الاتحاد الثقافي 23 أكتوبر 97
حوار: علي الأحمد
من برنامجه الشهير (العرب والموسيقى)، مروراً بتوثيق حياة وفن محمد عبد الوهاب وأسمهان، وصولاً إلى(نهج الأغاني) الذي يعرض حالياً في أغلب المحطات العربية، حاول الباحث الموسيقي الدكتور سعد الله آغا القلعة، وبإخلاص مشهود أن يوثق ويؤرخ لمرحلة فنية في غاية الأهمية والعمق، كان لها دورها المؤثر في تطوير الفكر الموسيقي العربي وإغنائه بكل ما هو جميل وأصيل.
ومن هنا يمكننا اعتبار د. القلعة من أهم علماء الموسيقى العرب في العصر الحديث، الذين يرسمون لوحة مشرقة للإبداع الموسيقي العربي في كل اتجاهاته، فمن التأريخ، إلى تحليل وتفكيك الأعمال الموسيقية وتوثيقها، وصولاً إلى إبداعه الخلاق في فن الارتجال الموسيقي والعزف البديع على آلة القانون، كل ذلك جعل من هذا الباحث موسوعة فنية ، ساهمت وبفاعلية مؤثرة في إبراز المكامن الجمالية والقييم التعبيرية التي يكتنزها الفن الموسيقي العربي الأصيل عبر تاريخه الطويل. التقيناه وكان هذا الحوار:
■لنبدأ حوارنا معك، بسؤال يتعلق ببرنامج- نهج الأغاني- الذي يعرض في العديد من المحطات العربية ونسألك هنا عن كيفية اختيار الأعمال المقدمة، وهل هناك صعوبات وعوائق واجهـتك في إعداد هذا البرنامج الضخم؟
- ● هو عمل ضخم بالفعل، استغرق مني حوالي 12 عاماً قضيتها في إدخال الكثير من المعلومات إلى الحاسوب، وهو ما ساعدني في إعداد هذا البرنامج كون المعلومات أصبحت جاهزة وقابلة للاستثمار الآني. لكنني واجهـت بعض المعوقات أثناء الإعداد، وكمثال على ذلك تغير التقنيات الحاسوبية بشكل مستمر، وهو ما جعلني أعيد إدخال بعض المعلومات لأن الحواسيب الجديدة لم تعد تقرأ البيانات القديمة، وهو ما سبب لي الكثير من المتاعب. أما الصعوبات الأخرى فتتمثل بصعوبة الحصول على المصادر والوثائق اللازمة لإغناء هذا البرنامج، من كتب ودراسات وصحف وتسجيلات قديمة من الفترة نفسهـا التي نوثق لهـا. أما عن اختيار الأعمال، فأنا أقوم بعملية بحث أمام المشاهد وبمشاركته إضافة إلى اعتمادي على الترشيحات العديدة التي تصلني من الكثيرين المهتمين بهـذا الفن وبالفعل وصلني الكثير منهـا.
■ نعرف أنه أثناء وجودكم في فرنسا للتخصص العلمي قدمتم عدة أبحاث موسيقية تتعلق بالعلاقة بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية قبل (باخ)، نود أن توضحوا لنا ولو بإيجاز هذه العلاقة ومدى أهميتها. ..
- ● في الواقع، قبل (باخ) كان المشترك مع الموسيقى العربية أو التقارب مع الموسيقى العربية في مجال المقامات أو السلم الموسيقي العربي والسلم الموسيقي الطبيعي الذي كان موجوداً ومتداولاً. فبالنسبة للأبحاث، التي قمت بها، فقد كان هناك مجموعة من الباحثين والموسيقيين العاملين في مجال الموسيقى ما قبل عصر (باخ) وكانت لديهـم تدوينات موسيقية لألحان تعود إلى فترة ما قبل هذا الموسيقار العظيم ، ولكنها مدونة حسب السلم المعدل أي موضوع الأرباع أو ما يسمى- بالأرباع- (هي طبعاً ليست أرباعاً تماماً) غير واردة في التدوين، فكان دوري أن أقوم بالاستماع إلى هذه الألحان وأقرر من خلال الخبرة والمعرفة في الموسيقى العربية ومن خلال سير اللحن ما هو المقام الموسيقى في السلم الطبيعي الذي يقترب من إبراز شخصية هذا اللحن. وكان هناك عازفون يعزفون على آلات موسيقية لما قبل (باخ) وكانوا ينفذون هذه الأرباع وكأنهم يكتشفون تراثهم من جديد.
■ لكن الإحساس بالربع صوت وبمزاجه كان ينقصهـم على ما أعتقد؟
- ● نعم هذا صحيح، لكنه كان يتكون بالتدريج مثل من افتقد شيئاً عزيزاً في تراثه، ويريد أن يستعيده، وكان عندهم الإرادة في أن يعودوا إلى تحسس هذا النوع من الموسيقى.
■ د. سعد الله.. كيف ترى الطريقة المثلى لجمع وتصنيف ونشر التراث الشعبي الغنائي؟
- ● لابد أولاً من إجراءات فاعلة، ولابد من تحديد مؤسسات.. يعني إيكال الأمر إلى مؤسسة. أنا في الحقيقة قمت بمشروع كتاب الأغاني الثاني وهو عمل كما تعلم يحتاج إلى جهد مؤسسة كاملة. وليس دائماً من الممكن أن يقوم فرد بعمل كبير. المهـم في رأيي إيكال المواضيع مثل مسح الموسيقى الشعبية إلى مؤسسات متخصصة.
■ تقصد المعاهد العليا للموسيقى؟
- ● قبل ذلك، يجب أن تتوفر الرغبة الصادقة في مثل هذه المواضيع، وعند توفرها لابد من تشكيل الكوادر وتأهيلهـا وتجهيزها ببعض التجهـيزات الصوتية ، وأن يكون هناك إمكانيات للتدوين، ويجب أن يقسم كل قطر عربي إلى مناطق، ويوكل إلى كل منطقة باحث أو أكثر، وهذا الباحث يزود بجهاز تسجيل ومؤهل في مجال التدوين المباشر من الاستماع، ثم يجب أن يكون مؤهلاً في المقامات والآلات الموسيقية مسبقاً، والإيقاعات والنصوص، يجب أن يدرس أشكال النصوص الشعبية، وأن يكون مؤهلاً لأن يلتقط أين هو العمل الهام وأين هو العمل الأقل أهمية، لكي يثري عملية التصنيف هذه.. يعني أول عملية بعد أن يجري التسجيل والتدوين، أن يقوم بعملية تصنيف هذه الأعمال حسب المواضيع، وهنا الحاسوب يقوم بدور هام جداً في إمكانيات التصنيف حسب النصوص، حسب العواطف، حسب القوالب الشعرية، أو القوالب الموسيقية. ثم هناك عملية استقراء من هذا الكم ، لابد من عملية استقراء للخلايا الأساسية المكونة لهذا الإبداع، وطبعاً تبدأ عملية مقارنة بين هذا القطر العربي والقطر العربي الآخر، في محاولة استقراء القاسم المشترك في هذه الخلايا الأساسية ، ما يعني أنه عمل طويل وشاق. هناك بعض الأقطار تقوم بهذا العمل وأقطار بحاجة إلى تنشيط، هناك أقطار تقوم بالتوثيق وتصدر سنوياً نتائج البحث وأقطار غير مهتمة أو غير منتبهـة، لأن أي تطور أو إبداع لاحق يجب أن يكون مرتبطاً بجذوره فإن لم نقدم هذه، الجذور إلى المبدعين المعاصرين فسيبدؤون بالالتصاق بجذور مستوردة، وهنا نفقد التواصل بين الأجيال.
■ننتقل معك د. سعد إلى موضوع آخر يتعلق ” بالعلاقة بين الآثار والتأريخ الموسيقي…كيف تقرأ في ملامح هذه العلاقة؟
- ● طبعاً الآثار هي وسيلة مهـمة جداً لفهم التطور، إن كان على مستوى الآلات الموسيقية وإن كان على مستوى الآثار المكتوبة كنصوص تشرح لنا السلم الموسيقي والمقام الموسيقي، المقامات الموسيقية التي كانت موجودة، تشرح لنا أحيانا (المزاج) وتأثير الموسيقى في الأساطير وهكذا.. فالآثار تسمح لنا في فهـم عميق، وتسد ثغرة في تطور الموسيقى وتوضح لنا دور هذه المنطقة حضارياً على المستوى الإنساني. وكمثال فأنت تعلم أنه تم اكتشاف أقدم لحن مكتوب؟ في سورية عبر لوحة طينية في (أوغاريت) عليهـا نص لنشيد عبادة وأمكن فهمها استناداً إلى لوحة أخرى اكتشفت في أور. هذا كله غير من أفكار كانت سائدة في أن السلم الموسيقى السباعي كان يونانياً، بينما نجد هنا في هذا الاكتشاف والذي يعود إلى قبل الفترة اليونانية، أن السلم الموسيقي الذي بني عليه هذا النشيد كان سلماً سباعياً ، يعني الآثار دائما تصحح لنا وتوضح وتحدد الدور الإنساني لمنطقة ما.
■ نعرف أنك تعمل ومنذ سنوات عديدة على موضوع هام ألا وهو (العلاج بالموسيقى) إلى أين توصلت في أبحاثك هذه؟ وما الجديد في هذا الموضوع ؟
- ● كان همي دائماً أن أحاول أن أركب النظرية الموسيقية العربية في موضوع المعالجة بالموسيقى، وهذا لم يكن سهلاً أبداً، لأن لكل باحث أسلوبه الذي لا يفصح عنه ، ولكنني وعبر مجموعة من الكتب والأبحاث، استطعت أن أرصد العلاقة الوثيقة بين الموسيقى والعلاج بأنغامها ، وهي أهم خطوة في هذا الموضوع ، وهكذا اطلعت على أبحاث النظرية القديمة المتمثلة بأبحاث الفلاسفة الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم ممن مارس هذا النوع من العلاج بشكل أو بآخر معتمدين في ذلك على أبحاث وعلوم أخرى.
■ تقصد علوم الفلك؟
- ● بالطبع، الربط بالفلك، بالزمن، و الربط بالزمن ربط يتغير بتغيير درجة الحرارة، ربط بالمكونات في جسم الإنسان والوقت والمنطقة الجغرافية التي تجري فيهـا المعالجة، وقد استطعت بعد أبحاث مضنية أن أتوصل إلى تركيب شامل لهذا الموضوع ، وما زلت أبحث فيه ولم أنشر البحث لأنه لا يزال عندي بعض الثغرات في بعض النقاط غير الواضحة تماماً.
■ وهل حاولت تطبيق هذه النتائج بشكل عملي وعلى الواقع؟
- ● حاولت بالفعل أن أطبق بعض هذه النتائج باعتباري أيضاً موسيقياً، وقد جربت بعض النتائج على حالات خاصة من خلال تطبيق هذه النتائج في العزف على آلة القانون وعلى وجه التحديد في حالات الفصام، وساهمت إلى حد كبير في إعادة الحوار بين المريض والعالم والمجتمع عموماً، يعني أحرزنا بعض النجاح ولا يزال هنالك الكثير.
■ سؤالنا الأخير يتعلق بغناء بلاد الشام، هل لك أن تعطينا فكرة عن الخصوصية والتفرد في غناء هذه المنطقة؟
- ● طبعا أنا بحثت في موضوع غناء بلاد الشام لفترة طويلة، وحتى أنني وضعت خوارزمية في الحاسوب. هناك نوعان من الخوارزميات، خوارزمية تحليلية وخوارزمية تركيبية، الخوارزمية التحليلية هي إذا كان لديك ظاهرة فتحللها وتضع خوارزمية لتدفق المعلومات فيها وآلية المعالجة ، ثم هذه الخوارزمية إذا حولناها إلى خوارزمية تركيبية تسمح لك هذه الخوارزمية باكتشاف واستقراء المستقبل. فبالآلية نفسها وضعت خوارزمية لشكل تطور الغناء العربي في بلاد الشام، انطلاقاً من مجموعة العناصر التي أثرت فيه منذ مئات السنين. وكان دور بلاد الشام عبر الدراسات التي قمت بها هو اختزان الغناء الوارد أو الوافد من مختلف الأقطار العربية وغير العربية، بسبب موقعها الجغرافي وثم هضم هذا المخزون وبالتالي تفاعله محلياً عبر عناصر إبداعية محلية، مما ينتج عنه مختزن أو ناتج إبداعي جديد يعود فيتفاعل من جديد مع عناصر وافدة وهكذا. وسأعطيك مثالاً بسيطاً على ذلك، ولنأخذ الأدوار (أدوار محمد عثمان وعبده الحامولي وغيرهما) والتي لم تعد تغنى في مصر إلا حديثاً ، عندما شكلت فرق للموسيقى العربية، فتقدم هذه الأدوار بشكل جماعي ولم تعد تقدم بشكل فردي حتى الآن.. هذه الأدوار تقدم في سورية بشكلها الفردي وبأسلوبها القديم، كما لحنت لاحقاً أدوار على القالب المصري، ولكن لملحنين سوريين، وهذا يدل على أن سورية فيها اختزان حقيقي للإبداع الموسيقي الوافد. وهذا باختصار صور الإبداع الموسيقي في بلاد الشام الذي كان عبارة عن اختزان وتفاعل، تفكيك وإعادة تركيب لخلايا وافدة ومولدة محلياً في إبداع جديد.