناصرها  الأولية ، ثم السعي لتوليد تركيبات جديدة منها، وأنا أضع لا نهايات لهذه  التركيبات في الحاسب الالكتروني، ولا اطرح أبداً تكسير الموسيقا العربية. البحث في 70% منه ، عبارة عن إعطاء تسلل تاريخي لتطور اللغة الموسيقية العربية حتى عام 1993، كيف تطورت على يد الفارابي وابن سينا والكندي الخ.. إلى أن نصل إلى المدرسة السورية وعمر البطش وأبي خليل القباني، ثم إلى مصر حيث عبده الحامولي وزكريا أحمد، كيف تطورت  الموسيقا على أيديهم، بعفوية دون منهجية محددة، لأنهم تعاملوا معها بحس فطري إبداعي ، يقوم على تفكيك الموسيقا وإعادة بنائها، فقد تأثروا بالفنون الأخرى والآداب التي طرأ عليها الكثير من التعديل ، فما كتبه الجاحظ وابن عبد ربه “العقد الفريد” وغيرهم، قدم كتابة نثرية مختلفة في شكلها عما كان سائداً من أشكال النثر.. كل ذلك لن يكون منفصلاً عن عوالم الموسيقا..

وصل الباحث إلى لب نظريته بقوله:

أطرح أسلوبا للتجريب لا نهائي الإمكانات، وأقول للمؤلفين الموسيقيين أنها ستفتح لهم مجالاً للأصالة، لقد عرضت النظرية في مصر وعزفت على “القانون ” على تركيبات مقامية لم تكن معروفة في الموسيقا العربية، وسمعت تعليقات من الحضور تقول أنها موسيقا “مودرن ” وسألت إن كانوا أحسوا أنها غريبة فاتفقوا على أنها عربية لأنها استندت إلى الخلايا النغمية في هذه الموسيقا، وقد علقت د. سمحة الخولي وكانت رئيسة اللجنة التعليمية بعد سماعها للعزف أن زوجها الراحل جمال عبد الرحيم ، وهو مؤلف موسيقي في الحداثة كان يسير في نفس الخط  التجريبي، لكن ” لعله لم يكن قد وضع منهجاً إنما نفذ ذلك بحسه فقط .

النظرية التي يطرحها الباحث هنا مفتوحة لكل راغب في التجريب الموسيقي، مهما تركبت انفعالات الإنسان المعاصر.

قدمت ورقة أخرى بعنوان الحاسوب والموسيقا ، تحدثت فيها عن الإمكانات المتوفرة لهذا  الجهاز في المجالات المتعددة وذكرت أمثلة على تحسين صوت المطرب.. ألا تعتقد أن هذه الإمكانية ستفتح المجال بشكل أكبر لكل ذي موهبة وصوت متواضعين؟

– تحدثت عن إمكانيات الحاسب الآلي ، وما يمكن الاستفادة منه ، وأشرت إلى بعض الإمكانات التي نحن في غنى عنها مثل تحسين صوت مطرب، إذ يقوم الحاسب عبر المحلل الصوتي بتحليل الصوت إلى مركباته الأولية ليرى الضعيف منها فيسد هذه الثغرة بإعادة تركيب الصوت من جديد.

هذه الإمكانية التقنية استفاد منها من يدعون الطرب، إذ يظهر صوت الواحد منهم وكأنه مجموعة أصوات، وإذا استمعناه في حفلة يظهر العيب ، وللأسف أن غالبية هؤلاء محسوبين على الأغنية الشبابية، الذين لا يملكون القدرة على اجتذاب الآذان، هذا يسمى تزييفاً ،وأنا مع أن الصوت البشري أجمل آلة موسيقية.

الموسيقا يجب أن تبقى كما كانت قبل آلاف السنين ، ذات حس إنساني وذات أصالة طبيعية، لست مع الموسيقا الإلكترونية،لكن قد تكون التقنيات الحديثة موصل جيد للصوت، على سبيل المثال كان صوت الشيخ محمد رفعت في منتهى السحر والجمال، لكنه ضعيف،هنا ساهم الميكروفون في إيصاله لنا، والأسطوانة سجلته، والكومباكت يوصله اكثر نقاء،إذن هذه تقنية تعين الفن لكن لن تكون أبداً بديلاً للفن.

يذكر أن د. سعد الله آغا القلعة انتهى مؤخراً من إنجاز ثلاث عشرة ساعة تلفزيونية لخصت مسيرة الفن في مصر ، من خلال محور عبد الوهاب ، وقد عرض البرنامج في عدة قنوات عربية في ذكرى رحيل هذا الفنان العظيم، وقد استفاد الباحث من الحاسب الآلي في إنجاز برنامجه.

يتحدث هنا عن هذه التجربة:

البرنامج نفذ بأسلوب تجريبي جديد في مجال تقديم البرامج الموسيقية،يختلف عن كل ما قدمته سابقاً ومجمله 13 ساعة تلفزيونية.

أما أهم ملامح البرنامج فيجملها قائلاً:

قمت ببناء قاعدة معطيات خاصة بالأستاذ عبد الوهاب ، من أحداث ووقائع معروفة ، كلمات الأغاني ومقاماتها ، بالإضافة إلى أنني استمتعت إلى كل أعماله مسجلة وحللتها موسيقياً ، حسب توافق اللحن مع المعنى، كيف نفذ المقامات وانتقل من مقام لآخر، عملت على قاعدة المعلومات مدة سنة كاملة ، دونت فيها كل ما له علاقة بعبد الوهاب، لكن سرعان ما وجدت أنني لا أستطيع أن أفعل ذلك دون أن أبني قاعدة معلومات لأم كلثوم “لأنهما كانا قطبين يتربعان على القمة، ثم رأيت أن عبد الوهاب تأثر بسيد درويش ، فبنيت قاعدة لسيد درويش، وكان يتضاد مع فريد الأطرش، وقد اختار عبد الحليم لهذا التنافس ، فأنجزت قاعدة معلومات لكل منهما ، ولأن عبد الوهاب كان سباقاً في تلقي التكنولوجيا ، إذ استغل الإذاعة في بدايتها ، واستغل الأسطوانة في ذات الوقت الذي كان صوته قد ضعف، وعندما لاحظ أنه ضمن الإمكانات المتداولة أن تعزف الفرقة الأغنية ثم يضاف صوت المطرب إلى اللحن، فعل هو العكس فأضاف الفرقة إلى صوت المسجل قبل خمس عشرة سنة. وكانت أغنية”من غير ليه “ليس بصوت عبد الوهاب ابن التسعين سنة ، بل ابن الخامسة والسبعين ، عندما قرر أن يعطي الأغنية لعبد الحليم لكنه رحل قبل أن يغنيها.

إن التطور الموسيقي وإمكانيات الحاسب الآلي ستشمل مستقبلا أن نستمع إلى أغنية بصوت مغنٍ ما  لم يغنها قبلاً.. إنجازات هذا الجهاز حالياً ، أنه بإمكاني إدخال عزف ما لعازف مشهور، ثم أعطي الحاسب تدويناً موسيقياً ما فيدمج التدوين مع العزف، ثم نسمع المقطوعة وكأن العازف  نفسه قد عزفها ، وما حصل أن الكمبيوتر حلل أسلوبه في العزف، ودمجه بتدوين موسيقي لمعزوفة أخرى.

  • هذا الإنجاز وغيره سيشجع على الكسل؟

– ونستنج أن التقنية دائماً مثيرة للكسل والخمول، لكن علينا أن نحسن استخدامها.

أعود إلى الإنجازات التقنية والأستاذ عبد الوهاب، تقريباً سنسمع آهات بصوت عبد الوهاب في الثلاثينيات، ولكنه لم يغنها فعلاً، إنجاز الحاسب لم يتعد الآهات، والصعوبة لا تزال في الصوت البشري، فمشكلة اللفظ واللغة لم تحل بعد، وقد قلت في البرنامج لو أن عبد الوهاب عاش سنوات أخرى،  كان سيسمعنا من غير ليه بصوته الشاب لأنه أول من يستقبل التقنيات.

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading