د. سعد الله آغا القلعة: لا بد لكل موسيقي من التسلح بالعلم والثقافة ولا بد من توفير الحماية لحقوق المؤلفين والملحنين

حوار :  نضال بشاره

البعث – العدد 8677 تاريخ 25/10/1991

هل أغنيتنا،راكضة نحو المستنقع الذي لا خروج منه؟

هل ثمة من يدفع الريح عنها، ويغريها باعتلاء صهوة جواد أصيل كي تتكسر كل الأغاني الفخارية ولا يتبقى إلا الأغاني المغتسلة بالمطر.

هل الأغنية كالطفل ؟

لنفترض أن طفلاً يتألم تربية وتوجيهاً من أبويه ولم يدخل مدرسة. أي أنه بقي دون ضوابط، هكذا يلعب في الشارع، ماذا يكوني مصيره مستقبلاً…؟

فهل الأغنية بحاجة لضوابط مثلاً لئلا يكون مصيرها كذلك الطفل.

هل تلزم الأغنية صاحب كلماتها وملحنها ومطربها أن يتسلحوا بالعلم والثقافة لإعطاء أغنية جيدة ورائعة …

بهذا الهم نتوجه للدكتور سعد الله آغا القلعة لنرى ما هي الأسباب الحقيقية وراء هبوط الأغنية العربية برأيه. والدكتور سعد الله رغم أنه يحمل الدكتوراه في الهندسة المدنية إلا أنه من الباحثين المهمين في الموسيقا العربية و خاصة عبر برنامجه التلفزيوني الأسبوعي / العرب والموسيقا/

** هل لك دكتور أن تحدثنا في البداية عن عناصر العمل الغنائي؟

كل عمل غنائي فيه عدد من العناصر وهي:

النص- اللحن- الأداء- التوظيف- وسائل الاتصال-  والإيصال والجمهور…

أي أن الأغنية العربية تستند إلى تلك العناصر كلها، فإن هبط عنصر منها أثر على مستوى العمل الغنائي. وإن ضعفت عدة عناصر كان الهبوط تاماً، لذا لابد من التحليل ، للوصول إلى الأسباب الحقيقية لما نلاحظه في الأغنية العربية المعاصرة.

** هل ثمة جمود في نص الأغنية أم أن هناك تطوراً حدث لها ؟..

“كان النص ضعيفاً في غالب الأحيان، فالأغنية التي وصلت إلينا هي وليدة عصور الإنحطاط، حيث كانت الأهمية المطلقة للحن، وهناك طبعاً حالات نادرة لقوة الشعر المغنى نلاحظها ابتداء من النصف الأول من القرن العشرين. عندما دخل شعراء كبار مجال الكتابة للأغنية، أذكر منهم: أحمد شوقي-أحمد رامي/ من مصر/ وما لحن من نظم عمر أبو ريشة ونزار قباني/ من سورية/.

ولكن يبدو أن نص الأغنية لم. يتطور مع التطور الذي حدث في بنية المجتمع العربي الثقافية والاجتماعية، وكأنما شعراء الأغنية التقليديون بقوا في جوهم السابق. لم ينتبهوا إلى تغير المكانة الاجتماعية للمرأة مثلاً، ولا إلى العواطف المركبة التي يحس بها الإنسان العربي في القرن العشرين ، بعيداً عن العواطف البسيطة التي حفلت لها القرون السابقة. فبينما كان الحب أو الحزن عواطف القرون الماضية، فقد إضيفت إليها عواطف مستجدة، كالقلق والمعاناة والشعور بالوحدة والعزلة أو الإحباط أو حتى التفاؤل والأمل ، من جهة ، والثورة ورفض الظلم والاستعمار والسعي للحرية، من جهة أخرى.

هذه كلها أضحت عواطف جديدة،  لم يحاول نص الأغنية أن يعبر عنها، وطبعاً أشير هنا إلى بعض من عملوا في مجال النص باتجاه الأغنية الملتزمة، فأقول أن النص عندهم كان أحياناً قوياً معبراً، ولكن اللحن كان غالباً، غريباً عن النص.

** ماذا عن اللحن وماهيته وهل استطاع الملحنون العرب الاستفادة من موسيقا الغرب؟

اللحن كان جميلاً في الفترة السابقة، حيث الجملة اللحنية متميزة أصيلة،  بسبب الثقافة الموسيقية العالية عند ملحني الجيل الماضي. فالنغمات الموسيقية وإبراز شخصيتها وتنوع الإيقاعات وتركيباتها المعقدة، و التطابق بين سير الجملة اللحنية ولفظ الحروف في النص، كل هذا كان يعطينا لحناً رائعاً. كانت تركيبة اللحن الموصوفة  مع النص الضعيف مقبولة ضمن الإطار الثقافي والاجتماعي المرتبط بتلك المرحلة زمنياً.
اليوم ضعف اللحن لأن الثقافة الموسيقية لملحني اليوم في أصول الموسيقى العربية وقواعدها لم تعد بنفس القوة. حاولوا تعويضها بالاستعارة من موسيقا الغرب ولكنهم في استعارتهم لم يدرسوا موسيقا الغرب، فلم يحسنوا الدمج، كما أحسنه ملحنون كبار أحسنوا توليف الجملة اللحنية الغربية مع الجملة الشرقية بذوق واضح، كالرحابنة الذين تألقوا في هذا ، وأيضا محمد عبد الوهاب الذي افتتح هذا الطريق بذكاء ، حيث دمج قوة اللحن بقوة صوته معتمداً على نص شعري قوي وأيضا الأعمال التي قدمتها كوكب الشرق أم كلثوم وفريد الأطرش.

** ما هي أنواع الأداء الذي ارتبطت به الأغنية العربية وماذا عن بقية عناصر العمل الغنائي …؟

للأداء في الغناء العربي أنواع هناك الأداء القوي القادر  والأداء المعبر..

الأداء القادر كان شائعاً قبل ظهور الميكرفون، عندما لم تكن أهمية لفهم النص. بعد ظهور الميكرفون أمكن ظهور الأصوات التعبيرية.

الأداء القديم يعتمد على الارتجال، فالمطرب يغني القصيدة مرتجلاً لمدة طويلة، ومع ضعف ثقافة المطربين حالياً وتراجع قدراتهم الصوتية والمعرفية ، غاب الارتجال ففقدنا قيمة غنية في الغناء العربي. كما أن الأداء ارتبط عند من درسوا التجويد، بحسن لفظ الحروف ومراعاة إيقاعاته أما المطربون الذين دخلوا ساحة الغناء دون دراسة، فإنك لا تفهم ماذا يغنون. إضافة إلى ضعف النص الذي تعتمد عليه الأغنية.

الجمهور قديماً كان يبذل جهداً كي يستمع إلى الغناء، قبل وجود الأسطوانة والإذاعة. كان عليه أن يترنم بالغناء، وذلك يستدعي ثقافة موسيقية متوسطة، أو أن يذهب لمنزل فيه حفل غنائي بدون تكبير للصوت، ولذا عليه أن يصغي باهتمام ليستمع. أما اليوم أصبح بالإمكان أن تستمع بالبيت لما تريد دون جهد، مشاركاً السمع بالأكل والشرب والكلام، طالما أنك تستطيع رفع درجة علو الصوت إلى نسب عالية..

ودخلنا حمى الاستهلاك، فالمجتمع الاستهلاكي يبحث يومياً عن جديد ، فكثر الطلب أي أن الكم هو المطلوب ، وبالتالي لابد أن يتراجع النوع. وتم توظيف الغناء في المطاعم، وذلك يتطلب نوعاً معيناً من الألحان والكلام والأداء المرافق للرقص. فضمن هذا الصخب لا يفهم لا نص ولا تتضح معالم اللحن ، ولا يمكن تمييز حلاوة صوت ، فيغدو ذلك ضجيجاً لا أكثر.

** هل يفهم من حديثك أن وراء هذا الهبوط الوضع الاقتصادي لمجتمعنا العربي.. أم ماذا ؟..

أعتقد أنه سبب من الأسباب، فإذا نظرنا إلى شعوب الغرب الذين يعيشون في ترف، نرى مشابها للهابط عندنا في غنائهم. وهذا الغناء الصاخب يلائم سناً معينة ” فترات المراهقة ” لذلك فهو موجود عند جميع الشعوب.. ولكن الفرق أنه عندهم يشكل نسبة ما بيين مجمل أعمالهم الموسيقية والغنائية، بينما عندنا طغى فلم يعد هناك إلا هذا النوع، وهنا أساس المشكلة.

وهذا ما يبرر أن الإنسان عندما تتقدم به السن، يهرب من الغناء ،ويعود للتراث الفني القديم ليشبع حاجاته الجمالية.

** ما هي مقترحاتك… على المستوى المؤسساتي لتحسين واقع الأغنية العربية؟…

1 – أول مؤسسة ذات وجود حيوي ستكون بالطبع المعهد العالي للموسيقى، الذي يتضمن المواهب المبدعة ويسلحها بالعلم والفن والمعرفة، لأنه لا يمكن لعمل موسيقي معاصر أن يعيش، ما لم يكن صاحبه متسماً بالعلم والثقافة. لكن شريطة ألا يتجه  كما هو  شائع إلى أن الثقافة الموسيقية هي موسيقى الغرب، فالمعهد عليه أن يخرج موسيقيين عرب، محبين لموسيقاهم ودارسين ومطلعين على موسيقى الغرب، لينتجوا أعمالاً تتعايش مع متطلبات الإنسان المعاصر، ويكونوا على صلة بموسيقات العالم المنوعة.

2 –  وجود مؤسسة لحماية حقوق الملحن والمؤلف، لأنها ضمان لحق الملحن يعوض له عن أعماله كلما طبعت على شريط أو بثها التلفزيون أو الإذاعة، وذلك يجعله يفكر أكثر في أن يقدم أعمالاً متألقة ، ليضمن استمرارية حياة  عمله الموسيقي.

3 –  وجود لجان استماع تقيم فعلاً الأعمال الغنائية ، تسمح لما هو مقبول على الأقل ، وتمنع الهابط.

4 – أن تدعم الدولة الفرق التجريبية التي تسعى لتقديم الجديد في الموسيقى والغناء، أو الفرق المتخصصة في التراث ، وذلك بإعانات مادية سنوية ، شريطة أن تقدم هذه الفرق حفلات دورية على مسارح الدولة ، فنخلق توظيفاً جديداً للفن الموسيقي ، بعيداً عن التوظيفات السائدة . ويرتبط استمرار الإعانات بالمستوى الفني للأعمال المقدمة.

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading