لابد لأي عملية تسويق لمنتج جديد قيد التصنيع ، من أن تتدخل في مضمون العناصر المكونة للمنتج ، لتجعله ملائماً للسوق ومحفزاً للاستهلاك.. على أن تحقق تلك العملية التوازن الدقيق بين عنصري الإبداع و تحريض الاستهلاك ، في إطار عام تحكمه جودة المنتَج ، ويضمنه المنتِجُ ذو الذهنية المتفتحة ..
كانت الأسطوانة أول شكل من أشكال تصنيع الموسيقى ، واستطاعت تحقيق مبادئ التسويق الأساسية ، إذ أنها حفزت توثيق التراث الذي حفظته الأفئدة ، و حفزت الاستهلاك ، من خلال توفيرها ما كان يفتقده محبو الموسيقى منذ زمن طويل ، وهو إمكانية اقتناء العمل الموسيقي أو الغنائي ، وتكرار الاستماع إليه عدداً كبيراً من المرات ، في طقس للاستماع مختلف عن أجواء الحفلات العامة ، ما كان مستحيلاً قبلها ، كما أنها أمنت الانتشار ، حتى لدى شرائح لم تكن ظروف تقديم الغناء السائدة ، تسمح لها بمتابعته ، ما سمح للأسطوانة أن تجتذب الجمهور إلى تذوق الأعمال الموسيقية والغنائية ذات السوية العالية التي حملتها ، وصولاً إلى أنهاحفزت الإبداع في عالم الموسيقى ، نظراً لأنها خلقت السوق الذي يحتاج دائماً للجديد.
بالمقابل ، تدخلت الأسطوانة في صيغ المنتج الجديد ، بحكم قيودها التصنيعية ، التي ضغطت مدة العمل الموسيقي مثلاً ، ما استتبع مع الوقت إلغاء روح الارتجال .
لكن ، ماذا لو أن تقنية التسجيل لم تُخترع ؟ أما كان النتاج الموسيقي تعرض للغياب مع الوقت مثلما حصل مع كل ما وثق له كتاب الأغاني من ألحان ، و أغلب ما وثقت له سفينة الملك لشهاب الدين من موشحات ؟
ولو تتبعنا مسيرة الأسطوانة ، بغض النظر عن مجالات تصنيع الغناء الأخرى ، بحسبانها الرائدة بينها ، لوجدنا أنها استطاعت مع الوقت ، تطوير جودة التسجيل لتصل إلى مستويات عالية ، خاصة مع تطور تقنيات التصنيع وصولاً إلى الأقراص الليزرية ذات النقاء العالي .. ولكنها لم تستطع مقاومة ذهنية جديدة غلبت على عالم الإنتاج والتسويق ، أعطت الأولوية لعامل الاستهلاك ، على حساب عامل الإبداع ، حيث تم استبعاد ما لا يحقق الانتشار الواسع ، و الإبقاء على ما يضمن الربح ، ما أدى مع الوقت إلى الدخول في مساحات الابتذال..!
من هنا ، وبدلاً من أن نكتفي بتسجيل الواقع ، فإن أحد أهم القضايا المطروحة اليوم على عالم الموسيقى خاصة ، و على عالم الثقافة والفن عامة ، في ظل تراجع الاهتمام بالمظاهر الثقافية الحقيقية ، وسيطرة معايير الاستهلاك :
كيف نستفيد من تقانات العصر الجديدة لكي نوفر للثقافة و الفن سياسات تسويقية إبداعية ، تعيد التوازن لعناصر المنتج الموسيقي ذي القيمة الفنية ، و تجتذب ” المستهلك ” إليه .. دون أن يُبتذل؟